الروائي كريم كطافه: أكتب سردا يحترم لغة الرواية / آسو كرمیاني

روائي عراقي من مواليد بغداد 1961 ومقيم حاليا في هولندا، بالإضافة إلى عمله الروائي والصحفي يعمل رساما رسم هندسي.
صدرت له رواية "ليالي ابن زوال" عام 2007، ورواية "حمار وثلاث جمهوريات" عام 2008، يصف تجربته بأنه يحاول فيها كتابة نص سردي يحترم لغة الرواية بوصفها مجموعة أنساق لغوية يضمها نسق رئيسي ولا يتجاوز على لغات الشخصيات كما ويحاول على صعيد الصحافة أن يكتب نصاً مفتوحاً يمزج فيه بين تقنيات القصة القصيرة، وما يتطلبه العمود الصحفي القصير من اختزال وتكثيف على خلفية ساخرة من هذا الكم الهائل والمخيف من المفارقات الموجعة التي تغلف حياتنا.
حاليا منهمك بكتابة سیناریو لفيلم عن دور النصیرات الشیوعیات في الكفاح المسلح الذي خاضه الشیوعیون ضد الدكتاتوریة الفاشیة في ثمانینیات القرن الماضي، التقیته في "دنهاخ" لتسلیط الضوء علی تجربته الجدیدة:

عرفناك ككاتب روایة، ما هي دوافع خوضك تجربة كتابة السیناریو؟

بدءاً أود القول أن احترامي لأشكال التعبير الأدبي والفني يمنعني من القول أني كاتب رواية مثلاً أو كاتب سيناريو. لكني أسمح لنفسي بالقول أني كتبت روايات وها أنا أجرب كتابة السيناريو. الأمر بالنسبة لي يتعدى قضية الخلفية الأكاديمية وما شابهها من أسباب تجعل أحدهم كاتب رواية والآخر كاتب سيناريو. الأمر ليس كذلك. كثرٌ هم خريجو أكاديميات فنية باختصاصات مختلفة، لكنهم على صعيد الإنتاج الفعلي "صفر اليدين"، ومثلهم وأكثر من حُرموا لأسباب مختلفة من دخول تلك الأكاديميات لكنهم رغم ذلك كانت لهم إنجازات ملموسة. القضية تتعلق بما يمكن وصفه بذاك الشيء الهلامي الذي يصعب تعريفه بـ الموهبة فقط. إذ مع الموهبة هناك الرغبة الحقيقية وهناك التحدي كذلك أو لنقل البحث عن تحدي. من هنا استطيع القول أن دخولي في تجربة كتابة السيناريو جاء بدافع البحث عن تحدي جديد. رغم إدراكي أن عملية كتابة سيناريو لا تشبه عملية كتابة رواية. الاختلاف كبير بين النص السردي والنص البصري.

كیف تهیأت معرفیا للتمكن من كتابة السيناريو؟

بذلت جهداً بتثقيف نفسي بنفسي بفلسفة وآليات وتجارب كتابة السيناريو. تتلمذت على يد فطاحل في هذا المجال بدءاً من جاك أومون وميشيل ماري الفرنسيان وصولاً إلى الأمريكي الذي تخرج سيناريوهات هوليود من تحت يديه "سد فيلد".. ولم أوفر التجربة العربية في هذا المجال سواء المصرية على خصبها وغزارتها أو العراقية على ندرتها والتي أفرزت رغم ذاك كتيب تعليمي صغير "كيف تكتب السيناريو" للمخرج العراقي صاحب التجربة الطويلة مع السينما "قيس الزبيدي". أرشدني هذا الرجل إلى ملاحظة تلك العلامات الفاصلة بين ما هو أدبي وما هو بصري في كتابة السيناريو. وعوداً على بدء، أن انشغالي بكتابة سيناريو فلم النصيرات سبقته تجربة تحويل روايتي الثالثة "حصار العنكبوت" التي أتوقع صدورها قريباً، إلى سيناريو سينمائي جرى الاتفاق على كتابته بمساعدة المخرج "قيس الزبيدي". لكن مشاكل تخص التمويل والميزانية أوقفت المشروع. كذلك حولت روايتي الرابعة "13 ساعة نزهة حرة" إلى سيناريو فلم روائي طويل وهو جاهز لمن يرغب من المخرجين. أما فلم النصيرات فهذا له قصة أخرى تتعدى التجريب وشؤونه. القصة تخص توثيق تاريخ أنا شخصياً جزء منه. لقد وجدت رفيقي وصديقي "علي رفيق" وبفريق عمل صغير قد أخذ على عاتقه مشروعاً كبيراً يحتاج إلى مؤسسة كاملة التخصصات لإنجازه . لكنه رغم ذاك وربما بدافع التحدي الذي أشرت له قبل قليل، قد نجح في إخراج الجزء الأول من مشروعه فيلم "سنوات الجمر والرماد" وما زالت لديه مادة كبيرة "رشز" يكفي حسب تقديره لأربعة أفلام أخرى مواضيعها جاهزة في رأسه. لكن حجم المشروع وضآلة الإمكانيات المادية بالتأكيد ستنعكس بشكل مباشر على سرعة ونوعية الإنجاز. لذلك كان مستعداً مسبقاً لتقبل كل الملاحظات التي قيلت وتقال حول الجزء الأول من المشروع، والذي رغم كل ما قيل نال استحسان وإعجاب الكثيرين سواء من الأنصار أو من خارج الأنصار. لكنه ولكي يكمل مشروعه حتى النهاية ولأهمية هذا المشروع بوصفه التجربة السينمائية الأولى لأرشفة وتوثيق تاريخ حركة الأنصار، يظل بحاجة ماسة إلى الدعم والمساندة على الأخص من قبل رفاقه ومن قبل رابطة الأنصار التي تبنت المشروع من البداية ودعمته.
هذا الأمر هو الذي دعاني أنتدب نفسي متطوعاً وأعرض عليه ما استطيع القيام به ووافق.

أفهم من كلامك ان انشغالك الحالي بـ فيلم النصيرات هو محاولتك الثالثة بعد تحویل "حصار العنكبوت" و"13 ساعة نزهة حرة" في مجال كتابة السیناریو؟

بالنسبة لرواية حصار العنكبوت تعتمد على تنويع سردي تضمن من بين ما تضمن سيناريو فيلم. الأمر الذي سهّل علي فيما بعد أن أتعامل مع الرواية ككل وأحولها إلى سيناريو. أما رواية 13 ساعة نزهة حرة فهي أصلاً كانت مكتوبة على شكل سيناريو لأحد الأصدقاء المخرجين لكنه توقف ولم يكمله. ولما عرضه عليّ وقرأته، سألني هل بإمكاني إكماله. أجبته بصراحة؛ أن هذا السيناريو لم يقنعني، لكني سآخذ منه خمسة أسطر فقط!! سألني مندهشاً ماذا ستفعل مع الخمسة أسطر، أجبته أعمل منها رواية. وبين المزح والجد باعني تلك الأسطر الخمسة بدولار واحد لم أسلمه له لحد الآن. وتفرغت لكتابة الرواية وأنجزتها. ولما اكتملت المسودة الأولى وعرضتها عليه، عاد وطلب مني أن أحولها إلى سيناريو من جديد. لكنه في هذه الحالة اتخذ ملامح أخرى لا علاقة لها بما كتبه هو.

وما هو جدیدك الممیز في فيلم النصيرات؟

أما عن تجربة فيلم النصيرات، فأعتبرها تجربة استثنائية بكل ما في هذه الكلمة من معان. الجديد في فلم النصيرات ليس موضوعه فقط، بل التقنية المطلوبة لإنجازه.
أنت تستطيع عمل فلم وثائقي مبني مسبقاً على فكرة ما تختار لها المحاور والمتحدثين أو المادة الأرشيفية وما عليك سوى أن تقترح الميزانية التخمينية لعملك وتبحث عن منتج يقتنع بالعمل وتبدأ.. أما في حالة فيلم النصيرات والذي للآن لم نختر له عنواناً، فالأمر جاء معاكساً تماماً لهذه الطريقة في العمل. لدينا مادة مصورة جاهزة لكنها بلا محاور، وبلا موضوع محدد، يمكن القول أنها "رشز" فقط. إذ كان "علي رفيق" خلال تصوير مادته متسامحاً كثيراً مع المتحدثين والمتحدثات، أعطاهم حرية الحديث عن كل شيء.. لذا تجد في الحديث الواحد لأحد الأنصار أو النصيرات سلسلة من المواضيع وليس موضوع محدد، سلسلة من الأفكار والرسائل غير مبوبة. وهنا تكمن الصعوبة لشخص مثلي هو في كل الأحوال يدخل التجربة من باب التحدي والحماس والانحياز أكثر من كونه محترفاً. أن تشاهد 76 ملف بصري بطول 5 إلى 10 دقائق لكل ملف، ثم تسأل نفسك ذات الأسئلة عشرات المرات: ماذا بوسعي أن أفعل؟. أي محور أختار؟، أي متحدث أختار؟، ولماذا؟، كل هذا وأنت في بلد والمخرج في بلد آخر والعلاقة بينكما تكون عبر الإيميل والسكايب فقط. مؤكد سيكون هكذا عمل بمنتهى الصعوبة. علماً أن هذه الـ "76" ملف ما هي إلا مجتزآت للقاءات طويلة من ملفات أكبر، لم يستطع "علي رفيق" إرسالها لي لأسباب فنية. الأمر الذي اضطرني بعد كتابة المسودة الأولى للسيناريو للسفر إلى لندن ومشاهدة ما تبقى بعهدة المخرج ومن ثم الدخول في ورشة عمل ثنائية دامت عشرة أيام.
خرجنا منها برؤية مشتركة وعملنا عليها.
لكنك في كل الأحوال لا تستطيع إنجاز فيلم سينمائي مبني على لقاءات فقط. ستكون بحاجة إلى مشاهد تكميلية لحديث المتحدثات كما تحتاج إلى مساحة بصرية تثري الخط الدرامي للفلم. وهذه كلها لكي تنجزها تحتاج إلى تمويل. بينما واقع الحال أن فريق العمل إضافة إلى كونه يعمل متطوعاً في هذا المشروع هو فوق هذا يدفع من جيبه لتلك الاحتياجات البسيطة التي بمقدوره تغطيتها. ما يجعل تلك الاحتياجات الأكبر لإكمال الفلم متوقفة تنتظر التمويل. علما أن للجميع واجبات والتزامات عائلية ووظيفية في البلدان التي يعيشون فيها. لكن المشجع في الأمر أن حماس فريق العمل لإنجاز هذا الفلم يصل إلى درجة العناد. الجميع مصرون على إكماله مهما تكن المعوقات وإن اضطررنا للصرف من جيوبنا أو الاستدانة.

قلت ان الفيلم لا یمكن ان یعتمد علی لقاءات فقط بل هو بحاجة الی مساحة بصریة تغني خطه الدرامي. كیف ستتعاملون مع هذه المادة ومن أین ستحصلون علیها؟

هي هذه العقدة الآن والتي سيكون عنوانها "التمويل". بالتأكيد أن الحماس والموهبة والعناد على أهمية كل هذا لا تنجز فلماً. أنت لا تتعامل مع نص سردي طال بك الزمن أم قصر حلوله عندك. الفلم أمره مختلف. هناك مشاهد اقترحتها بوصفي كاتب السيناريو ووافق عليها المخرج وفقاً لخط الفلم العام الذي اتفقنا عليه.. لكن هذه تحتاج إلى إعادة التصوير في بيئة الحدث نفسه أو في أسوأ الأحوال في بيئة مشابهة.. وهناك مشاهد نحتاج فيها إلى ممثل وممثلة لتجسيد فعل ما.. وهناك لقاءات تكميلية تخص الطرف الثاني من معادلة الحرب التي خاضتها النصيرات إلى جانب رفاقهن الأنصار، أعني بها تخص عوائلهن، معارفهن، أصدقائهن في المدن العراقية المختلفة، على الأخص الشهيدات منهن لمعرفة ظروف عملهن في ذلك الوقت وحجم المعوقات والصعوبات وظروف الاعتقال.. كل هذه تحتاج إلى سفر من مدينة إلى أخرى وبذل مساعٍ لن تكون سهلة بإقناع هذا أو ذاك لأن يجلس أمام الكاميرا ويقول ما عنده عن ذلك التاريخ.. إضافة إلى كل هذا تأتي في النهاية العملية الفنية التكميلية، الموسيقى التصويرية، الصوت، المونتاج، التسجيل النهائي للفلم.

وأخیراً من هنَّ النصيرات؟

أستطيع القول إذا كانت حركة الأنصار المسلحة في كردستان تعد استثناءاً في ذلك الوقت كونها تمثل الطيف العراقي الأصيل والجميل، إذ شارك فيها العرب والكرد والكلدان والآثوريين والتركمان والصابئة والأيزيديين، فأن وجود النصيرات كان هو الاستثناء داخل الاستثناء. على مدى عقود طويلة شهدت جبال كردستان حروباً كثيرة تشتعل تارة وتخفت تارة بين بيشمركة الحركة القومية الكردية والحكومات المتعاقبة على العراق.. لكنها كانت على طول الخط حروباً طرفاها من الرجال. لم يحدث أن شاركت المرأة في الكفاح المسلح إلا في تجربة الأنصار. لهذا تحمل هذه التجربة فرادة من نوع خاص ليس على مستوى العراق فقط بل المنطقة برمتها. لقد شهدت التحاق أعداد غير قليلة من فتيات كن بأعمار الورد ونضارته جئن من كل عروق الشعب العراقي. لم يكن وجودهن وجوداً شكلياً، بل كن جزءاً من مفارز قتالية. ساهمن في عمليات كبيرة وصغيرة واستشهد منهن كثيرات سواء في القتال الجبلي أو خلال العمل على ربط تنظيمات المدن بالتنظيم العسكري.
ولكل نصيرة قصتها التي تصلح لوحدها فلماً روائياً فريداً في نوعه وهي تخوض صراعاً متعدد الجبهات، بدءاً من جبهة العدو المسلح على تنوعه بين جيش وجحوش واستخبارات وأحياناً قوى حليفة تنقلب عليك في لحظة ما مروراً بقساوة الطبيعة ومنعتها بوجه كائنات هي بالأصل مدنية وصولاً إلى جبهة العادات والتقاليد والأرث القبلي الذي يقود المنطقة. من هنا تأتي أهمية هذا العمل الذي نحن بصدده. نحاول التعريف بهذه التجربة الفريدة والاستثنائية في تاريخ شعبنا.