غادي تدنه / علي ابو عراق

إذا كان تفسير بعض علماء الاجتماع لظاهرة العنف والعدوان بمجملة بتمثل بانطلاق الشهوات والميول الغريزية من عقالها إلى حيث تتلمس الإشباع عن طريق هذا السلوك.. (كحب الأنا ، وحب السيطرة والشعور بالتفوق على الآخر، والشعور بالنقص إزاء الآخر، وحب المال..
والجنس، والحب بمختلف مظاهره وتمظهراته المختلفة) ألخ. ويقسموه تجريدا إلى نزعات بنائية يوصفوها بـ(دوافع الحياة).. وأخرى هدمية يطلقون عليها (دوافع الموت).. ووفق هذا المنظور ستندرج جميع الفعاليات الإنسانية أو معظمها قديما وحديثا تحت هذه الرؤيا الإجمالية وسنجد فبها تفسيرا مهما للتشابك الأزلي بين الحرب والحب والغضب والرضا واقتتال الأخوة والنزاعات العشائرية وغيرها من الدوافع المتناقضة.. لذا سيجد المتتبع لخارطة هجرات العشائر العراقية ضالته ليس بعيدا عن هذا التفسير.. وها نحن نجد العشيرة الواحدة تتناثر على الجغرافية العراقية من الشمال الى الجنوب بشكل يوحي بشتات مأساوي لهذه التجمعات التي تنتمي لأرومة واحدة في الغالب.. صحيح أن لهذا أسبابا اقتصادية تتعلق بتغير أنماط وأساليب الإنتاج ونشوء الدولة الوطنية الحديثة والمدن والتطور الصناعي والثقافي وتعقد الحياة الاجتماعية والسياسية ولكن هناك الكثير من الأسباب تتعلق بهذه العشائر التي تعتمد حياتها على تربية الماشية وتعقب الكلأ والماء لديمومتها واستمرارها. وقبل هذا وبعده لا يمكن تجاهل التفسير الذي يشير إلى أن العنف والنزاعات وانطلاق الشهوات في الاستحواذ والسيطرة والغلبة تشكل السبب الأبرز في هذه الارتحالات.. وقبيلة زوبع التي هي من اكبر القبائل العراقية كما يقول شيخها.. فهي قد تمددت من البادية الغربية إلى البادية الجنوبية وانتقل جزء كبير من رجالها عبر الصحراء الممتدة من شمال غرب بغداد إلى البصرة جنوبا ربما لتجنب المواجهات الدموية والخلاص من دواعي الثأر وتجنب اقتتال الأخوة..كانوا يكتبون القصة القديمة الجديدة على تلك الصحراء الشاسعة أو ما يسمى بمنطقة الجزيرة التي بعد أن تهتز وترتوي بالمطر تتفتق عن بحار من العشب الشديد الخضرة لتشبع نهم آلاف الجمال ومئات الآلاف من الأغنام والمواشي الأخرى التي أرهقها شح الخريف وزمهرير الشتاء..فتنطلق الأسارير وتبتهج النفوس وتزهر الحياة وتتفتق الرغبات ويطيب الغناء.. وينسيهم الربيع المزهر في هذه المروج الممتدة بلا تخوم.. لفح سموم وعصف الصيف ورياحه السافية.. ويبعد عن ذاكرتهم الحداء المر الذي كانوا يحاولون به خداع جمالهم المتعبة لحثها على المسير.. فيربعون بهذه الأجواء.. ويحثون جمالهم وباقي مواشيهم على الوطء والتناسل..فليس انسب من الربيع لنداءات التكاثر والخصب والحب ايضا.. وبعد ان اكتشفوا ان هذه الجزيرة القريبة من مدينة قلعة سكر منجما لا ينفد للعشب وموئلا لكل عناصر الحياة فضلا عن قرب سوق المدينة الذي يلبي بعض حاجاتهم للطعام وبالأخص الدقيق والشاي والسكر.. فهم يملكون الحليب والدهن واللحم وغيرها.. استوطنوا فيها واحكموا خيامهم المصنوعة من الشعر والتي تبعد الواحدة عن الأخرى بما يوفر الخصوصية والستر والسرية لكل عائلة من عوائلهم.. كما جهدوا كثيرا في نصب مضيف القبيلة الذي يتكون من عدة خيام وموقد كبير لدلال القهوة التي لا تكف عن مشاغلة النار لتطلق رائحتها الخاصة المشبعة بعطر الهيل.. فالمضيف روح القبيلة وزهوها ومصدر فخرها وتفاخرها أمام القبائل الأخرى.. فهو المكان الذي يتسامرون فيه حيث يقدحون مجامر الشعر ويهيلون عبق الحكايات..وهو موضع فض نزاعاتهم وتشاورهم.. وهو موئل ضيوفهم ومحفل أحزانهم وأفراحهم.. وقد ألف الزوبعيون المكان وتطامنوا مع عشائر المنطقة فهم قبيلة كبيرة ومهابة ومعروفة.. وأصبحت لهم وشائج مع السكان المجاورين ومع وجوه وشخصيات وعادات وأخبار وقصص وحكايا هذه المدينة الصغيرة التي تغفو على خاصرة الفرات بأهلها الذين يمطرون بساطة و طيبة وأراضيها الزراعية وبساتينها المحتشدة بالظلال والطيور.. وعلى الرغم من عزلة البدوي المعروفه واستجانبه للمدينة كان هؤلاء من المتحمسين للتنافذ مع المدينة ومعرفة خباياها وأسرارها..وكان مضيف القبيلة هو وسيلة التواصل الأبرز حيث لا يترك المسامرون صغيرة أو كبيرة بعيدة او قريبة من الشعر والقصص والأخبار الا قلبوها..احدهم سمع ان صبية فاتنة في مدينة قلعة سكر كانت هي حديث المدينة لجمالها وفتنتها..وقد حولها جمالها إلى أسطورة يتحدث عن فتنتها الجميع..كان صاحبنا هذا قد سمع ا ن هذه الجميلة التي يدور اسمها على السنة اهل المدينة والقرى والبادية المجاورة هي أبنت رجل يسموه في تلك الايام (الحساوي) اي هو رجل يزرع الخضار ويبيعها..وهو بهذا ووفق المنظور العشائري السائد يكون في أدنى السلم الاجتماعي.. لا يزوجوه ولا يتزوجوا منه.. وكان هذا عرفا سائدا لدى اغلب العشائر والقبائل التي ترجع أصولها الى البادية ليس هذا حسب بل تتسع دائرة رفضها في التمازج الى (العطار) (والحائك) وغيرهم..ولكن هذه الجميلة تجاوزت الأعراف بجمالها وداست على كل الخطوط الحمر بفتنتها.. فخطبها الكثير من وجوه القوم واهل السوق فضلا عن شباب موسورين من القرى المجاورة.. لكنها رفضتهم جميعا.. فاصبح رفضها لغزا وتحول الى شعر على السنة البعض واكاذيب واتهامات وحكايا تفوح بالنميمة على السنة البعض الآخر.. بقت على موقفها لا تتاثر بما يقال ولا تلقي سمعا لكل النمائم والاتهامات.. وكأنها تريد الاقتصاص من الجميع الذين يشيرون الى ضعة نسبها وفق معايير تلك الايام.. ارادت ان تمرغ انوف الجميع بتراب كرامتها وجمالها واحترامها لنفسها.. ولكن صاحبنا الزوبعي فتنته اسطورة هذه الفاتنة الجميلة فصارت شغله الشاغل وحلمه الذي يتنقل معه اينما حل ليلا ونهارا.. وبثقة البدوي العالية بنفسه واعتداده بشخصه واصله..قرر اقتحامها والاعتراف لها بحبه وجعلها امراته مهما كانت الاسباب.. فذهب الى المدينة على فرسه الأصيل بأحسن وأزهى ما يملك من ملابس.. فاليوم يومه الذي يرى فيه حبيبته.. وربط فرسة عند احد معارفه وراح يتسقط اخبارها ويتفقد بيتها اياما وليالي.. وكان يوما ولا كل الايام خرجت من بيتها كأنها موكب من الالق..تمشي على غير عجل بغنج آسر.. ووجها يحاكي الشمس.. تمطر العافية من وجهها.. والفتنة تسبق خطوها..لكنه وهو الفارس الشجاع الذي تربى على صليل السيوف.. سحره المنظر وأخذ بشغافه ولكن دون رهبة.. استجمع كل ارادته ومشى بمحاذاتها وهو يرمقها بنظرات شديدة الشغف.. كانت عيونه تتكلم قبل لسانه.. قال لها وهو اشبه بالممسوس:
اشكر يهل المرضوخ لهلك يخليك يوسف يساهي العين من حسنة منطيك
لي لو تدير البال ليه وأحاجيك انطيك وصفك تام ما من زلل بيك
اي يا جميل الوجه والجسد يافاتر العينين لقد منحك يوسف من حسنه..ولو اعطيتني فرصة لاحكي معك ساقول انك في غاية الجمال وليس فيك اي زلل
فقالت له مترفعة وناهرة:
ني خلي شوي ليك غادي تدنه انته احد موصيك..لو تظن ضنه
أي لا تقترب مني ابتعد ايها الرجل الغريب.. هل أوصاك احد بي ام أنت تظن بي السوء
فقال لها بصوت مثقل بالشغف والغرام وممزوج بالشكوى والافتنان:
روحي يشهله العين يا بتني يمج
لا لي كلام وياج ولامرد عنچ
اي اذهبي يا شهلاء ان روحي رمتني عليك على الرغم من ليس ثمة كلام بيننا ولا اريد ان اتمرد عليك..
وابتدأت قصة حب كبيرة بين البدوي العاشق وهذه الحضرية المترفعة.. التي تنازلت عن جميع معاييرها واشتراطاتها.. بعد ان لقنها الحب درسا هائلا في الصبابة والوجد.. وعرفت ان كرامتها وغطرستها وكبريائها ليست في موضع تهديد مع من تحب.. ولكن القبيلة التي تقدس أعرافها وسننها لن تقبل بزواج ابنها من حضرية اهلها يبيعون الخضار.. غير أنه كان مصرا على الزواج منها ومرت سنين وكل منهما متمسك بحب الاخر في انتظار فرصة للزواج.. وفي إحدى غزوات هذه القبيلة لقبيلة أخرى بعد أن قتلت تلك القبيلة اثنين من شباب زوبع.. كان العاشق يسير جنب عمه كبير القبيلة المدعو الشيخ منكر وهما في الطريق الى غزو العشيرة التي قتلت ابنيهما.. وفي لحظة غفلة سقط من يد العاشق رمحه الى الأرض..فانتخى بنخوة القبيلة قائلا (أنا اخو صبحة) اذ لكل عشيرة نخوتها.. تكتسبه من خلال صفة يمتازون بها ان كانت الشجاعة او الكرم والجود او ربما الوفاء..ولكن عمه الذي يسير الى جانبه ردعه قائلا انت لست (اخو صبحة) أنت (أخو راس الفجل ) وكان في موضع السخرية منه والتعريض باصل حبيبته التي ينوي الزواج بها باعتبارها (حساوية)..فاحتد غاضبا.. وقال لعمه انا فارس فوارسكم.. فلم هذه السخرية.. رد عليه عمه ليس قبل ان تتخلى عن هذه الحضرية.. كبرت المسألة في رأسه كما يقال واستشاط غيضا وغضبا.. سوف لن اتزوج الحضرية كما لن أتزوج اي امرأة أخرى.. هل تعتقوني من سخريتكم..؟ فهز عمه منكر رئيس القبيلة راسه.. وقال له الآن أنت فارس فوارسنا وعين شبابنا.. ولنسترد ثأر صافي ولافي وهو الأهم.. وراح ينشد بحماس:
صافي ولافي عزوتي
زوبع عريقيين النسب
والله لعلمك ياعدو
اليوم زوبع لو غضب
وبعد ان هجموا على القبيلة التي قتلت ابنيهما رجعوا جميعا ينشدون بحماس وقد نسى صاحبنا حبيبته وتذكر صليل السيوف والدم المراق من رجال القبيلتين.. نحى الحب والحبيبة عن ذاكرته وراح ينشد مع عمه منكر:
اليوم أخذت بثاركم
ما طولت نفس الوكت
مكدود يدي وانتخيت
زوبع بكل شده صحت
وهكذا اختفت اغاني الحب والهيام بين جعجعة الحرب ونهران الدم.. واعراف وتقاليد القبيلة العريقة التي لا تنسى سننها وتأريخها.