يوسف العاني ذاكرة وتاريخ / د. كريم شغيدل

لم أتمالك نفسي لحظة رأيته واقفاً ويصفق بحرارة بعد انتهاء عرض مسرحية أحلام كارتون، فنزلت مسرعاً من المسرح تاركاً من صعد لتهنئتنا لأحتضنه، هذا العملاق الذي أرغم نفسه على مغادرة سرير المرض ليرى عرضاً مسرحياً، قرأت في عينيه فرحاً وإعجاباً بما قدمنا، أحسست بأن طفلاً بريئاً يعبر عن دهشته يكمن داخل هذا العملاق، الإحساس نفسه راودني حين ألقى بعصاه واعتلى خشبة المسرح الوطني راكضاً راقصاً، عند تكريمه في مهرجان بغداد الدولي للمسرح وقد سقط على إثرها ليرقد بعدها في مستشفى الراهبات، هذا الطفل الشيخ، ما تزال روحه تنبض فناً وحياةً، لم يكن رائداً مسرحياً، كاتباً وممثلاً، فحسب إنما هو تاريخ وذاكرة ومثابات تأسيس، فقد عرف منذ أكثر من سبعين عاماً، بوصفه شاهداً لحقبة زمنية تمتد من العهد الملكي إلى العهد الديمقراطي، تخللتها أنظمة سياسية عديدة، هذا المعلم اليساري المولود في العام 1927، الذي أسس مع رفيق دربه الفنان الراحل إبراهيم جلال فرقة مسرح الفن الحديث في العام 1952، شكلت نصوصه، بمجرد المرور على عناوينها، ذاكرة حية للألم العراقي: الشريعة والخرابة والرهن والمفتاح وآني أمك يا شاكر والقمرجية ونفوس وخيط البريسم وطبيب يداوي الناس ومحامي نايلون وفي مكتب المحامي ومحامي زهكان وجبر الخواطر وراس الشليلة وتؤمر بيك وموخوش ولو بسراجين لو بظلمة وحرمل وحبة سودة وفلوس الدوه... وغيرها من المسرحيات الشعبية التي كانت طليعة المسرح العراقي وتعد مسرحيته مجنون يتحدى القدر أول مونودراما في المسرح العراقي، وقد قدم له مسرح ستانسلافسكي في موسكو مسرحية جحا والحمامة في مهرجان الشبيبة العام 1957، عرف ممثلاً بارعاً في العديد من المسرحيات منها: مسمار جحا، تموز يقرع الأجراس، النخلة والجيران، القربان، البيك والسايق، بغداد الأزل بين الجد والهزل، مجالس التراث وغيرها، وفي السينما له وثبات: سعيد أفندي، أبو هيلة، وداعاً لبنان، المسألة الكبرى، المنعطف، ومع الراحل يوسف شاهين اليوم السادس، وفي التلفزيون له بصمته: عبود يغني، عبود لا يغني، رائحة القهوة، بلابل، بطاقة يانصيب، المدن الثلاث وغيرها الكثير.
كان وما يزال حاضراً في المحافل الفنية العربية والدولية، واحداً من رواد الفن العرب، شارك وترأس لجان التحكيم في العديد من المهرجانات المسرحية والتلفزيونية العربية ومثل العراق في العديد من المؤتمرات، ماس الكتابة الصحفية النقد والمذكرات منذ خمسينيات القرن المنصرم، وقد شكلت شخصيته التي طغت عليها المسحة البغدادية المرحة، وهو القادم من قرى الحدود الغربية، علامة مميزة في مسيرة الفن العراقي، فلشخصية العاني نكهة شعبية ساخرة انعكست على فنه طيلة مسيرته، سواء في النصوص التي كتبها، أم بالشخصيات التي لعبها على خشبة المسرح أو في السينما والتلفزيون، ومن خلال ذلك بلور العاني نزعته النقدية اللاذعة للظواهر الاجتماعية السلبية وللسياسات القمعية والصراعات، كما أن يساريته وضعته في صلب ما يسمى بالمدرسة الواقعية الاشتراكية التي تعالج هموم الإنسان المغلوب على أمره، لا سيما هموم الفقراء والمضطهدين والمعوزين والهموم اليومية للمواطن البسيط، فما قدمه العاني للمسرح والسينما والتلفزيون، كان امتداداً لوعيه الأيديولوجي ونزعته اليسارية ورسالته الأخلاقية في الحياة وليس مجرد موهبة أو صنعة فنية، فتحية إجلال وإكبار لواحد من أعمدة المسرح العربي ورواده، ما يزال يحيا بيننا بمثابة ذاكرة ثرة وتاريخ مؤسس للفن والحياة على مدى أكثر من سبعين عاماً.