الخصوصية الذاتية في مغامرة كاظم نوير / د. مكية الشرمي*

دفع الهاجس الذاتي البعيد عن الانغلاق، بالفنان كاظم نوير، إلى أن يجد في جذور الرسم حلمه الذي صار علامة للحوار، إذ أنّ خلفيته الأكاديمية سمحت له بالإطلاع على مجمل أساليب الرسم قديمها وحديثها، وهيّأت له فرصة الإنتقاء منها، وهذا لوحده ليس ذا قيمة إلاّ إذا انصهرت تلك البنى التصويرية المستعارة في مرجل شخصية هذا الفنان كي يمتص وينبذ ما هو خلاف ذلك.
وليس هذا إلاّ دليلا لتهيّئ الفنان لمستلزمات الصراع مع السطح، فيما يغدو ذلك السطح ندا حقيقيا، ولا خشية عنده أن يغدو المصير الإنساني معبرا عنه بالخطوط الهائمة المظلمة أو الأشكال المحطمة وسط الفضاء، لكنّها تبقى معادلا موضوعيا لذاتية الفنان الباحثة عن الأشياء وسط ضياعها، وحين يختار من الرسم النمط التعبيري، فلأنّه يعرف كيف تصبح أشكاله صدى لنوازعه، وحساسيته التلقائية وهي تذوب مع المساحة التصويرية.
فقد عمل هذا الفنان على تحويل السطح التصويري إلى دال مكتف بذاته، والخلاص من ثنائية الذات والموضوع، ممّا جعله ملتصقا مع البيوت ومرتبطا مع جذره الاجتماعي، إنّها عين الحدس التي اتّشحت بالرؤية المكانية للزمان، إنّه زمان عتيق يلقي بغباره على الجدران والمباني والشوارع، لكنّه لا يتوقّف أبدا، ممّا شكّل سمة الهوية المتعالقة في الذهنية العربية، وبحثا وتأكيدا لإزدواجية حضور الماضي والحاضر، كما أنّها شكّلت محاولات حثيثة لدراسة الارتباط بين شكل الحداثة المتعلق بالحاضر وإعادة هضم التراث أو إرساء نموذج غير متقطع عنه. فقد ?صل اتّفاق بدأ بتحقيق انسجام داخلي مع الذات، والانطلاق لممارسة الفعل الجمالي والفكري اتجاه المجتمع والخطاب السياسي، لكن هذا القلق أكثر المكونات الأساسية ظهورا، تلك المكونات التي هيمنت على مجمل التفرعات والأساليب في الساحة التشكيلية، منذ العمل على الإستعارات البغدادية، وحتّى أكثر الأعمال تجريدية، فالبعد الذاتي متأصّل في الثقافة العراقية، قرين بتلك الإنفلاتات التاريخية والتقلبات الضخمة في تاريخ العراق.
وهذا ما نستشفّه في تجربة كاظم نوير، التي تميّزت بتجريبية عالية من خلال تحولاته الأسلوبية، وهي سمة بارزة لوعيه لما تتطلّبه حداثة الرسم وانزياحه نحو التعبيرية التجريدية أو سماتها الإنفعالية والشكلية، إذ أنّ ثيمة أعماله هي طبيعة الدمار النفسي الذي يتعرض له الإنسان، حيث تختفي حركته إلاّ بوجود بعض الشظايا. فقد عمل هذا الفنان في بعض أعماله على إنشاء بناء جديد يكشف عن مشاعر محملة بالصدق والحرية "أجساد تتكرر في فضاء اللوحة، أو بعض من أجساد بشرية، أجزاء من بسط شعبية وحيوانات..."، وهناك بعض لوحاته تمثّل إحساسا بالنشوة والفرح، تذكرنا بتكوينات "نيكولا دوستايل"، مفضلا العمل بألوان تقترب من ذاكرة فطرية المكان، ولوحات يستخدم فيها خامات ومواد مختلفة، إنّه يعمل وفق مشاعر وانفعالات مختلفة، لكنّها نابعة من ذات تولي الانفعال أهمية.
فرؤية كاظم نوير كما تكشف عنها بعض أعماله، هي تحرير لما توحي به الأشكال أو تشي بها الأساليب الأدائية على وفق ذاكرة الموقف المعلن أو القابل للتأويل لذلك، من خلال معالجته للسطح التصويري وبراعته في الحذف والاختزال وتصوير الحدث أو مجموعة الانفعالات، فلوحته تصوّر لنا مشاعره اتجاه تلك البيوت القديمة، أو ما اختزنته تلك الجدران، قد بان من خلالها ولاء هذا الفنان لمعطيات الواقع المدرك والمتخيل على السواء، وهذا ما جعل تجربته تتّصف بملامح أسلوبية مغايرة لما هو سائد، حيث بحث هذا الفنان عن خطاب يُلائم نضوج رؤاه وطبيعة المرحلة وما تمليه، بما ترشحه حتمية التاريخ وحركة الرسم، محاولا الإمساك بإنزياحات عدّة، والعمل على توظيف مختلف خاماته ورموزه المحلية داخل بنية العمل الفني.
أراد كاظم نوير تأسيس ملمح خطابه الجمالي والاستقرار على مفهوم ذاتي خارج التداولية المعهودة، لذا ناور في المزاوجة بين ما هو واقعي محتدم وما هو مجرد علاماتي لجعل اللوحة تحمل صفاتها الظاهرية، بما تستمده من الواقع المعيش في جزئياته المكونة، مستندا على منظومة تحيى في الكثير من مرجعيات بيئية وفنية تتدرج من التشخيصي إلى المجرد إلى الغنائية التجريدية في ضوء علاقاتها اللونية، وقد أدرك أنّ التعبير المباشر وإدانة الواقع غير مجد للحد الذي يدعم خطابه الفني، فإجترح لنفسه منهجا اتخذ من الرموز والعلاقات البنائية المجردة محورا للاشتغال وتشييد نظم الواقع الجديد وإعادة ترتيبها داخل الفضاء التشكيلي، ممثلة لصراعات العالم ونزاعاته وإرثه وهواجسه الناقلة لها، ضمن رؤية تضع قوانين الردع والمعالجات غير المرئية داخل الخطاب البصري.
فقد أشّرت المدركات الفنية هذا التغاير الأسلوبي بعدما أطلق الفنان العنان لذاتيته، من خلال توظيف معطياته بما يتساوق وغنى المضمون الفكري لأعماله التي بقدر ما استفادت من المنحى التعبيري التجريدي، نجدها قد استثمرت بعض العلامات الأيقونية التي تحيل المتلقي إلى أعماق البيئة المحلية والريفية، بمنظور الفنان القائم على التكثيف والإيقاع المشهدي، الذي يتلاشى في الصورة الحديثة طبقا لفاعلية الأداء الدرامي المعروفة، ليبدأ النص البصري بتحديد مكان الحكاية وزمانها على نحو يتعاضد فيه الزمان والمكان معا، ويتحول المكان من كينونته الحسية المجردة إلى فن تشخيصي أو يحدث العكس أحيانا كما في لوحته "حكاية من الديوانية" أو لوحة "أساطير من الجنوب"، مؤكدا الانتماء والعلاقة المتبادلة بين الواقع والفنان.
احتوى التكوين العام للمشهد أشكالا تراثية رمزية، مستمدة من حضارة العراق القديم والموروث الإسلامي، ذات مفردات بصرية، استمدّ الفنان قيمتها الجمالية من عمليات التراكب الحاصلة في تفاصيل الكتل البنائية، والتي أعطت بعدا أسطوريا، أسهم ذلك في إعطاء تباين واضح في الأحجام، وقدرته التعبيرية الدلالية على التلاعب الواضح في مستوى حساسية الخط وتنوّعه، ممّا جعله يعبر عن المشهد بتلقائية عالية من خلال التضادات القوية بين الخطوط المستقيمة والمتموجة. وبهذا فإنّ اللوحة هي مكوّن مختصر لأساطير الجنوب، وعنوانها قد ساعد في اكتشاف ومعرفة وقراءة العناصر فيها، وفق تصوّرات الفنان الذهنية، التي حاول من خلالها أن يصل إلى أشكال تنتمي إلى الروح، إلى الذات وليس إلى الجسدي المادي من خلال اللاشعور، للوصول إلى المدرك ذهنيا وإلى الجوهر الخالص.
أمّا لوحة "حكاية من الديوانية" فتمثّل صورة سردية، اعتمدها الفنان، نتيجة حضور واضح للنزعة المثيولوجية التي تستوعب معنى المحلية أو الشعبية، فالفنان هنا يسرد حكاية تتداخل فيها الأشكال والصور والرموز والعلامات والبنى الإشارية المختلفة مع بعضها، لتشكّل في النهاية خليط متجانس لا يقوى أن يفكّ الصلات القائمة بين الشكل والمضمون، فالمعطيات التي تتشكّل هنا تأتي وفقا لدوافع نفسية وإسقاطات ذاتية، تعتمد تارة على التوصيف البصري للأشكال المنتقاة، وتأخذ مساحة الاشتغال طابعا ميتافيزيقيا تارة أخرى. إنّ تجسيد الصورة هنا هو إفراح عن هاجس ذاتي يقرن خصوصية الطابع المحلي للمدينة الديوانية، فتصبح قيمة الموروث المحلي بمثابة حالة ترابط وثيق بين الصور الآدمية والحيوانية والبنائية، وكذلك الأسطورية، حيث يتحوّل البصري إلى رمزي والعادي إلى مجرّد والظاهري إلى جوهري.
ففي رصد المشاهد المتحركة بعناصرها التشكيلية، نعثر على ذاكرة التناص، من الرسم ومن الطبيعة ومن البشر، كي نعيد ترتيب الأجزاء بحسب بثها، ونمنحها معناها بما نمتلك من التأويل. فهذا الفنان يحطم الأشكال بنزعة تعبيرية لصالح افتراضات مرئية وتجريبية ويغامر بممارسات متعددة، غير أنّه يختار أشكاله، وينحاز لمكوناته، كقريته، وتحويرات المعاني إلى نظام داخلي من العلامات، كما أنّه لم يتجاهل قوانين عصره وأزمات زمانه، لأنّه ولد بسببها، وفيها، الأمر الذي جعله لا يغادر مغزى التمسك بالمعنى، فجاءت تكويناته مجموعة من الرموز والأشكا? المستوحاة من أجواء مدينته الديوانية، موزعة على السطح التصويري من دون أن تفصح عن معناها، إنّ هذا الانتشار في الدوال، ضمن تشكيل مفتوح يؤمن بالتشظي واللعب الحر بالأدائية التي تعني انتشار المعنى وانفجاره وتشظيه.
وتتّضح ملامح التشظي من خلال اللامركزية الواضحة في بنية السطح التصويري، وتفعيل دور الهامش إزاء المركز، وتفكيك الكتل والانتشار اللوني، في محاولة لدمج السطح بالعمق وتماهي أحدهما مع الآخر، والانفلات من الثبات إلى المتحرك، ممّا منح الخطاب البصري قابلية الامتداد إلى خارج أبعاد السطح التصويري، وهذا ما يظهر بشكل واضح في طبيعة العلاقات والتقنيات والأشكال، ممّا يدّل على إطلاق ذاتية الفنان وتوظيف معطياته وغنى مضامينها الفكرية، مستثمرا بعض الأشكال الحيوانية الأسطورية بجانب الأيقونات، معتمدا المراوغة مع الشكل بقصد التعبير عن المعنى الذي تتلبسه الأشكال المقترحة.
بهذا يمكن القول بأنّ هذا الفنان استطاع من خلال خطابه الأسلوبي، التعبير عن حالة التشظي، كما حاول أن ينطلق في فضاءات لوحته وفق رؤية تسمح للتلقائية والعفوية الواعية أن تفعل فعلها مع التحولات الأدائية لحالات الحلم والمخيلة، لتفريغ ما بذاكرته المعرفية من أشكال مفككة وصور ممزقة عن الواقع. فتلك الهيآت الشكلية التي تبدو أحيانا كأجساد ورؤوس بشرية وحيوانية، تنتشر وفق رؤية الفنان في كسر المنظور التقليدي، فأحجامها مختلفة تخترق السياق الواقعي لمكونات المشهد، لتحيله إلى نوع من العلاقات اللامنطقية التي يكون لها فعلها الإ?داعي وخطابها الجمالي من خلال تفكيك ذهني للدلالة الجمالية، وإزاحة لضوابط التنظيم في اللوحة، ممّا أعطى للعمل حرية أكبر للتعبير عن إسقاطات الذات الحرة، فبدأ المشهد أقرب إلى رؤية ينفتح فيها التأويل إلى أقصاه.
وبقدر ما تمنحنا القراءة البصرية لمثل تلك الأعمال فرصة للتأويل بسبب احتفالها بالعلامة والرموز السيميائية التي أضفت عليها سمات التحويل الدلالي، إلاّ أنها كشفت عن أسلوبية تناصية قادتنا إلى مناخات طفولية بريئة كامنة في الذاكرة المتراكمة، من خلال إزاحته لما هو خاص إلى منطقة الشمول على صعيد الدلالة الذهنية والتأويل، كونه يرسم مشاهد لحكايات وأساطير لأشكال حيوانية لها دور الباث، إنّه يرسم بعيدا عن السرد المباشر ويعلن عن الكلام بالخطوط والألوان، فالمعنى يبدو بعد التأويل كامنا في الآخر لوجود نزعة متمردة في لوحاته تك?د تعلن عن التجريد التعبيري الذي يخفي عشرات الحكايات والرموز والدلالات داخل المعنى البصري المتداخل الذي أعلن عن ذاته، وهنا تكمن لذة الرسم.
فقد عمل هذا الفنان على إعادة صياغة المنجز العفوي، والمتناثر والرمزي، ليندرج داخل بناء تتحقّق فيه نزعة الحدث والحداثة، نظاما يواجه مصائر الحداثة الأوروبية، فالتصق بمكونات جسده/ ذاكرته/ متحفه الشعبي، بانتباه حاذق وبأسلوب منح الذاتي ساحة بلا حدود، من خلال سعيه إلى مجاورة الحدث المتحرك بما يمتلك من امتداد، ليجعل منه نسيجا للوحة تتجانس فيها المتضادات والعناصر والرموز، بما يمتلك الحدث من دلالة وامتداد، فهو يدحض الغياب ليشاركه انبعاثه من جديد، حيث يغدو الموروث الشعبي حداثة لا تحدق في العدم، بل يصبح بؤرة تبث أسئلة الغياب، وشفافية الحضور، النص بوصفه إشكالية، إنّما عبر حضور الأطياف وغيابها.