رواية «المخبر السرّي».. قراءة سيكولوجية / د. قاسم حسين صالح

زمن أحداث الرواية هو شهر نيسان 2003، ومكانها هو العاصمة بغداد، وأبطالها الرئيسون ثلاثة: عفاف، وزوجها منخي الأدبس، وابنها ثائر من زوجها السابق قاسم اخو منخي.
من صفحتها الأولى ينقلنا المؤلف إلى الحالة النفسية التي عاشها البغداديون يوم السقوط، ويبدأها بنقلنا إلى ساحة الفردوس، هكذا:"سقط الإله أخيراً!.. إله الشر والظلم والشياطين بعد ظهيرة يوم الأربعاء الموافق 9/4/2003. كانت قد فشلت كل محاولاتنا الحثيثة في إسقاطه منذ ساعات، ولم يتزحزح عن مكانه قيد أنملة، رافعاً يمينه كأنه يلعننا، ويستهزىء بنا، ويتوعدنا شرّاً كعادته على الرغم من الحبل الطويل والمتين الذي طوقنا به رقبته وأخذنا نشدّه بكل ما اوتينا من قوة، عسى ولعل أن يتنحنح.. لكن من دون جدوى"!
والفكرة الرئيسة أو "ثيمة الرواية" هي البحث عن المخبر السري الذي وشى بكلّ من قاسم زوج عفاف الأول وجاسم شقيقه وكان السبب في إعدامهما من قبل النظام السابق. ويتولى هذه المهمة ثائر ليقتص من الذي وشى بعمه وأبيه، يساعده في ذلك عمه الثاني منخي وصديقه الكردي آزاد.. عبر أحداث متتالية تصور لنا جانبا من سيكولوجيا الشخصية العراقية في الانتقام والأخذ بالثأر، حيث يكون الواشي هنا حزب البعث بكامله.. ما يعني حالة من الهيجان الهستيري بتصفية البعثيين.. ولاسيما المختارين الذين كانوا في نظر أهل المحلة وشاة:"كانوا مجموعة من الملثمين يرتدون زياً أسود ويحملون رشاشات خفيفة، تسللوا إلى بيت المختار حتى وقفوا على فراشه كما كان يفعل هو بالناس- فأيقظوه قبل ان يمطروه بوابل من الرصاص، وهم يهتفون ضد حزبه الكافر".. وفي "الكافر" إشارة ذكية لهوية الهاتفين المنتقمين!
غير أن ثائر كان يبحث عن شخص واحد محدد هو الذي وشى بأبيه وعمه، ولكن بدافع انتقام لا يرحم:"ترى هل سينطلق هذا الخنجر الصامت ويخترق بالفعل جسد القاتل ويقطعه إرباً إرباً، هل سيشرب نصله العطشان منذ عشرين عاما ويرتوي من دم الواشي حتى لا يظمأ بعدها أبدا"؟!
كان المؤلف "سالم بخشي المندلاوي" نبهاً بأن خلق معادلاً سيكولوجياً يريح القارئ. فأحداث الرواية تصور ما جرى في بغداد بشهر السقوط.. ودوافع الانتقام وأخذ الثأر وحرق الممتلكات وفوضى التخريب ونهب الناس حتى لذاكرة وطنهم.. مما يعكر مزاج القارئ في استعادة أحداث تدمي القلب وفواجع يريد أن ينساها.. فعالجها بمعادل العواطف والحب بأسلوب سلس لذيذ ممتع وفيه كوميديا التناقض.
والرائع فيها انه خلق أنموذجين متضادين جمالياً وسيكولوجياً في الشكل والمضمون هما: عفاف، وزوجها منخي. فالرجل، منخي الأدبس.. كان "عظيم الجثة كأنه مخلوق بدائي، يضلع في مشيته نتيجة حادث عمل قديم، يحمل رأساً كبيراً قد نفر منه شعر قنفذي كثيف رمادي اللون.. رصت في وجهه الأدبس ملامح عشوائية لا تناسب بين اجزائها، فملامح الجهة اليمنى منه تبدو أضخم من ملامح الجهة اليسرى وأعتم سحنة وكأنها قد اقتطعت من وجه شيطان رجيم والتحمت بوجهه لتزيده قبحاً وشناعة على ما فيه اصلاً من قبح، فبدا مسخاً رهيباً"!
فيما عفاف كانت استثنائية في جمالها وكان مبهوراً بها:"كنت اتأمل حبيبة عمري عفاف وهي تضطجع بجانبي على الفراش وكأنها ملاك غافية في ملكوت السماء. هل يعقل ان تحمل امرأة واحدة فقط هذا القدر الهائل من الجمال!. صدق من لقبها بالإنكليزية على الرغم من ان هذا اللقب هو اقل ما يمكن أن توصف به". وهي، في مضمونها، أنموذج الأم العراقية في التضحية من أجل ابنها التي اضطرت أن تتزوج من هذا الأدبس "نعم لقد فعلت ذلك من أجل ولدي ثائر ولولاه لفضلت أن أعيش متشردة في شوارع بغداد اتسول المارّة...".
حالتان متضادتان في المعاشرة الزوجية، بين عفاف التي اضطرتها الظروف اللعينة "أن أمنح منخي الأدبس جسدي الأحمر البض ببرود، لكنني لن أمنحه قلبي حتى لو قتلني".. وبين منخي الذي يشعر بالنقص والنبذ والمهانة واحتقار الذات، ليعادلها سيكولوجيا باحتضان نقيضه: "ودسست وجهي الأدبس الكالح بين نهديها الورديين المترعين واخذت اشمهما مسترخيا ثم صرت أمصمص بحلمتها اليسرى كطفل رضيع".
بالمقابل، تطرح لنا حالة حب صادق للفتاة العراقية التي تحب مرة واحدة فقط:".. واول شخص صادفته.. كان هو حبيبي قاسم.. كنت حينها في الثانية والعشرين من عمري عندما قلت له اني قادمة من كلية اللغات، لاطفني قائلاً:
- يبدو أن كلية اللغات هذه تقع في جنة الفردوس!
امتعضت في البداية أو هكذا تصنّعت على الأقل مستفهمة:
- ماذا تقصد؟
- اعذريني فلا يمكن ان تهبط علينا حورية بجمالك الا من جنة الفردوس".
وتمضي أحداث الرواية تأخذنا عبر البحث عن ورقة صغيرة بين توقع ثائر بأنه "سيعثر على الواشي خلال أيام من سقوط الصنم، أيام معدودة ليست إلا"، وبين أطنان الاوراق والأضابير التي نهبها الناس من مبنى الأمن العام ومراكزه المنتشرة بأحياء بغداد في حال صوره عمه منخي (إنك، يا ثائر، كمن يبحث عن إبرة دقيقة في اكوام متراكمة من القش".. إلى أن تصدمنا بمفاجأة من كان الواشي.. لتعكس لنا حقيقة كم كان النظام السابق خسيسا في تهرئة القيم والأخلاق.
الرواية تصور سيكولوجياً الجموع حين تسقط الدولة وتدخل عوالم صنوف من البشر: من يحب الوطن ويبكي وجعاً على آثار تسرق من متحفه، ومن ينهبه ويحرقه، ومن مكبوت ينفجر بدافع انتقام يكون فيه هو القاضي والجلاد، ومن يأخذه الذهول كيف إن الانسان يتحول إلى أقسى من وحش حين يتعطل القانون.
الرواية جديرة بالقراءة.. ممتعة عبر صفحاتها الـ "211".. إلى أن تصدم بعضنا نهايتها في الصفحتين الأخيرتين.. فقد التزم المؤلف بالنهايات التقليدية بانتصار الخير على الشر وكأنه أقام محاكمة مبكرة وإدانة مستعجلة لشخصية المخبر السرّي البغيضة، فيما واقع الأحداث يشير إلى استمرار الصراع بينهما.. مع انتصارات للشر وانكسارات للخير!