بديوان مبكر في تجارب كتابة قصيدة النثرصدر عام 1960بعنوان مكثف "لن" - أداة نفي من حرفين توجز الرفض و تعلن التمرد -، ظهر أنسي الحاج شعريا بعد نشر قصائده ومقالاته في مجلة (شعر) التي رافق ولادتها منذ عددها الأول شتاء1957، وضمّه تشكيل جماعتها التي سيعترف بمناسبة ذكراها مؤخرا بغياب أثره في الجماعة (كنتُ في ذلك الوقت على الهامش كعشبة غريبة) ولكن أثره سيظهر في مقدمة ( لن) التي حظيت بما لم يحظ به شعره نفسه من الاهتمام والمناقشة ، كونها البيان النظري الأول لمشروع قصيدة النثر، رغم سبق تمهيدات أدونيس ومقارباته في المجلة دفاعا عن قصيدة النثر وبسطاً لشعريتها.
المقدمة الشاردة من المتن
يتهيأ لي أن ما حصل مع مقدمة أنسي ل "لن" شبيه بمقدمة ابن خلدون لكتابه الضخم في التاريخ "كتاب العِبر .." فقد نُسي الكتاب وشُهرت المقدمة وظلت متداولة، مستقلة عنه، تقرأ منفصلة عن متن الكتاب.
وانفصال مقدمة "لن" ليس في اقتطاعها كتنظير مبكر لقصيدة النثر ضمن السياق التبشيري الذي جاءت به شعر: المجلة والجماعة، بل في ذهابها عميقا في مسوغات النثر في الشعر، ومحاولة التقعيد لها كشكل يستحق وصف أنسي له بأنه "نوع مستقل" كالرواية وقصيدة الوزن الحر.
لكن الحرية التي وسّعت قصيدة النثر أفقها تتطلب أن يلائم الشاعر صوته وموقفه ورؤيته معها، فهي بعبارات أنسي: قصيدة من عمل شاعر ملعون حر يخترع اللغة ويضيق بالعالم "النقي"، وهي بنت عائلة من المرضى بالحرية كان رامبو أولهم كما يعلن أنسي الحاج في المقدمة ذاتها،وينبهنا إلى ظلال رامبو وأثره في شعره، وفي قصيدته التي نعرضها هنا كونها تثير مشكلات فنية وموضوعية لا تزال على لائحة قراءة قصيدة النثر ونقدها، وبرنامج كتابتها قبل ذلك.. وتتوسل بالألوان ذات الدلالات المبتكرة بطريقة رامبو التي استشهد بها أنسي في المقدمة، واصفا لغته بأنها "تختصر كل شيء العطور والألوان والأصوات".
يعترف أنسي في أحد هوامش المقدمة بأن أدونيس هو أول من تناول موضوع ماهية قصيدة النثر بالعربية، لكن أنسي إذ يعرض كتاب سوزان برنار "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" يتورط في تلخيص جانب خلافي من أطروحتها هو الشروط التي وضعتها لقصيدة النثر والتي ينتقي منها أنسي ثلاثة هي : الإيجاز والتوهج والمجانية ويفهم منها الدعوة لكتابة قصيدة بلا مقابل لا تسعى إلى هدف، وقصيرة إذ لا يمكن للقصيدة أي قصيدة أن تكون طويلة لكي توفر عنصر الإشراق، كما تحمل صفتي الفوضى الهدامة والتنظيم الهندسي، وهذا واحد من تناقضات التنظير الذي سيتبناه أنسي ونراه في بنية قصائده فعلا، لكنه يهمل الشروط الأخرى في الديوان نفسه فتأتي قصائده طويلة أحيانا، كما يعود لكتابة القصيدة الطويلة في دواوينه اللاحقة "الرأس المقطوع" و"ماضي الأيام الآتية"، ويكتب قصيدة طويلة ينشرها في كتاب هي "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع".
تناقضات
في لقاء أجرته إذاعة مونت كارلو مع أنسي الحاج ضمن برنامج وجوه وأعادت جريدة القدس العربي نشره في "14-12-2001" يتضح ندم الشاعر على تحديده تلك الشروط لقصيدة النثر، ويتمنى لو أنه لم يحدد؛ ففي الشعر "لا شروط ولا قواعد، ولا معنى للمقاييس المسبقة" وهو ما قاله بكلمات أخرى في المقدمة ذاتها، ما أوحى بتناقض ليس وحيدا في أطروحات أنسي الحاج، بل يمكن أن نسجل بجانبه تناقض دعوته لأن تكون قصيدة النثر قصيرة، وتقديمه نصوصا طويلة في الديوان نفسه، وتبنيه لفكرة مزاوجة النظام والفوضى في قصيدة النثر، مثيرا القلق في إمكان تصور انضباط نصي وانتظام فيها تزاوجا مع الفوضى التي تتسم بها كونها تهدم وتنقض لتؤسس الجديد النوعي الذي جاءت به دون وزن وقافية وسطر مكتفية بالإيقاع والاسترسال والاتكاء على السرد الذي يشير أنسي مبكرا إلى ضرورة استضافته في النصوص المنتمية لقصيدة النثر،وبذا يقترح تناقضاً آخر بين السردي والشعري فيؤكد في المقدمة أن السرد والوصف و الاستطراد وإن كانت من أدوات النثر يمكن أن تتخلص من زمنيتها،وتصبح مجردة من وظائفها النثرية،وتعمل لغايات شعرية الاستطراد من شروط النثر،هذه الإشارة المبكرة في المقدمة سيطورها نقاد قصيدة النثر ويعتمدونها في مقاربتها وتحليلها ملفتين إلى الحس السردي والتعين في عناصرها البنائية، كما تحفل المقدمة بإشارات رائدة تسجل للشاعر كانتباهه للفرق بين القصيدة والشعر فالقصيدة عالم مستقل مكتف بنفسه، وهي في ظن انسي أصعب من الشعر مع نفسها؛ لأنها تعيد النظر في قوانينه فكأنه بنبهنا إلى ما يتعدل ويتغير من الشعرية عبر بنية القصيدة، وما قد استقر من مفاهيم الشعر، ويلفتنا كذلك للمؤثرات التي مهدت لكتابة قصيدة النثر كالترجمات عن الشعر الغربي، وبدايات الشعر المنثور والنثر الشعري، لكن أخطر ما في المقدمة سؤالها الاستهلالي: هل يمكن أن يخرج من النثر شعر؟ وهو سؤال يمر عله الآن نصف قرن لكنه يظل مشرعا للنقاش والتأمل، ويليه الانتباه إلى أن الموسيقى الخارجية "موسيقى الوزن والقافية" لا تصلح لشاعر عالمنا المتغير ذي الإحساس الجديد، فثمة أشياء سواها تزلزل القارئ الذي يعترض أنسي على وجوده كمتلق نسقي يمكن أن يفرز غوغائية عامة تدعمها أجواء الإرهاب والتعصب والخمول والقمع،وأنسي رغم عدم إشارته لبديل "إيقاعي" عن غياب الموسيقى الوزنية في قصيدة النثر وسكوته عن الإيقاع تماما، يلفت بإشاراته السريعة تلك إلى ضرورة فحص موسيقى أخرى تقترحها نصوص قصيدة النثر التي طالب خصومها بعدم تعجل موتها والحكم عليها،وهي لم يمض عليها في زمن كتابة المقدمة سوى عامين أو ثلاثة،غير منكر أن ثمة إسفافا و إدعاء بكتابتها عن جهل بها وإساءة إليها..وهو استباق آخر يحسب له وستعاني منه بعض النصوص المكتوبة تحت مسمى قصيدة النثر حتى اليوم.
الذهب والورد
تظهر مشاكسة أنسي الحاج للنسق الشعري التقليدي بدءا من عنوان القصيدة المكون من جملتين استفهاميتين يتصدرهما اسم الاستفهام "ماذا" ولكن دون أن يختمهما بعلامة استفهام، مثيرا تناقضا آخر بين الوظيفة النحوية لتركيب الاستفهام كسؤال، والوظيفة الشعرية له كدلالة متوسعة تخرج به إلى التقرير "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" لاسيما بتعاطف الجملتين دون رابط نحوي كالواو مثلا فيكون على القارئ تسلم نص متردد بين الإخبار والاستفهام الذي سيثبته أنسي في المتن حيث ترد الجملتان منتهيتين بعلامة السؤال، كما يثير العنوان تزاوج الذهب بالصناعة والورد بالفعل، وذلك يناسب معدن الذهب كصناعة مجتلبة، والورد كشيء طبيعي غير مصنوع، وما يتنزل عن ذلك التقابل بينهما من دلالة على زيف الأول وأصالة الثاني.
ان طول النص المكتوب المنشور عام 1970 في ديوان يحمل اسمه أيضا، يثير تناقض الدعوة لكتابة قصيدة نثر قصيرة وبين الاستطراد والتطويل والتداعيات اللغوية في هذا النص رغم أن أنسي سيتراجع عن شرط القصر ويتحفظ في لقاء الإذاعة عام 2001بالقول قصيرة نسبيا، ويمكن أن نقرأ القصيدة على أساس مقطعي أي نبحث عن تبدلات وتحولات في إيقاعها وخطابها بين سطوره وعبر نموها الحدثي فهي تستعين بالسرد وتخاطب جماعة غائبين منذ بيتها الأول: "قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت"، وبذا يواجه الفرد /الشاعر المخاطبين /الجماعة، ومن هذا التقابل تصنع القصيدة خطابها الذي ينطوي على حس تبشيري فكأن الشاعر يكرز ببشارة، أو يخطب في شعب من المؤمنين به والمترددين عن ذلك. وهذا ينقلنا إلى المؤثرات الدينية الواضحة في شعر أنسي رغم عدم تدينه بالمعنى النسقي، ومدنيته الواضحة في صوره ودلالاتها لكن لغته ذات إيحاءات إشراقية تستدعي لغة الكتاب المقدس، و لغة جبران في نثره الشعري كذلك، وبميزة التناقض تصطف المؤثرات المتباينة فنعثر على أصابع رامبو واضحة في النص وفي الجزء الأخير حيث يعتمد أنسي الألوان للتعبير عن رؤيته لعالم خيالي في بحثه عن إجابة لسؤال اذهب والورد، مشيرين هنا إلى ملاحظة أنسي لاحتفاء رامبو بالألوان والأصوات محيلا ذاكرتنا لنصوص معروفة لرامبو يظهر فيها الانزياح بنسبة اللون للكلمة والصوت للون، فيكتب أنسي مبكرا تداعيات متصلة تعتمد اللون فنجد في "لن" "كلمة سمراء ولغوا أشقر"، ولكن هذا النص المعروض للاستعادة هنا يؤسس لذاكرة لونية في خاتمته بالقول:" العالم أبيضاً أم المطر أبيض/الأصوات بيضاء / الحبر أبيض / قلبي أسود بالوحشة ونفسي حمراء / والكلمات بيضاء" وتنقلنا هذيانات النص الخيالية ورؤاه الحلمية إلى تخيل لون متولد عن نقيضه:(وكنت في ثياب لونها أبيض/لأنها كانت حمراء/ والثلج الذي أثلجت كان أحمر/ لأنك كنت بيضاء" وفي هذا التناقض اللوني تأكيد لميزة التناقض التي تسم لغة أنسي ورؤيته الشعرية،تماما كاصطفاف رامبو كمؤثر في لغته وصوره، وحضور نشيد الإنشاد بلغته الغزلية في قوله (مسترسلا في وصف حبيبته "جميلة كمعصية وجميلة/ جميلة كقمر الأغنية/ جميلة كأزهار تحت ندى العينين".
ولكن الفوضى الظاهرة في خطاب النص وتحوله من مخاطبة جماعة لخطاب امرأة ثم لمفرد مذكر لا يمنعنا من رؤية الدقة في اختيار الشاعر لكلماته ففي قوله "محبتكم صيف وحبي الأرض" تبدو حساسيته اللغوية، فالمحبة نسقية ومكررة يمكن للجميع أو ينجزوها للجميع برحمة روحية ودينية لا سيما وهي من أدبيات العهد الجديد، ولكن الحب شخصي وفردي وذو حمولة دلالية دنيوية ترتكز على الرقة والتهذيب النفسي وتبادل فعل الحب الذي يرمز له الورد في القصيدة بينما تتضاءل العلاقات المصنوعة رغم بريقها كما يوحي منظر الذهب.. لا سيما و أنسي شاعر غزل يعتز بتجاربه في الكتابة عن الحب والمرأة التي لا تغيب عن نصوصه فهي جميلة يجد لها من الأوصاف ما يقربها من صفات امرأة نشيد الإنشاد، ذات روح وجسد ومفاتن.. وهي في هذا النص حاضرة في زاوية النظر نفسها إلى العالم والأشياء والآخر والعلاقة بها أيضاً، كما أن تمرد أنسي يظهر عبر تحرر تلك العلاقة من نواميس الآخرين وتقاليدهم الموروثة، ومواضعاتهم الاجتماعية والتي سيسميها لاحقا بغضا لا تمردا: بغضا للظلم والعبودية يولد صراعاً، وعدوانية هي جزء من تناقضات الشاعر الشخصية التي يعترف بوجودها.. ويدعونا لاستفصائها في قصائده.ومن مظاهرها في النص قوله " وكنت أظن أنك وديعة لتغفري لي / أنك وديعة لتقبلي آثامي/أنك وديعة لأفعل بك كالعبيد" ملاحظين استخدامه الفعل لا الصنع عند الحديث عن الحبيبة مؤاخيا لها بالورد.
لقد أنجز أنسي في نص الذهب والورد هذا خطابا مزدوجا لقصيدة النثر التي اهتم منذ البداية بعالمها اللغوي وهذيانات الخيال التي تنتظم داخل النص، وتصبح جزءا من تحقيق برنامج أنسي الحاج في جمع الفوضى والتنظيم ضمن فضاء قصيدة النثر وحريتها المتناقضة أيضا بين التسيب الإيقاعي والصوري واللغوي ظاهريا، وانبنائها على التكثيف والترابط والإيقاع البديل المخلوق بالتقابل والتعارض والتوافق والتكرار.