سعال الأب.. عواء الطريدة / حميد حسن جعفر

أبي يا هذا النهار الواقف عند عتبة وجعي، ها أني اشيدُ عند قدميكَ بيتاً ، لأهيئ لطفولتي مرقاةً توصلها لصبي كنته، هل تتذكرني، أنا الحجر الذي لم يطفئه رمادكَ. فأطلقته أمام عوائكَ، أنا صنيع يديكَ المأخوذ بالحكمة، لا أحد سواك من أطلق عليَّ آخر رصاصاته، لن أهجر عصيانكَ فأنا على مرمى حجر من خذلان لم تتوقعه.
كم أودعتني من اللهو بكائنات بريةٍ، لم أكنْ حينها بقادر على مجاراتها؟ تلطفْ عليَّ، أو على أخوتي بسهوٍ يمكنهم من العودة إلى صباهم. كم كنت تخاف عزلتهم؟ تلك التي لم تكنْ سوى الحروب نفسها. ما أن تبعثرهم حتى يلتموا كأي قطيعٍ، فأنا أعرف أنكَ الحليم رغم قسوة ذراعيكَ، وأنتَ السيد المبجل بين أخوتكَ، ليكنْ النسيانُ سيداً، فهو المشهود له على تجاوز الهتافات.
قد يظن الجميعُ ولكنني أنا المتيقنُ جداً بأنك ستدعو أبناءك كلهم، ستناديهم بأسمائهم واحداً ، واحداً، ولكن إياك أن تنسى إناثكَ؛ صناعتك المهيمنة على هندسة عقاراتنا، اذكرهن بأحسانٍ، فلولاهن ما كنا بين يديكَ كما نحن الآن نستعطفُ الذاكرة، لتعترف بنا نحن الجالسين على حافات أصابعكَ، نرقشُ السهوبَ، بلغونا كما لو كانت "مايكروفونات" ونحرر اعترافاتنا، بقوة شدوكَ. لا تتركهن، - وهذا ما لا أتوقعه يعوينَ كحشدٍ من بنات آوى، لا تتركنا عرضة لجسدٍ لا تجيد سوى مقاضاته.
أو لأنثى مجدُها أن نرقشَ شجرها بالادعاءات
أو لحادثة حب صبيانية .
***
أبي، كم كان النهر فسيحاً، حين تركتنا عند شاطئيه نحاول أن نغوي الاسماك بالخروج إلينا، أو باستقبالنا كموتى، أو كرهائن. فكل السفن التي أطلقتها خلفنا لم تستطع أن تقنع الريح بأننا فقراء. وأنّا من غير آثامٍ هل تتذكر عدْوَنا لهتافاتكَ، لتكتبَ على صفحاتنا اسماء نسوتنا؟ علّكَ تصطدمُ بهفواتنا، تلكَ التي كانت نافذتنا، لنطل على بقاياكَ كلُّ منّا كان يعاين وبحميميةٍ ما يتركُ تحت قدميه من طرقاتٍ فاتنةٍ، أو طرائد تحدق بعيون زجاجيةٍ حافة السكين، أو حجم المصيدة. من أجل أن تجيد استخدام الخديعةِ. من أجل أن تتمكن من الحروب.
تلكَ كانت وصيتها إليكَ، حين التفتَّ إليها، ولكنكَ لم ترَ إلّا فراشاتٍ، وبضعة حرائق وديعةٍ، كنتُ أقولُ؛ كم كان واثقاً هذا الأب الذي يشبه رجلاً لم نتعودْ عليه من كلام ينشده من غير ترددٍ، وكنا نستجيبُ لنداءاته البريئة، بأن نطلق على ديكةٍ أحسنّا اخفاءها تحت قمصاننا أفضل ما نقول لنغيض اناثنا، لم يكن يتباهى بخسائره التي هي نحنُ رغم اعتزازه بتبعيته لم نؤسس مثيلاً لها، ولم نحرض سواه عليها.
لم يكن تجربةً فاشلةً أو محاولةً لا تستحقُ العنايةَ كم أهلكنا انصاراً يتبعون خطوات غيرنا؟
كانوا اهلةً غير مدشنةٍ
وكنا اخطاءً دائمة الخضرةِ
***
يالصحبتنا الكسولة لهفواتكَ التي لم تكن تستدل عليها، إلّا بذنوبٍ غير مقتنعة بالاستغفار، لم نكن نتحاشاكَ ، لنبطل صداقةً كثيراً ما هيأنا يقينناً لاحتوائها. وما كنا منشغلين كسوانا بسواكَ نرمم فتوتكَ، ونستعيد مفاصل مأتمنا، لكي نبعد الغرور عن قبائلنا، كم اهملنا شدونا؟ سأقول نيابةً عن زملاءٍ غير فخورين بأبوتكَ، كم أشرقت على غرباء؟ بقبابٍ اسرفت بنقوشها، صوتي هذا، سربُ حمامٍ، ومنائر مغطاة بغمام لم يكن باطلاً فلماذا تتكاسل عن حماية هديل هو بعض ما نمتلكُ من غناء؟ سنظل ننتظر غبشك المرقط بالضواري، وبآثار السرف.
لن نقول وداعاً حين تتركنا على قارعة الكلام ، نفتش عن أقدام كنّا نمتلكها، أو عن كراسي مدولبةٍ أكرمنا بها الآخرون.
هل كنت تعلم هذا ؟ أم العتمة كانت فائقة لتذهب بك بعيداً ، حيث تكون سيداً، لنكون نحن كل ما تمتلك من نسيان، أو من ربيع كنا ننسجه لنباهي به الكدمات، تلك التي تركتها برضاكَ، لنتآكل تحت خداعها، كانت نبدو كأي شجر واسع المغفرة . كأي شجر ينمو خارج خريف نضرٍ، وكنا نحدق بخشونة يديكَ، هل كنا نستطلعُ لحاءً وأرضاً خصبةً، أم أن سماءكَ هي التي اضطربنا تحت سؤددها.
اسماؤك تشبه طاعوناً ، فلماذا ابتلينا دون سوانا بصحبة فسيحةٍ يسمونها الأبواب. فما أن نمحو مقبضاً حتى تولد عتبات تستجوب أصابع أقدامنا، قد نقترحُ آثاراً نمشي على هديها، قد نبتكر أباً نعلمه كيف يكف يديه عن اللعب بأخطائنا . قد نقولُ كلاماً يشبهُ مغاليق، ولكننا سوف لن نكون مؤهلين أبداً لأن نترك جلودنا عرضةً لصناعة الدفوف ، ومعاصمنا المكان الأمثل للأغلال.
***
أيها الأب الذي يحتل عنوةً أكثر أماكن أجسامنا حرصاً على الفوضى، لا تتعجلْ لنا سعادةً هي حشد من الماعز الصحراوي، وبضعة رعاة لا يحسنون استخدام عصيهم، مدّ يديكَ على اقفاصنا واقطفْ ما تشاء من الزهور، واتركْ لنا بضعة سنتمترات من رحيق النضارة ، أو بضعة اونسات من التنزه بعيداً عن الاسفاف، وسط شدوكَ لن نكون ناكري بهاء، لن نتجاهل معروفاً تبيح لنا عبره أن نكون شاكرين لغطاً تركته خلفكَ ذاك الذي فككنا أسراره، فأذا به هو الصمت لا سواه. كان حجراً اسودَ، وخِرَقاً خُضْراً، وكومة سحب، ولفيفاً من الدماء، سنحيل عواءنا ربيعا? أملاً في الوصول إلى الجنون، ذاك النهار البهيم المؤسس لشقائنا.
كنا نعاينك تداعبه. فيملؤنا حسدٌ شديدٌ بالحرص على أن يبقى الفرقاء كلهم تحت ثقل الطريدة . كنت صباحاً ماهراً يا أبانا، وكنّا ابناءكَ من غير وصايا، وكنّا حلفاءكَ من غير وشايات، هل كان الليلُ الذي يَدخِلُكَ فيه كل يومٍ مدركاً لذلك ؟ كنّا نرص آلامنا على سواها لنقولُ : "بلا" للفاتح السيئ، وبهدوء ينتقصه الكثير من التوبة نرفع عن شجر اجاسمنا بصماته، لا لكي نتنكر لحسانته، بل لنتأكد من أننا قادرون على موتةٍ نزيهةٍ هي أشبه بالفراشات، كم اسكرتنا بكسل ارائككَ آرائك هي شجر الغابة وكنت تضحك حذراً، من تعثر سيدٍ قد يحيطُ?بمعصميكَ، كما أحطتَ معاصمنا بالهتافاتِ، فإذا بالنهار يتسلل من غبش تركته يزحفُ بين حروب، كم ارتأينا صداقةً تقيم هندستها على اكتاف خصومك ؟ لنمسكَ بالعفو عن ذنوب اقترفها سوانا، وعن آثام أورثتنا عشبها النبيل. وحين ننعسُ نرى موطئة قدميكَ تغتسل بحركة أجسادنا، فننشر عليها البهاء، ونسورها بحجرٍ، لا أحد سوانا يحس صناعته.
ومن أقصى رضاك عنّا كنّا نشاهد جلال أسلافنا كنا نطلق عدْوَنا، لنجنبَ حرصنا الاقتراب كثيراً من جسدٍ تحمله محاولاً توزيعه على قبائل أخرى غير التي ننتمي إليها.
كم مثيلاتٍ لمعتقلاتِ يديكَ أنشأنا؟
وكم أقمنا شبيهاً لجسدك القاسي؟
لنقيم وبأمتياز خارج أسوار فراديسكَ على حِجْرِها الذي لم تدسْ اقدامنا على طينٍ غيره، كانت السرف تتركُ ما تتركُ من هزالٍ غير عابئةٍ بنبيذِ أجسادنا. وغير عابئين نحن قتلاها بتوجهاتها إليكَ .
***
أيها الجبار المتواضع كأي مقتدر، يا ابانا أقمنا شبيهاً لقسوتكَ واصطففنا خلف آثار، هي كل ما تترك وراءكَ من رتوش الجسد، طمعاً برضاكَ.
هل كنتَ تدركُ هذا ؟ يا ملهم أخوتي كيمياء المحو، يا أبانا الذي ينمو تحت ملابسنا كما "القوبياء"، أيها الجدار المزخرف بالملاريا واللوكيميا وبالنعاج.
نسوتكَ الرؤومات ما عادت الشرفات تتسعُ لما يحملن من دغل الأنوثة، ها أنهن ينسجن من القول فرائس. يُلصقنَ مصائد بما سوف يرثن من املاقٍ وعناكب، ترفقْ بما يحملنَ، من مكائد. هي الذكورة بعينها ومن خسائر أكيدة فكثيراً ما أشدْنَ بعادات تخليت عنها مجبراً كم من الشجر هو تاريخ كراسي باذخةٍ دفعت به إلى المواقد؟.
كم من الاحلام أضرمت الخمول بنقوشها ؟ لكي يقال عنكَ "أصولياً كان الرجلُ ومتواضعاً حدّ نكران الذات
كان الشيخ الذي هو أبونا".
فما من عزاء يمنحهن العزيمة سواكَ،
ويفرش بالحكمة مواقع أقدامهنَ، حين تشدد عليهن الخناق. وتردد: "واأسفي على نسوةٍ لم يطلقن ذكورتنا، ويبعثرن كنوزهن على غير خشب أيادينا"
هل كانت الاناث يسمعن عويل الطرائد ، أعني سعال الأب حين يجن النهار؟.
وهل كان ذاك الوقورُ المؤدب منشغلاً بغير بنيهِ؟ كأن يكون تحت وطأة رد الاعتبار، أو ترميم الثغور ، أو تحسين أداء الأخطاء!.
سنتريث قليلاً ونستطلع النيّات لنتأكد من خلو أبينا من آخر يسكنه.
حينها سنقول له، يا أخانا نحن بنوكَ لا تدفع بنا نحو الذئب أو نحو الجبّ.
فلسنا من يحسدكَ على أنثى تقرؤها خطأً وعلى كرسي متحركٍ ينتظركَ .
يا ابانا نحن طريقك إلى المرعى ، ونحن الغمام الذي نقف تحته لحظة تقول لنا : وداعاً ، كن بسالتنا. ودنونا من الغربةِ
كن اتهامنا لكَ بالمروءةِ
كن طعناتنا لتستدل علينا حين تشعر بفشلٍ لا بدَّ لنا من صناعته.
أو حين تشعر بتطاولٍ تستعيذُ به من نهار داكنٍ ، وعبورٍ إلزاميٍ
كن بعضنا لنتمكنَ من محبتكَ
يا أبانا القاسي حدَّ التندر.