"أمير من أور" وتعدد مفاتيح القراءة / حميد حسن جعفر

1
على الرغم من أن الشاعر حسين عبد اللطيف كان منحازاً إلى التجريبية في نتاجاته السابقة وفي "نار القطرب" تحديداً حيث يذهب إلى حقول تعتمد الاختلاف والمغايرة لا على مستوى الصورة والتركيب والفكر فحسب بل وحتى على المستوى اللغوي إلا أنه في "أمير من أور" وتبعاً لفضاء الأسى الذي يدخله مغمض العينين ومن غير عكاز تمنحه الدلالة يعمل على صناعة الوضوح معتمداً على ما سوف تقوله القصيدة، وما تجوس قدما الشاعر من أرضٍ قد تكون غاية في الغموض.

أو أنها قد تشكل عتبات لم توطأ، إلا أن اللغة صور وتراكيب، مدن وجغرافيات أشخاص وتواريخ ووقائع والتي تولد على يد الشعر، هذه اللغة بتعدد مفاصلها تتسلل على هيئة منظومات لم يمسسها مكتشف. هكذا تبدو. هكذا تولد وتتناسلُ . إن نصوصاً مثل: أمير من أور أو جناز، لا بد لها من أن تشكل حالة إبداعية متميزة فقدرة الشاعر على توفير حشد من الممكن أن يكون كبيراً وفسيحاً من المدن والأحداث والتواريخ والتي تشكل العمود الفقري أو اللحمة والسدى، وذلك عبر مقدرتها على صناعة الإيحاءات. هذا النسيج المكون لعلاقات وثيقة تحتل أو تمثل?امتدادات زمنية تمتلك من الامتلاء ما يؤهلها لكي تشكل الفضاءات التي تنطلق من خلالها وعبرها النصوص.
هذه المنظومات المكونة لشعرية النصوص تعتمد على منجز إبداعي آخر استطاع الشاعر أن يستفيد من مفروزاته ألا وهو المنجز السردي، رغم أن الشاعر لا يعتمد كتاباته هذه على كلاسيكية السرد. بل سيجده القارئ أنه يلغي أو يحذف أو يبقى أو يستعمل المفاصل الأساسية التي تعتمدها الحركة السردية "والتي قد تشكل البداية والنهاية والحبكة والزمن، والمكان والقيمة والصراع والشخصيات والأحداث والوقائع معظم تكويناتها".
وإذا ما استطاع الشاعر أن يحذف النهاية المتوقعة أو أن يلغي التسلسلات الزمنية للأحداث فأنه ألقى بثقل النص على مفاصل أخرى استطاعت أن تمنح قدراتها لطموحات الشاعر في كتابه نص شعري قادر على الدفاع عن نفسه عبر امتلاكه لمبررات كتابته. حيث يستفيد الشاعر من المفروزات الإبداعية للفنون التشكيلية خاصة وإذا ما كان عميان "بروجل" الستة قد اتفقوا على أن يقوم أحدهم السادس بقيادة الخمسة الآخرين فإن الشاعر استطاع أن يقنع نفسه بأن القصيدة قادرة على أن تقوده لأنها ما زالت تعاين وتحدق إنها القصيدة المبصرة.

2
في "دوارة الريح"، التي يفتتح الشاعر بها نصوص الاحتفاء هذا يجد القارئ أن تلك القصيدة تمتلك من الأنين "نشيج الريح" / الونين ضمن المفهوم العام/ الشعبي / ما يجعلها من المفتتحات الشديدة الحزن رغم ما تتميز به من هدوء يقترب من الصمت.
هذه الميزة التي لا تنتج حالة صوتية والتي قد تؤكد بدورها صميمية الحزن وبرودة معدنه الثقيل.
إذ أن تطرف الحزن لا ينتج صراخاً أو عويلاً لاحتلاله للدواخل الإنسانية وبالتالي خلق حالة من التكتم والسرانية، حالة من الكتمان انتجت بدورها حساً موسيقياً اعتمد على نقل القافية وانقطاع الحنجرة عن التصويت والضغط على القارئ بالتوقف وعدم مواصلة القراءة من أجل التقاط الأنفاس واستعادة القدرة على إعادة بناء الحس المأساوي/ الشهيق الشديد المتكسر والزفير الحاد والذي يقابل مجازاً حالة البكاء اللاصوتي النشيج.
فالتقفية في الصفحتين السابعة والثامنة مثل:
خطانا / كلانا / هوانا / نحونا / قرانا
هذه الألف الممدودة
والتقفية الثانية: السنوات / الذكريات
والتقفية الثالثة: تحملين / الترمالين / الياسمين
والتقفية الرابعة: الناصرية / عاوية / أغنية / ثانية النائية / الزاوية.
والتقفية الخامسة: الجانبي / المغربي / الذهبي.
إن هكذا تقفية تعتمد حالة تسكينية تنتمي إلى شكل صوتي لم تكن واقفة ضمن حالة من العفوية بقدر ما هي هندسية/ مرسومة لتوازي ما يعتمل في الدواخل وبالتالي تشكل المعادل الموضوعي للحزن الذي يعم خرائط الشاعر النفسية للكثير من المفاصل والوحدات الحياتية لخلق التناقض ما بين زمنية الماضي والحاضر والبقاء والرحيل. هذه الوحدات والثنائيات وإن كانت نائمة/ خاملة فالشاعر سيحث الكثير من الحيوات السالبة ليؤكد لدواخله أولاً أن الذي مضى لا بد من استهلاكه وعدم التبذير به تحت مظلة النسيان.
غير أن الشاعر في نص "جناز" يعمل على الوقوف في اللامكان خارج حدود الجغرفيات/ المدن:
"ها أنت ذا الآن
على الجانب الآخر من المرآة
في المنطقة الخارجة عن حدود الجغرافيا
حيث لا يمكن لأحد
أن يصلك على الإطلاق".
هذه الجغرافيات التي يحاول الشاعر أن يستحضرها كما لو كانت حلماً رغم دلالات الأمكنة التي يحاول الإمساك بها فهناك
مراكش / باريس / فيينا
الناصرية / الشطرة / الرفاعي
إلا أن ثقل النهايات / التففية ستدفع بالشاعر إلى أن يشبك أصابع يديه كعلاقة من علاقات الإحساس بقسوة الرحيل وأن ما يحدث لن يكون سوى قبض ريح
"الآن...
وقد انتهينا من كل شيء
فلم يعد من طائل وراء هذا السعي المحموم.
في هذا العالم...
حيث الغلبة للأفعى
في أقفاص الأبدية وحيازتها منك
الجهود، كلها، باطلة، تقريباً
وابنة الندم".
إن استخدام الشاعر النقاط كفواصل زمنية مرتبطة بالكف ولو مؤقتاً عن القراءة وكذلك استعمالاته المتكررة للفوارز كعلامات كتابية تؤكد على عدم قدرة الكائن البشري على مواصلة الكلام بسبب الضغط على مسارب الهواء المتدفق من حنجرة المتكلم.
فالشاعر لا يرمي بقصديته للقارئ كيفما يشاء بل يعمل على صناعة هندسة تدوينية إذ تتحول الجمل الشعرية إلى مجموعة معمارية تشكل بنية القصيدة المحملة بمجموعة من التنهدات/ الهواء المحبوس إذ يشكل الأنين لحالة تعتمد التكرار/ الشهقات ذاك التكرار الصوتي الناتج عن حالة اختناق مؤقت.
إذ أن القافية هنا قد لا يستحضرها القارئ للوهلة ألأولى، والتي قد تتماهى خلف جماليات اللغة. جماليات الكتابة . تلك القافية التي تكاد تتحرك من غير ملامح مثيرة رغم ثقلها. إلا أن هدوء النص ظاهرياً، يكاد يدفع بها بعيداً عن الإيقاع الذي من الممكن أن يتخذه النص فالقراءة هنا لا يمكن أن تكون صوتية/ منبرية رغم انتمائها إلى هكذا مفصل بل أنها تنتمي إلى مفصل حديث التنفس للنفس. إذ أن حالة الاسترجاع هذه تنتمي إلى ما يسمى بالحوار الداخلي المنلوج حيث ينفرد الإنسان بدواخله ليطلق ما يعتمل من حالات اضطراب غير مكشوفة / غير م?لنة. إلا أن الشاعر يعمل على إظهار سلطة الإخفاء من أجل الوصول إلى حالة من التعبير الكتوم. لاغياً بذلك فرصة انبثاق الضعف "اللاحول ولا قوة" التي من الممكن أن تظهر على سطح النص محولة إياه إلى مجموعة من البكائيات المنتمية إلى الخارج
***
لقد استطاع الشاعر صناعة حشد من الهندسات التابعة للمدن ومن الكائنات البشرية فهناك "49" دلالة معمارية لحواضر، وهناك "46" دلالة اسماء لأشخاص وكذلك قدم حشداً من العلاقات التي من الممكن وضمن حالة من التكافؤ أن تنمو لتشكل فضاءاً من السمو والمعرفة فضاء يربط ما بين النتاج المادي للمدن/ الأماكن والحالة الروحية لإنسان.
وعلى القارئ أن يبحث عن الوشائج وعن الايحاءات. والاشارات والعديد من الشفرات التي بحاجة إلى حالة سامية من الفكر وصولاً إلى مناطق الألفة التي من الممكن أن تتشكل ما بين طرفي العملية الابداعية أي ما بين المنتج/ الإنسان والمنتوج المادي/ المدن "حيث تتحول هذه المدن بكل معرفياتها المادية والروحية ورغم اقترابها عبر ابتعادها عن العدائية إلى ساحات فسيحة من الاكتشاف والبحث".

3
نصوص "أمير من أور" تتحدث عن البشر وليس عن الآلهة على الرغم من أن أرضاً كـ أور تعج كوريثة بالديانات الأرضية وبالكثير من الآلهة إلا أن الشاعر استطاع أن يسلب الآلهة الكثير مما يتميز به ألا وهو الخلود وليمنحه للإنسان سليل ووريث تلك الآلهة فهو ابنها الأرضي لذلك فإن ما يكتبه - حسين عبد اللطيف - من منجز ابداعي - هكذا سيجده القارئ لا ينخرط ضمن مفاصل الخضوع للنهايات المتوقعة/ المفترضة بل أن المتوقع لدى الشاعر من الممكن أن يأخذ أشكالاً أخرى، قد تكون ابرزها انعدام التوافق مع القارئ مما يؤدي إلى وجود/?حدوث صدمة مخالفة منتجة لقناعات معدومة/ مفقودة أي حصول حالة خيبة للقراءة البريئة حالة فشل لعملية الاستقبال التي من الممكن أن نصفها بالمجانبة والتي تعتمد على منظومةٍ مرتبةٍ.
فالنص الذي يكتبه الشاعر نص محكوم رغم انعدام رغبة وقوفه تحت سلطة حكم ما حكم سبق محكوم باللامتوقع بدءاً من أول الكلمات وحتى آخرها فليس هناك سلسلة، أو خيط، أو سلطة تنتظيم عبرها مفروزات النص الواحد، فالحالة الحياتية غير المنضوية تحت سلطة قانون ثابت، منتوج قد يعتبره البعض منتوجاً/ مخلوقاً مشوهاً إذا ما قيس وفق قناعات البعض الشخصية ولكنة الاستثناء الذي لا بد من ولادته وفق مبدأ الاختلاف وهذا المفصل هو من أكثر الملامح وضوحاً لدى الشاعر "حسين عبد اللطيف".
حالة الاستلاب قد تبدو واضحة على المنتوج الشعري رغم ايجابيات الشاعر فقوة الإلغاء/ الموت لا حدود لها والإنسان بطبيعته وعند مواجهة المجهول يتحول إلى حالة فسيحة من الاستسلام لسلطة الآخر/ الموت رغم توقعاته لما ستؤول إليه السنوات.
"نحن قد نلتقي أو يضيع كلانا
نحن قد نرتضي مرةً
كذب العمر أو ما تجيء به الذكريات
من هو أنا" دوارة الرياح.
وفي افتتاحية "بيازادي نافونا" والمهداة إلى محسن الخفاجي/ الحي وضمن حالة من التضمينات نجد أن الشاعر يفتتح قصيدته بنص للشاعر الحاضر/ الغائب - احمد الأمير - إذ يقول النص الثاني وعلى لسان المحتفى به
"أخاف من موت لا أراه"
ورغم مخالفة كهذه إلا أن الشاعر - حسين عبد اللطيف - سيظل مستنداً إلى قوة الشعر / الحياة في مواجهة الفراغ عدم الرؤية/ الموت.
وإذا ما كان الموت/ القبر يتصف بالضيق فإن الحياة تتصف بالسعة، فثنائيات الصمت/ الضجيج السكون/ الحراك الضيق/ السعة كثيراً ما تكون حاضرة وبقوة لتؤكد قوة الحياة وديمومتها واستثنائية الموت وفشله ولذلك سيجد القارئ أن قصائد حسين عبد اللطيف تميل نحو صناعة الحياة، نحو مركز الوجود. أي أن الشاعر يشتغل/ يؤسس على نموذج ينتمي لصناعة جماليات الحياة لا لحتمية الموت لذلك نجد قصائده مفعمة بالوضوح.
وإذا ما استطاع الموت كسلطة قامعة أن يوقف الامتداد الزمني للفرد الغائب مع بقاء واستمرارية الذاكرة في الإنتاج فإنه لم يستطع - الموت - أن يصنع حداً للنص الشعري الذي يكتبه الشاعر، لأن الشعر في الأساس لا يعتمد امتدادات مادية قابلة للانكسار / الهزيمة بل أن اعتماده الكلي على الروح والذاكرة هذا الاعتماد الذي وفر له حالة من الديمومة قد لا تتوقف عن النمو والعطاء وذلك وفق ما تمتلك القصيدة من قدرة إبداعية كامنة بعيدة عن الانطفاء قادرة على البروز لحظة توفر القراءة الكاشفة.
إذ أن القراءة المعاصرة/ الآنية لا بد لها من امتلاك القدرة على إنتاج نص قراءاتي جديد.