ثمة هنا، اعني في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، سيدة من طراز خاص، مهمتها صياغة الحياة بعين فنان متفائل، ولكن مهمتها الأصعب هي (التحدي)، وإلا كيف لها ان ترسم الفرح موشوما بالأمل، وهي تقف على مشارف السبعين، وتتعكز على بطاقة الأمراض المزمنة، ووراء ظهرها بيت وجيش من الأبناء والأحفاد، ولقمة موقوفة على الراتب التقاعدي، ولقد شح البصر، ووهن العظم، واشتعل الرأس عشقا بحب العراق، غير إنها التي تنحدر من أسرة يسري الفن في عروقها حتى توارثته الذرية جيلا عن جيل، وتنتمي فكريا الى أسرة عريقة علمتها حب النضال والثقافة.. واجهت متاعب العين والأصابع والعمر، لأن نصيبها من إرث الأسرتين لقنها معنى الصبر والتضحية، ومعنى ان يكون الإنسان للآخرين.
تلك هي مفيدة الطاهر، لم تتلق قواعد الفن على خشبة المسرح، او في مدرسة الباليه او كلية الفنون الجميلة او فرقة الجالغي البغدادي، لا تجيد ما هو فوق مستوى النظر او تحته، ولكن جينات الفنان الفطري جزء من تركيبتها البايلوجية،
في لحظة تأمل أستبعد ان تكون مصادفة- ابتكرت لها اسلوبا للتعبير عن هواجسها الداخلية، لا تعرف له اسماً ولم تره في معرض او تقرأ عنه، وسيأتي زمن لاحق تدرك فيه انها تمارس (فن الكولاج)، وان بينها وبين دادائية الالمان توارد خواطر، نعم هم السابقون، ولكنها لم تأخذ عنهم او تتأثر بهم او تتعرف على مدرستهم!
في حياتها الوظيفية معلمة، وفي حياتها المنزلية (خياطة) لأسرتها تنجز ملابس الأبناء بيديها، خاصة في ظروف الحصار المرة، وأمام ماكنتها وعلى جانبيها تتكدس قطع قماش من الأنواع والألوان جميعها فوق بعضها البعض، قد لا تلتقط عيوننا الاعتيادية ما تخفي وراءها، ولكن الحس الفني الموروث جعل الطاهر ترى لوحات من نوع فريد، لا ينقصها إلا الترتيب والتنظيم للخروج بها من فوضى السوريالية الجميلة الى دائرة الواقع اللصيق بالانسان.
هكذا ولدت الفكرة من حيث لم تتهيأ او تخطط، وعندها استيقظت ثورة الروح المكبوتة تحت ضغوط الحياة اليومية، وبصلابة امرأة قوية تقاوم عاديات الزمن، نفضت غبار السنوات المجدبات لينطلق المارد الكامن في اعماق الذات، فكانت الولادة، او كانت اول لوحة في المسيرة.
وادواتها.. خاماتها؟
متوفرة بين يدي في المنزل، أقمشة وخيوط ملونة وشرائط خرز وبلك اكسسوارات وفلين ومقص وأقلام ماجك.
ولكن هناك تناغماً لونياً يقتضي رحلة دراسية مضيئة..
لم أكن غريبة على تناسق الالوان، ليس بحكم النظرة فقط، بل لأن نشأتي كانت في وسط فني تعد العلاقات اللونية من الف ياء مهنته، زيادة على ذلك استطيع الزعم انني متابعة للمعارض الفنية، مثلما أزعم انني قارئة فنجان جيدة، الى حد ما، لذلك لم تكن المهمة اللونية عقبة في طريقي.
هل نعزو اختيارك الدقيق للملابس التي يرتديها أبطال لوحاتك الى الملاحظة والمتابعة؟
اقول بدون حرج انني أوليتُ التراث الشعبي، قراءة واطلاعأ ومتابعة الشيء الكثير من اهتمامي، وعندما استغرقني (فن الكولاج)، صرت أكثر اقترابا من الازياء التراثية في الريف والمدينة والهور والجبل والسهل والبادية، وعلى معرفة نفصيلية بأدق الصغائر، لأنها جزء من اكتمال اللوحة الفنية.
ما بين اول مشاركة لك عام 2002، وحتى هذا المعرض هناك 12 حضورا فنياً سواء عبر المشاركات الجماعية، أم المعارض الشخصية، ما هو الجديد في معرض آذار 2014؟
ليس في هذا المعرض او في غيره من المشاركات فقط، كنت حريصة على التطوير والتجديد والاضافة دائما، في معرضي الأخير هذا، وهو الشخصي الثالث، سعيت الى عرض اكبر (عدد) من اللوحات، مع (تنويع) في الموضوعات، هذا غير اهتمامي بصورة ملحوظة في الاشغال اليدوية المنزلية، قدمت نماذج فنية مبتكرة للعديد من اغراض البيت، وأنجزت (مفرشا) كبيرا بيضوي الشكل على هيأة دوائر تمثل كل واحدة منها جزءاً من التراث العراقي على امتداد خارطة الوطن، كنت أرمز الى فسيفساء الحضارة العراقية، وبالمناسبة فأنا ممتلئة بالافكار والمشاريع الفنية، لان الحياة العراقية خصبة وضاجة بالاحداث والافكار والموضوعات ولكن يحول دون ذلك التنفيذ، أو الإبطاء في الانجاز، قابلية العين واليد والصحة والعمر ومسؤولياتي البيتية والتزاماتي الكثيرة، ومع ذلك أحاول التواصل.
يتوهم الزائر انه في معرض فطري للتراث العراقي.. ولكنه يفاجأ انك تكسرين هذا الوهم في لوحة هنا أو هناك.. كيف نفهم ذلك؟
استعين بمفردتك الاولى (يتوهم) لأقول: من الوهم، والاعتقاد انني فنانة (تراثية) أو (فولكلورية) بمعنى من المعاني، مع ان هذا الجانب يحتل الحيز الاكبر من اشتغالي، حقيقة الأمر، أنا أشتغل بعين فنان تشكيلي واقعي، حتى في طريقة عملي، ولذلك تقف على لوحات ذات مدلول سياسي عام ، او مدلول سياسي مباشر، مثلما تقف على معالم عراقية تجمع بين التراث والحداثة، كما هو الحال مع لوحة كهرمانة.. باختصار، لم أجعل نفسي حكرا لصالح مفردة فنية واحدة!
مفيدة سعيد الطاهر، عراقية اصيلة، تبحث بين ركام القيود عن وطن حر، تحاول رسم ابتسامة فرح على الشفاه بأي قدر.. بأية نسبة من اي نوع او لون. بدلا من دمعة الحزن والانكسار، وتتمنى برغم جرح موغل في الإيذاء هنا، وعثرة كأداء هناك شعبا عراقيا سعيدا. أنها كائن يحلم، والحلم عندها ليس مستحيلا ما دام يرقى الى مستوى الأمل الذي نحثُ الخطى نحوه، ويمكن ان نعانقه غدا.. او بعد غد!!