«ديوان عنتر».. عالم صوفي يقوم على الكلمات والأحلام / محمد محمد خطابي*

كتاب "ديوان عنتر" للشّاعرة المكسيكية إلسَا كْرُوس، من الكتب التي ما زلتُ أعود إليه بين الحين والآخر لاستمتع بما يتضمّنه من أشعار رقيقة لهذه الشاعرة المُبدعة التي لابدّ أنها هامت حبّاً وإعجاباً بفارسنا العربي المِغوار القديم حتّى تَضَعَ إسمَه على هذا الديوان الذي يتغنّى للحبّ، ويصدحُ بالكلمة الحلوة، ويَحفل بالحرف البهيّ البهيج، هذا الكتابُ سبق له ان حصل على جائزة شعرية مرموقة في مدينة "أغوَاسْ كاليينتيسْ" (المياه السّاخنة) ببلدها المكسيك.
يقول الناقد المكسيكي "ريكاردو بولينز": "هناك مَنْ يرى ان الشّعر هو الحقيقة والجمال المعبّر عنهما بواسطة الكلمة، إلاّ ان هذا التعريف يزيد في فتح أبواب الغموض على مصراعيها، إذ يمكن ان يُقال: ألا يتسرّبُ الضوء إلى عينيك بمجرّد ان تفتحَ جفنيك..؟ ويتّضح لنا بالتالي ان الجمالَ لا يمكن تقييمه أو الاستمتاع به بدون ضوء".
ويضيف نفس الناقد قائلاً: في اللغة الصينية هناك كلمة "وين" للتفريق بين اللغة الشعريّة، واللغة العادية، فإذا كانت كلمات القصيدة تتألف من "وين" فإنها تحقق الهدف المنشود من كتابتها الذي يذهب أبعد من مجرّد تقديم تجربة جمالية، إذ ان الشاعر بذلك يحصل على عفو الخالق، لأنه صانعُ وواضعُ هذا الجمال.
ان "وين" هو تجسيد عبقرية الشاعر في التعبير عن روح ثقافة الشّعب لتُصبحَ فيما بعد شهادةً كونية، وتُصبح بالتالي انعكاساً للحقيقة. وهذا التصوّر هو الذي يجمع بين الخيوط التي تمتدّ من "إلياذة هوميروس" إلى "أرض اليباب" ل : ت. س. إليوت.
ان الشّاعر الحقّ يظلّ واعياً بهذه الصلة التي توحي بها كلمات "الوين" فهي الطين أو الفخار أو الصّلصال بالنسبة للبنّاء، ولكن ماذا يحدث عندما يرفع عينيْه عن هذا "الفخار" الذي يعجنه بين يديه، وينظر إلى العمارة الكبرى التي تتعالى أمامه؟ ويشير الناقد إلى ان جميع الثقافات الشّعرية العريقة لدى مختلف الشعوب إنما هي في الواقع تحاول إبراز هذا "الوين" أيّ ان تجعلَ من أصواته المتعدّدة صوتاً واحداً.

ديوان عنتر

ان "ديوان عنتر" للشّاعرة إلسَا كْرُوس يُجسّد هذا التصوّر، هذه الباقة من الأشعار الرقيقة تنقلُ قارئها من عالم الواقع إلى عالم من الإبداع، والتأمّل الفريد، انه إتّصال مباشر بكل ما هو جميل ومُبْهر.
ان علاقة الحبّ المحمومة تُدْنينا من عالم صوفي أثيري بديع، يقوم على الكلمات، ان قصائد هذه الشاعرة ليست وليدة هذا التأمّل، أيّ ان شعرها ليس تأمّلاً من أجل التأمّل، بل انه التأمّل ذاته. ان هذه القصائد تبدو سهلة وميسّرة، يجد القارئ نفسَه معها منذ البداية مسوقاً إلى نوع من الاستبطان الجوّاني في عمق الحياة، واستكناه أغوارها، وأسرارها، وألغازها، وغوامضها. وهنا نكتشف البساطةَ التي كُتبت بها هذه القصائد. انه ما يُعرف إصطلاحاً بالسّهل الممتنع. ان متابعة قراءة هذه القصائد الموفية الصّادرة عن قلب امرأة مُفعم بالحبّ يقدم الدليلَ على مدى شفافية الشاعرة ورقّتها، ونُضجها الإبداعي، وثراء مضامينها، قراءةُ هذه القصائد تجعل القارئ يلمس مدى عمق وشفافية العاطفة المشحونة بها. انه عالم قائم على أحاسيس مُرهفة، أو مشاعر مُتْرفة تتفجّر من الداخل .

واحات كثيفة

وتشير الناقدة "غلوريا غارتيش" عن هذا الكتاب:"تُوحي هذه الباقة من الأشعار بحضور جديد في الوسط الشعري النسوي في المكسيك، انها أشعار تقوم على الأحلام التي تتراءى للشاعرة "إلسا" أثناء يقظتها، انه شِعْر يشبه تلك الأيام التي ليس في اللغة كلمات لوصف جمالها، ورونقها، وبهائها، تلك الأيام التي تتوقّف أو تتعطّل إزاءها الحواس الخمس، ان هذا الكتاب عبارة عن حوار يقوم بين أحجار عارية في صحراء نائية، وبين واحات كثيفة تنتشر على ضفاف الانهار. انه انفساح الهضاب، وشمس منتصف الليل، أو سراب الرّغبة، وتوقّد الذّاكرة وشحذها .
تعيش الشاعرة في القصائد التي يزدان بها هذا الكتاب في إمبراطورية الدّور المُعلقة، وترتاح في إسترخاء على شطان خيالية، وتسبح في بحر بنفسجي، وهي تنسجُ أو تنسلُ ثوبَ الأحلام، والشاعرة في هذا الديوان لا تنقصها الشجاعة للتفوّه، وذكر اسم المحبوب لترفع من نسيج خيالها مدينةً لا أسوار لها، ولا أسقف لها. انها تحاول فكّ رموز ذاكرتها، فشعر إِلْسَا كْرُوس يعيش، ويعشش تحت شمس من نوع آخر، في أبياتها إلحاح، وصمود، وعشق، وهيام، وصدّ لأمواج البحر الهادرة التي لا تنفكّ تلطم الصخورَ المتآكلة التي انهكها التحاتّ منذ الأزل، شعرها المتدفق يفيض رقّة، فيه نعومةً الرمال، وصبر وأناة الريّاح.
ان الدخول في نصوصها الشعرية يعني الدخول أو الإرتماء في خضمّ مغامرة فريدة، إذ سرعان ما يجد القارئُ نفسَه في عالم آخر جديد، بل يجد نفسه وحيداً، ويبدأ في الحذر والحيطة مخافة ان يقطع عنه حبلَ الاستمتاع بهذه الهنيهات السعيدة رنينُ هاتف، أو بابٌ يُغلق بشدّة.
شعرَ "ديوان عنتر" يستوعب قوّتَه وزخمَه من الأشعار القديمة، لذا فإننا نجده يتميّز بمسحة صوفية نقيّة، انه تجسيد لخيال رباعيات الخيام، وأشعار زوايا وتكايا مولانا جلال الدين، أو ابن عربي المُرْسي، أو تفجير لشطحات وخيالات الأساطير الإغريقية واللاتينية القديمة، أو تحليق على مطايا أشعار التصوّف في إسبانيا في العصر الذهبي، كثير من هذه الوجوه من مختلف الجنسيات، والإثنيات تهلّ وتطلّ علينا بهامتها من خلال هذا الكتاب.

لماذا هذا العنوان..؟

لماذا عنتر..؟ لماذا إختارت الشّاعرة هذا العنوان بالذات، وليس في قصائدها أيّة إشارة إلى عنتر..؟ انها تقول في ذلك : ان هذا الاسم مرّ بها خلال قراءاتها المبكّرة والمتعدّدة للشّعر العربي القديم عن طريق مراجع أو مصادر فرنسية فأعْجِبتْ كثيرا بهذا الاسم، وبقصّة حبّه، وتيمه، وهيامه بخليلته عبلة فَعَلِقَ هذا الاسم بذهنها.
وكان قد جمعني لقاء بالشّاعرة إلسا كروس في إحدى دورات المهرجان الشّعري العالمي بالمكسيك خلال وجودي وعملي بهذا البلد الأزتيكي الجميل، فقلتُ لها حينها انني قرأت كتابها "ديوان عنتر" وأعجبتُ به، وأحتفظ بنسخة منه، إهداءً منها لي، وأخبرتها انها قد أصابت الاختيار في العنوان الذي أطلقته على ديوانها، بالقياس إلى مضمونه على الأقلّ، فعنتر شاعر رقيق، وفارس مغوار، يتألّم لتحمحم فرسه، انه يَغْشَى الوَغىَ ويعفّ عند المَغنم، وهو شاعر عاشق متيّم، وان له أشعاراً جميلة جدّاً في التغنّي بالفروسية، والحياة الكريمة، والغزل بمحبو?ته، ابنة عمّه عبلة "ابنة مالك" وانه على الرّغم من لون جلده، فهو شاعر ذو أنفة وعزّة وشموخ وهمّة عالية، همّته "فوق الثريّا والسّماك الأعزل" وانه أشجعُ قومه، فعندما هوجمت قبيلته عبس قام إليه عمّه يقول له: "يا عنتر كرّ" عندئذ قال كلمتَه الشّهيرة: "العبدُ لا يُحسِنُ الكرّ ولكنه يُحسِنُ الصَرّ" فعندما قال له عمّه : كرّ فانت حرّ، قام وأنشد يقول: لمّا رأيتُ القومَ أقبلَ جمعُهم، يتذامرون كررت غيرَ مذمّمِ إلى أن يقول:

ولقد ذكرتكِ والرّماحُ نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دميِ
فوددتُ تقبيلَ السّيوف لأنها
لمعتْ كبارق ثغركِ المُتبسّمِ

عندئذ انفرجت أسارير وجه الشاعرة إلْسَا، وندّت شفتاها عن إبتسامة عريضة، وازدادت عيناها النَّجْلاوان كِبراً وبريقاً، وقالت لي يومها : ليتني سمعتُ منك هذا قبل طبع الديوان .
وكانت الشّاعرة قد كتبتْ لي في كلمة الإهداء "أعدك بأنني سأعملُ على دراسة هذا الشّاعر النبيل حتى لو تطلّب منّي الأمر تعلّم اللغة العربية التي كتب بها أشعاره.. أَلَمْ يفعل ذلك خورخي لويس بورخيس حتى ولو كان قد جاوز الثمانين من عمره.."؟

نموذج من أشعار
«ديوان عنتر»

وننقلُ فيما يلي إلى اللغة العربية لأوّل مرّة إحدى قصائد هذا الديوان، وهي بعنوان: أَسْهَرُ عَلَى نَوْمِك:
تغطّيكَ ألحفةٌ شفّافة
تكاد تلامسُ جفونَك
عندما تشرقُ الشمس
تتعالىَ أعمدةٌ من دُخَان
فى القُرَى والمَدَائِن
من الضفّة الأخرَى للوُجود
أَشْعُرُ بعينيك تتخلل بداخلي
أَشْعُرُ بأنفاسِك
تمرّ بي كأصص من الياسمين العربيّ
أنتَ زهرةُ مَحْتدِك
وربيعُ أَصْلك .
ــــــــــــــــــــــ
* كاتب من المغرب يقيم في اسبانيا