زيد الشهيد في تراجيديا السماوة (1-2) / هاتف بشبوش

وأنا أفتحُ الرواية «تراجيديا مدينة» موضوعة بحثنا هذا، أجدُ الصفحة الأولى فارغة، سوى سطر درامي موحش للمبدع محمد سعيد الصكار، يختزل تأريخ العراق الدموي، الذي يقول فيه «حبري أسود فلاتطلبوا مني أنْ أرسم قوس قزح». منذ البداية الروائي يريد أنْ ينقل لنا رسالة مفادها، هو أنّ العراق عبارة عن دم وهلاك وجرائم، فما الذي نتوقعه من روائي عراقي عاصر كل هذا الدمار على مدى عمره غير أنْ يعطيك رواية تحمل نكهة السياسة والقتل والاجتماعيات التي يتخللها شخوص عاشوا معنا وارتحلوا وحفروا أسماءهم في هذا الفلم التأريخي الذي أخرجه لنا مجازاً هو «التأريخ» حسب ما قالته الرواية، «التاريخ سجل من الجرائم وسوء الحظ... فولتير».
التأريخ أخرجَ لنا فلماً ضمنياً في الرواية إسمه «حرب الضغائن وبانوراما الهلع» وهو يصلح أنْ يكون الأسم الثاني للرواية، حيث نشاهد فيه الويلات إبتداءً من الصراع الدائر بين القوميين والشيوعيين، مرورا بأحداث 1963 الدموية، أما مصور الفلم فهو «ناصر الجبلاوي مصور السماوة الشهير»، حيث نرى كيف التأريخ يجبر ناصر الجبلاوي في «أنْ لا يترك شاردة أو واردة الاّ ويسحبها بعين عدسته». فكرة جميلة من قبل الروائي ، حيث جعل منا وكأننا نقرأ رواية ونرى فيلما في آنٍ واحد. ورغم كلّ تلك السياسة، والقتل والسجون والعنف في تلك الحقبة الز?نية، إستطاع زيد أنْ يعطينا رسالة أخرى أيضا بأنّ هناك من الحب الذي يتماهى في كلّ الأزمنة والعصور مع كل ذلك الدمار، الحب الذي يعطينا الدفق لكي نستطيع أنْ نستمر ونستمر ونعطي للحياة بهجتها التي يجب أنْ تكونها. ولذلك رسم لنا ذلك الحب الصامت من طرف يوسف لشميران الطالبة بنت لازار المسيحية القادمة من مدن الأقليات مع أبيها وعائلتها ليستقر بهما المقام في السماوة.
تعرج الرواية على واقع المرأة المرير، إذا ماقورنت بما حصلت عليه المرأة الصينية واليابانية والأوربية وسائر الدول المتحضرة، فلايمكن لنا أنْ نجد نسبة تؤهلها لتدخل هذه المقارنة. المرأة في ذلك الوقت لاتستطيع أنْ تقف وترى معرض الصور المزجج الذي يضعه المصور ناصر الجبلاوي في واجهة دكانه، لشخصيات من أهالي السماوة ، وشخصيات عراقية سياسية وأدبية، ومغنيات ومطربات ، ومعالم أخرى متنوعة، لأنّ ذلك يمس التقاليد التي سار عليها المجتمع بأكمله.
«تراجيديا مدينة» رواية من النوع التي لها عدة بانورامات، كتبت على شكل فلم ، رواية حركية سريعة التنقل في أحداثها، لاتقف الكاميرا عند شخصية معينة أو بطلٍ يصول ويجول على مدار الفلم، الفلم له بطله «يوسف» الشخصية المحورية في الرواية بالرغم من كونه ليس بالبطل المطلق الذي يأخذ تلك المساحة الزمنية الأكبر من بقية الكومبارس ، ولكنه ذلك البطل عند غيابه من أحداث الرواية في بعض فصولها، يجعلنا نتلهف لمعرفة ماذا سيحل به، وهذه الميزة لا يمكن أنْ يمتلكها أي روائي الاّ إذا كان على مستوى عالٍ من الحذلكة والفبركة لرسم أحداثها زيد يعرفُ جيدا أنّ الرواية البطولية هي التي تشد القارئ وتعطي مذاق خاص عند قراءتها، ولذلك إلتجأ الى جعل الرواية تبدأ بيوسف وتنتهي بنهايته، لكي يبقى عنصر التشويق مستمرا من البداية حتى النهاية. الرواية فيها الكثير من عناصر الجذب لتشكيلة الشاشة السينمائية لا التلفزيونية، لما فيها من أساسيات المساحة المكانية والزمانية اللتين تؤهلانها كي تندرج في مجال الصناعة السينمائية وشبّاك التذاكر، كما وأنها تحتوي على عدد الشخوص الذين يشكلون فريقا تمثيلياً مبدعا ضمن إطار الرواية وأحداثها المثيرة والشائكة، والتي صورت لنا الش?صيات على إختلاف سلوكياتها، صورت لنا الأمكنة الرسمية والعشوائية، الحرس القومي ورشاشاته البورسعيد، المقاهي، المدارس، الدكاكين، المكاتب، البوليس ورجال الأمن و الأسواق ومحطة القطار، المدن والعاصمة بغداد، الفنادق، الشوارع الشهيرة في السماوة على غرار شارع مصيوي، باتا، ثم الأزقة الكثيرة ومنها، العرايا، السبوسة، اليهود، المعمل، الداحرة ، النجارين .
الأفلام متعددة الأغراض والأنواع، وفلم «حرب الضغائن وبانوراما الهلع» ضمن رواية زيد هذه هو سياسي إجتماعي تثقيفي بأمتياز، إذا ماقورن مع الأنواع الأخرى: الدرامية، الاجتماعية، الوثائقية، أكشن، كوميديا، بوليسية، رعاة بقر، هندي وما يحتويه من عناصر الصدفة والأجواء الموسيقية الخلابة، فلم خيال علمي، أطفال،....الخ.
الرواية السينمائية هي من أهم الوسائل التي تحقق الأتصال بعامة الناس على أختلاف وعيهم ومداركهم ، لكن العقبة الكأداء في إنجاح الرواية السينمائية في بلد مثل العراق هي الميزانية ،التي تعد العنصر الأول في إنتاجها وإيصالها الى الجمهور ، فهل ياترى روايات زيد الشهيد سترى النور في الآفاق القريبة.
رواية كتبت بأسلوب لغوي قدير، مثلما رأيناه في أغلب رواياته، وبنفس الوقت كتبت بالأسلوب الذي يفتح شهية القارئ، ومن النوع الذي حالما تبدأ بقراءتها، فأنك تنذهل لمجريات أحداثها، تظل مدهوشا تتمنى لو أنّ لكَ القدرة في التواصل على قراءتها حتى تنهيها، لكنّ المقدرة البشرية على القراءة هي التي تحدد المدة الزمنية لشعور المرء بالتعب والاِعياء، وهذه تجبره على أنْ يأخذ إستراحة على أمل أنْ يكملها في اليوم التالي أو بعد ساعات استراحة كافية .
الرواية إتخذت من السماوة نقطة الأنطلاق لتعرفة القارئ بالواقع الأجتماعي والسياسي لمجمل العراق، وهي الرواية الثانية لزيد الشهيد التي تدور أحداثها في السماوة ، مثلما روايته السابقة «أفراس الأعوام» كما وأنّ السماوة معروفة للقاصي والداني على نطاق العراق بكونها المدينة التي بدأت منها الشرارة الأولى لثورة العشرين، معروفة لدى العراقيين لكونها المدينة التي تجرأت وأوقفت قطار الموت المعروف حتى اليوم، والذي تطرقت الرواية له في أحد فصولها، القطار الذي زُجّ فيه خيرة العناصر الوطنية أنذاك لغرض قتلهم جوعاً وعطشاً وهم في طريقهم الى نقرة السلمان، وهذه واحدة من جرائم البعث، لكن جرأة السائق الشريف الذي أوصل القطار بأسرع ما يمكن في إختزاله للوقت، وشجاعة أبناء السماوة، أنقذوا ما فيه من الرجال الأخيار.
الروائي زيد كان مذهلا في السرد الروائي الذي يجعل من القارئ متلهفا لمعرفة أسباب الجريمة التي لم نستطع أن نعرف دوافعها الأساسية في البداية . لكننا بعد مجريات أحداث الرواية «الفلم» نعرف بأنّ السلطة الحاكمة وجرائمها تريد أنْ تشوه سمعة الثوريين أنذاك فتلصق تهمة الجريمة بيوسف إبن «سلطان شاهر الضحية»، لغرض إبعاد التهمة عن المشتركين الرئيسيين في إرتكاب الجريمة «شرّاد هديب، شتيوي الياور، رشاش جاسب المفوض في الشرطة»، وفي نفس الوقت التخلص من شاب مثقف شيوعي أو ملحد أو من هذا القبيل حسب ما تدعي السلطة البوليسية البعثية المجرمة أنذاك، فهنا أشتركت الجريمة المنظمة والسياسة في بلدٍ مريض لايمكن له الشفاء الأ بقدرة المستحيل. ثم في نهاية الفلم «الرواية» نرى الحال المبكي ليوسف المثقف الشيوعي الطيب الذي سُرقت حياته منه ظلماً وعدواناً.
كاميرا الفلم ومخرجه التأريخ، تتنقل بين الكثير من المشاهد المختلفة والمترابطة التي تشكل عصب الرواية أوالفلم السينمائي الذي يصوره ناصر الجبلاوي ً، فنقرأ عن شتيوي الياور «شخصية مجرمة» كيف كان يجلس في مكتب المقاولات الخاص به، ويضع خلفه صورة تتبدل في كل مرة، فتارة لعبد الكريم قاسم، ثم عبد السلام عارف، ثم عبد الرحمن عارف، وهناك لوحة خط عليه «الخدمة غايتنا... الأخلاص طريقنا»، بينما هو الشخص المرائي، الكذاب السكير المعربد، والمتمايل حيث تميل الريح والمجرم مع سبق الأصرار، وبه من الشر لايفوق شرّاد هديب، وهناك علاقة ترابط لايعرفها الناس بينه وبين شرّاد هديب ورشاش جاسب الشرطي، الذي ينطبق عليه قول لينين «اذا سقط المرء أصبح شرطيا».
تدور بنا الكاميرا الى تلك الأيام والتظاهرات التي يقيمها عمال السكك في السماوة، وهم يرددون النشيد الأممي «هبوا ضحايا الاضطهاد. ضحايا جوع الأضطرار.. بركان فكر في أنذار... هذا آخر إنفجار» الذي كتبه الشاعر الفرنسي «يوجين بوفير» 1871 بعد فترة وجيزة من كومونة باريس. التظاهرات تشارك فيها شميران وأختها وبنت المؤمن ونخبة من المثقفين التقدميين في السماوة، وكان يوسف لو يعرف أنّ شميران كانت هناك لشارك فيها، وبذلك يكون قد حقق الهدفين، هدف الوطنية وهدف الحب المنشود.
تنتقل الكاميرا لتصور لنا شخصية ألهمت الكثيرين من الأدباء في السماوة وهو «مجيد المجنون» وكيف كان مجيد متعلقاً بأفلام الويسترن الامريكي، حيث يُسخّر الروائي زيد حوالي إثني عشر صفحة يكتب فيها عن مجيد وكيف كان يمثل أبطال رعاة البقر، لنر هذه الشذرة أدناه من الرواية بخصوص مجيد وتمثيله لأفلام الويسترن.
«ومن أجل أنْ يبدو ككاري كوبر، وجون واين، وغريغوري بك، إستعان بالبنطلون والقميص والحذاء الذي يرتديه، في المدرسة، واحتاج لقبعة تشبه قبعة كاري كوبر، ولما شكلت القبعة عائقا لتحقيق كامل الحلم، والظهور بمظهر راعي بقر لاتنقصه ناقصة، جذبته تسريحة جيمس دين في فيلمه «ثائر دون سبب وأعجب بها مقرراً أن تكون بديلة للقبعة». ثم نراه يصعد فوق سياج مدرسة سومر العريض ليقوم بتمثيله المذهل عن أبطال رعاة البقر كما نقرأ أدناه:
«يصل مدرسة سومر، يتسلّق جدارها الحجري، ويروح يتهادى، يطالع الأرجاء بحثا عن منافسين بالمسدسات الريفولفر ذي البكرة المتحركة، يبغون مقارعته أو هنود حمر يكمنون لحيان الفرصة والهجوم عليه، بين لحظة وأخرى يستدير فيستل بسرعة خارقة ، فكي خروف من غمدين هما كيسا جلد ربطهما بحزامه حول خصره، الفكان استخرجهما من مخلفات بائع باجة وكوارع وجعلهما مسدسين تدرب كثيرا على إستخدامهما».
تلك هي أيام الطفولة العراقية البسيطة والزاهية في بعض أحيانها، وذاك هو مجيد الذي تنبأت له الناس بأنه سيفقد خيوط الذاكرة، سينتهي دونما ذكرى لرعاة البقر ومدى حبه لهم، سينتهي ويخلف لنا حزننا عليه سيكمل بقية حياته فاقداّ خيوط العقل المتواشجة والتي رسمت لنا من إبداعها أجمل مجيد كاوبوي الذي لا يتكرر أبداً، مثلما أفلام الكاوبوي التي لاتتكرر هي الأخرى. وإنتهى بالفعل الى جنونه الأبدي الذي جعل منه غريبا عن إبداعات العقل. ومن العجيب جدا أنّ مجيد مات بالقرب من سياج مدرسة سومر ملقىً على قارعة طريقها، تلك المدرسة التي كان فيها قد مارس بطولاته فوق سياجها العريض، وآه من هذه الحياة التي تتلاعب بنا حسب أهوائها وما بأيدينا أية حيلة ٍ كي نبتزها ونحصل على ما هو أفضل لنا منها، تبقى تفرض علينا قساوتها و تجعلنا مسيرين لا مخيرين، تجرنا من ياقاتنا الى جبابرة الموت كي يلقون بنا في أمكنة الطفولة التي كنا نلهو فيها ونسطر أعذب ذاكرةٍ خلابةٍ، تجرنا كي نموت على أعتاب طفولتنا التي ليس لها حول في إرجاعنا كما كنا، فنموت مع حسرتنا مثلما مات مجيد، قرب سياج طفولته الذي أصبح نعشه فسار به الى الفناء، ولكنّ مجيد مات دونما حسرةٍ تذكر.
ثم تنتقل الكاميرا الى شخصية أخرى من السماوة وهو «نجم» وكيف كان يحلم أن يكون له جسما كجسم الممثل وبطل العالم في الكمال الجسماني ستيف ريفز، بطل أفلام «هرقل الجبار، وحصان طروادة» تلك الأفلام التي أخذت منا أشواطا في عقل طفولتنا طائرين على أمل أنْ نشاهد يوما أنفسنا أبطالاً مثل ستيف ريفز وما كل ماتتمنى الطفولة تدركها، لنر ما قالته الرواية عن أحلام نجم....
«ظلّ سحر قامة وبناء جسم ستيف ريفز الجميل بالعضلات المنتفخة، يتنامى في مخيلة نجم، وظل نجم لأيام متتالية يدخل فلم هرقل الجبار، يطالع الصدر الممتلئ وعضلات البطن الست تبرز بتناسق يشبه تناسق رخامات على صفين، لكل صف ثلاث عضلات يكون ترتيبها عموديا».
لكن نجم لم يستمر طويلا، إذ أنّ التمرين لم يعد ينفع معه، ولم يعد يطيق صبرا طويلا على تنامي عضلات جسمه، فخابت أحلامه وذهبت أدراج الريح.