الادهاش الابداعي في تجربة نصيف الناصري الشعرية / داود سلمان الشويلي

يقول الشاعر علي لفته سعيد:
"لأنّكِ أكْثرُ دهْشةً منّا
تتجمّعُ حولكِ الفراشات
ويغار منكِ الضوْءُ
ويعْشقكِ المطر
وينامُ العطْرُ مطمئنًَا
ويسْتريح اللّيْل هادئًا".
ويقول الشاعر هاني السياب:
"ينتشي حتّى القرار..
يا أوّلَ الضّبابِ".
وقال الشاعر الفرنسي بودلير:"من منا لم يحلم، في أيام الطموح بمعجزة نثر شعري موسيقي، دون إيقاع أو قافية"؟
ونحن نتساءل: ماذا نريد من الشعر؟
سؤال طرحته على ذائقتي النقدية، وأنا أقرأ بإمعان بعض قصائد الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي حتى كتابة هذه السطور، فلم أجد جوابا سوى هذا الجواب: الادهاش.
والإدهاش الذي أقصده هو امكانية الإنسان على الخلق والإبداع، أي انه خطوة متقدمة عن الحياة، انه ثورة على الواقع الروتيني، حيث أن كل شيء يبدو فيه الادهاش، طالما تتناوله الحساسية الابداعية، والقدرة على الخلق، لأي انسان، حيث التفاصيل البسيطة للحياة.
فالإدهاش يكون في كل شيء طالما يمسكه "جني" الشاعر في وادي عبقر، في المكان، وفي الزمان، وفي الناس في أفكارهم، وما يدور في ذهنياتهم المعتادة على كل شيء.
والادهاش عند ذاك سيفتح أمام المتلقي آفاقا جديدة في جماليات ما يقرأ، عندها سيشعر المتلقي بالمتعة التي هي غاية كل شيء، ومنها الشعر.
ولنقترب من الادهاش فنقول - على سبيل المثال - أن القرآن يعد قصيدة نثرية مدهشة في موروثنا الديني والثقافي ، فاعلة ومفتعلة، لما تفتحه سوره بعد القراءة عند المتلقي من افاق واسعة فيما هو مدهش وغريب في الآن نفسه.
وعندما نقرأ قصيدة قيلت في العصر الجاهلي لامرىء القيس، أو نقرأ أخرى لابي تمام، أو المتنبي، أو ابي نواس، أو بدر شاكر السياب، أو نزار قباني، أو نصيف الناصري، فان أول ما يشدك في القصيدة هو هذا الادهاش الذي يتركك تعيش "مندهشا" في عالم مدهش يخلف من ورائه فيضاً من الأسئلة.
هذا الشاعر جرير يرثي زوجته التي كان يحبها فيتركنا في حالة ادهاش عندما يقول:
فلقد أراكِ كُسيتِ أجملَ منظرٍ... ومع الجَمالِ سكينةٌ ووقارُ
وفي قصيدة للفرزدق، فأن عالم الادهاش يفتح أمامنا أبوابا من المتعة المصحوبة بالأسئلة عندما يصف الامام زين العابدين علي بن الحسين بقوله:
ما قال لا قط إلا في تشهده... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
أما نزار قباني فان عالم الادهاش ينفتح على قارئه، أو سامعه، في قوله:
"حتى فساتيني التي أهملتها
فرحت به.. رقصت على قدميه"..
والأمثلة كثيرة على الشعر الذي يبلغ مداه في نفسية قارئه أو سامعه، فيفتح افاقا واسعة من عالم الادهاش التي تفيض أسئلة.
اذن، الادهاش - كفعل ورد فعل - هو واحد من الغايات التي يسعى لها الشاعر القدير والمتمكن من ادواته الشعرية، وبهذا سيشتغل المخيال عنده، ويرقى الرصيد النثري في القصيدة ليكون شعريا.
والإدهاش هو ما يدفع المتلقي لاكتشاف عوالم جديدة من خلال طرحه الأسئلة، فتنكشف أمامه في النص جماليات جديدة، لما يحتويه النص المدهش من دلالات ثرة، وصور غنية ، وعوالم جديدة.
نصيف الناصري شاعر قرأت له في الثمانينيات من القرن الماضي شعراً كثيراً، ادهشني الذي قرأت له، ثم انقطعت سبل القراءة بعد خروجه من العراق، وعادت مرة أخرى قبل عام تقريبا على صفحات التواصل الاجتماعي "الفيس بوك"، حيث أخذ ينشر ما يكتبه من شعر مغاير لما عهدته ذائقتنا القرائية والنقدية، شعر يذكرنا بشعر حسين مردان، وكزار حنتوش، وجان دمو، الا انه يفترق عنهم، إذ قصيدته تمثله هو، انها صورة طبق الاصل لحياته بكل بوهيميته، وصعلكته، انها اسلوبه هو.
شعر الناصري يترك بعد قراءته شيئاً في هذه الذائقة التي تعودت على الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وعلى قصيدة النثر، هذا الذي يتركه في ذائقتنا يمكن ان نسميه "الادهاش" الذي ياخذ بها الى عوالم جديدة غير التي عهدتها من قراءة الشعر، عالم يتصف بسعة الادهاش، وكبر مساحته، حيث غير من ذائقتنا تلك بتغير الموازين القديمة للشعر بموازين جديدة.
يقول الشاعر التشيلي نيكانور بارا:
"الشعراء الشباب..
اكتبوا كما تريدون
بأي أسلوب تحبّون
دماء غزيرة سالت تحت الجسر
ليستمر الاعتقاد
أنه لا توجد إلّا طريقٌ
واحدةٌ هي الصحيحة.
في الشعر كل شيء مباح.
بشرط واحدٍ فقط
بطبيعة الحال،
عليكم أن تجعلوا الصفحة
البيضاء أفضل حالاً".
فاذا كانت القصيدة العمودية تتطلب الجهر الصوتي، والاسماع، لتقبلها ، وقصيدة التفعيلة تتطلب هذا وغيره من التامل الوجداني في تقبلها وفهمها، وقصيدة النثر استغنت كليا عن الية الاسماع، وراحت تؤكد على التأمل، والتأمل فقط، فقصيدة الشاعر نصيف الناصري بعد خروجه من دادائيتة، وسرياليته في الثمانينيات، أصبح يتطلب منا كمتلقين العيش في عوالم من الادهاش المبدع.
والادهاش المبدع في القصيدة يأتي من التخيل، قدرة الأحاسيس المتقدة على صوغ ما تحس به، الجماليات التي تمنحها الكلمة واختيار تركيبها.
وإذ تبتعد قصيدة النثر عموما، وقصيدة الناصري خصوصا، من الوزن والايقاع الخارجي لها فإنها تبني وزنها وايقاعها الداخلي من خلال عدم الاستطراد الممل، وتجنب الشروحات التي يدخل في عالمها الكثير من شعراء قصيدة النثر، والاقتراب اكثر فاكثر بإيجاد علاقات جديدة وقوية ومتميزة بين الفاظ النص وتراكيبها المتنوعة اعتمادا على رؤية الشاعر للواقع الذي تعكسه القصيدة.
ومن الفوارق التي تميز قصيدة النثر عما سبقها هو الشكل. فهي بلا شكل محدد، وجل قصائد الناصري والتي سندرس نموذجا واحدا منها، ذات طبيعة مركبة في بنائها، حيث يتقاطع فيها الغنائي بالسردي، أو يهيمن أحدهما على الآخر، الا انها مصبوبة في قالب شعري يمكن ان ندعوه اللا قالب، لأنها غير محددة بعمود الشعر، أو بعدد معين من التفعيلات، أو بصيغة تضع الكلمة في السطر الواحد ، كما عند الشاعر كريم الزيدي مثلا.
"أضْنَيْتُ نَفْسي في مَتاهَة جَمالكِ وأضعْتُ المفْتاح في مَفْرق الطَريق المُؤديَّة الى وصالكِ. ثَمَرَة المَرَض تنْضَجُ على جدار الكَهف والشَمْس مُنْحازة الى السَديم. لا تزيدي بليَتي يا ابنة آلامي وأنتِ تَسْتَقرّين في الحلم المُتَوفَّى. رَسَت البَواخر بَعد الطوفان وَكانَ البحَّارة يُنسِّقون جثث الغَرقى وَكُنْتُ أخْشى أن أُسَبِّب لَهُم مَرَض التَوْبَة مِن مَحبّتكِ. هَل لي أن أتَمَرْأى في الأوْراق النَديّة لغابَة وَجْهكِ المُغَضَّن حَتَّى أتَخَلَّص مِن ذكرى حُبّكِ؟ ما أشْقاني الآنَ والصَدى النَحيل لدمْعَتكِ يَمْلأُ أروقة الزَمَن. تُباغتُ مَرارة جَمالكِ لَحظَة فَزَعي مِن الغياب وكلّ النساء يحافظْنَ على دَهْن جَدائلهنَّ وَيُرتِّبْنَ فراغ أسرَّتِهنَّ وَيَسْتَدْرجْنَ البَحر للاستحْواذ عَلى المُحبِّين. الأشدّ اغتباطاً في الغَرق، هوَ الحَبيب الذي لَم تُتح لَهُ فُرْصَة العَوْدة مِن البئر. الحُبُّ لَحظَة مُنْفَجرة تَعجُّ باللاشفاء مِن أيَ وصال مَعَ المَحْبوب. كَثرَتْ الجنّيات عَلى الضفّة والعاشق مُنْشَغلُ بإدامة وَسامته".
ان فحص قصيدة الناصري، تحيلنا الى مجموعة من السمات التي أهمها :
- طول جملته الشعرية.
- التدوير الحاصل في تلك الجملة الشعرية.
- كل جمله تحيل الى التي تأتي بعدها كأنها متعلقة بسببية غير معلنة .
- نثرية الجملة ، و شعرية القصيدة ، بما يمنحه لها من اندهاش وادهاش.
- تأخذ الحواس حريتها الكاملة في تبادل الوظائف فيما بينها.
كل هذا وغيره يمنح قصيدة الشاعر القدرة على ان تشع ايقاعاتها الداخلية بأنوار متعددة، وتصبغ شكلها بان يكون لا شكل له سوى الشكل المصبوبة فيه، حيث تنمو نموا عشوائيا/ لا عشوائيا في الان نفسه.
أذكر أن الزميل الروائي المرحوم محسن الخفاجي حدثني مرة "العهدة على الراوي" ان نصيف الناصري عمل امسية أو اصبوحة لشعره في بيت الحكمة في تسعينيات القرن الماضي، اذ ان في هذا البيت علماء واساتذة كبار في علم اللغة والأدب والعلوم الاخرى، فقرأ قصيدة صوتية كلها كلمات غير مفهومة، وحروف يبربر بها لسانه، مثل قصيدة الشاعر العباسي "الدادائي" أبي العبر التي يقول فيها :
"ابو العبر
طرد طيل
طليري
بك...بك...بك"..
أو مثل قصيدة أحد الشعراء الدادائين الاوربيين:
"آ ، أو ، اويو يو يو
يو يو يو
دررر دررر دررر غ رررر غ ررر
قطع من مدة زمنية خضراء تحوم في غرفتي
أ أو أو أي أي أي أي أو آ او أي أي أي جوف"..
هذه القصائد التي قرأها حتما انها اثارت الضحك منها كما قال هو عن قصائده السريالية الأولى، الا انه في مجاميعه الاخيرة تخلص من شعر الصراخ والتغريب اللغوي الصوتي والسخرية السوداء والهذيان، وكذلك اسلوب الكولاج الذي استخدمه في ثمانينيات القرن الماضي والتي أقام معرضاً له في منتدى الأدباء الشباب عام 1989 تحت عنوان "التفكير بواسطة الصورة".
وهكذا تتنوع تجربة الشاعر الشعرية في الشكل وفي المحتوى، حيث الرؤى التي يشكلها عن الواقع المعاش، فراح يبتعد عن المباشرة والخطابية، وينحو الى معالجة الواقع الذي يعيشه من حيث اغتراب الانسان ، ومعاناته وهو يجد نفسه عاجزا عن فعل شيء امام كل هذه الشرور.
ان الشاعر نصيف الناصري بعد ان تمكن من أدواته الشعرية، وبعد أن أصبح الواقع أمامه كورقة يقرأ فيها بادراك تام، قدم شعرا يفيض بنضج تجربته الشعرية.