- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 23 أيار 2015 21:30

يلاحظ أغلب المهتمين والنقاد والدارسين أن ثمة قطيعة تواصلية ما بين الرواية العربية والجمهور المخاطب بها، فهل ثمة فجوة توصيل للخطاب بين الرواية العربية والمتلقي؟ وهل ترجع أزمة التوصيل هذه لنوع لغة الخطاب "بناء وأهدافا" أم لقطيعة ثقافية ما بين المنشئ والمتلقي، أم أن سبب عدم قدرة التوصيل فني صرف يتعلق بعدم قدرة الرواية على إيصال مقولتها بطريقة ممتعة وسلسة؟
طبعا لن نغفل هنا أن المستقبِل العربي "الجمهور" يقف عند نقطة ثقافية محددة أو أفق معروف السقف والإمكانيات سلفا، على صعيد التلقي والتفاعل، ولكن تبقى المشكلة، من جانب آخر تتعلق بطرق التوصيل ولغته التي يختارها المنشئ "الروائي"، وأيضا بطريقة الطرح والمعالجة الفنية والتقانية التي يختارها لإيصال مقولة روايته أو رسالتها.
فما زال الروائي العربي مصرا على اختيار "طريق الهم البكائي" لطرح موضوع روايته، بدل أسلوب العرض الفني الجميل والمثير، وعلى اختيار لغة وأسلوب "احتكار الحقيقة" والتوجيه والقيادة، بدل لغة التوريط السلس وغير المباشر في فنية الطرح التي تستدرج القارئ للانغماس في الحدث واللهاث خلف تطور حبكته وتصاعدها، من دون أن يشعر بأنه يسحب بطريقة "مخادعة" ومن دون أن يجد فرصة للاحتجاج على أنه قد غرر به، رغم شعوره بذلك التغرير أحيانا
ولكنه سيتفهم ذلك التغرير مع ابتسامة مسامحة وهو يقول "أوووه! حسنا! سأقبلها منك أيها الجميل وشكرا لك"!
هذا ما اشتغل عليه وبه، عملاق الرواية الحديثة، غابريل غارسيا ماركيز، على سبيل المثال لا الحصر، وهو أول من نجح في طرح "مقولة رواياته" بأسلوب العرض "الفاتريني" الأنيق والمسيل للعاب الاشتهاء، من دون وعظ ومن دون نصح ومن دون احتكار لأي شكل من أشكال الحقيقة، أو ادعاء معرفة ما لا يعرفه القارئ، أو ترك أي شعور فيه في هذا الاتجاه. باختصار وبكلمة واحدة: الرواية التي تريد أن توصل للمتلقي خطابها من دون أن تتعبه أو تترك في نفسه أثرا سلبيا، أيا كان، هي الرواية التي تنجح في أخذه لنزهة ساحرة بين الكلمات، من دون أن تترك في نفسه شعورا، ولو بظل صغير، بالانقياد.
مازالت لغة الرواية العربية مشحونة بلغة الحماس والانفعال والتحريض على الانفعال بدل التفاعل.. كما أنها مازالت عاجزة عن توصيل خطابها بغير طريقة الفرض "الفوقي"، بدل الإغراء للاشتباك مع "دانتيل النص" المثير "لشهوة التلقي الحر"، على طريقة إغراء دانتيل ملابس النساء الداخلية؛ وبهذا هي تعلن عن خلل كامن في استيعاب وهضم أدوات الصنعة شكلا، وخللا مشابها في طريقة التفكير وتسويق الأفكار، مضمونا وخللا مشابها أيضا في طريقة التعامل مع المتلقي، في ألا سلطة للروائي على المتلقي غير سلطة جودة وجمالية النص
وإذا الرواية لم تكن حائزة هذه السلطة فأكيد سيكون مصيرها الركن على المقعد المجاور للقارئ، وسيستعيض عن قراءتها بفتح التلفزيون أو حاسوبه الشخصي أو هاتفه الذكي.
الجانب الآخر الذي يتحمل مسؤولية عدم التوصيل في الرواية العربية، هو طريقة بناء شخصيات الرواية، فمازالت الرواية العربية تعتمد وتراهن على شخصية البطل الرئيس المأزوم والمهموم والمندحر، تحت عبء الهم السياسي "في أغلب الأحيان" والتأكيد على هذا منذ الصفحة الأولى للرواية، والتركيز على هذا الهم كبنية أساسية لخطاب أو رسالة الرواية ككل، وهذا ما يجعل المتلقي يحدس ويقدر مسار حبكة الرواية وشكل نهايتها منذ البداية؛ في حين أن ما يجب أن يحدث هو أن يطرح البطل ككل على كافة صعد حياته "والأفضل طبعا هو عدم التركيز على شخصية محورية وتوزيع الأدوار بشكل شبه متساو على الشخصيات" وطرح همومه ومشاكله ومعاناته وأطوار حياته وأحلامه، من دون تركيز على جانب واحد يسرّع الملل إلى نفس المتلقي، خاصة في ما لو كان ذلك الجانب جافا، كجانب الهم السياسي.. وربما نظرة سريعة على حياة العقيد أورليانو بويندا، أحد أبطال رواية "مئة عام من العزلة" هو خير مثال على ما أقول.. فقد كان هم ذلك العقيد سياسيا صرفا، إلا أن حنكة ماركيز الفنية لم تدعنا نرزح تحت ملل متابعة حياته، في ظل جفاف وعتمة الطرح المباشر؛ كما أن عبقرية ماركيز الروائية والفكرية، عرفت كيف تطرح ذلك الهم عبر دورة حياة بويندا المليئة بأحداث وممارسات شيقة وشاذة وتقلبات دراماتيكية، على صعيد التفكير والممارسة اليومية.. فالعقيد لم يحنطه ماركيز ـ على طريقة تحنيط الروائي العربي لبطله الذي لا يخطئ ولا تنتابه نوازع واشتهاءات البشر الآخرين وكأنه ملاك
فقط لأنه زعيم وطني ـ أو يطرحه كمثال يحتذى في الاستقامة الأخلاقية والسلوكية، بل طرحه كبشر عادي يحب ويكره ويتزوج ابنة الرابعة عشرة، ويلاعب أبيها المحافظ الفكر وغريمه السياسي والحكومي، الداما ويضاجع العشيقات والبغايا وينجب منهن أولاد السفاح، على حافة ساحة حربه الوطنية والتحريرية
قبل أن ينهيه مهزوما في مشغل الصياغة، يطلق التعليقات الساخرة حتى على ماضيه، ويتبول تحت شجرة البيت التي يربط إليها والده المجنون
قبل أن يميته ماركيز ميتة لا تليق بمجده
ويشيعه أعداؤه الحكوميون بجنازة بطل وزعيم كبير.. هل نجح ماركيز في توصيل مقولة روايته السياسية عبر هذه الشخصية المتناقضة والنابضة بكل أشكال الحياة، وغير المحنطة على قالب "الأخلاق الحميدة والمثالية"؟ بالتأكيد وبطريقة فنية مدهشة وجعل أغلبنا يقتنع بتقلبات وتناقضات ذلك العقيد، وأن نرفع حواجبنا استغرابا منها، ولكن بتلذذ، ونحن نقول بشغف: "حسنا ماركيز الجميل، هذا قد يكون غير صحيح ولكني سأقبله منك لدرجة تقترب من الاقتناع لأنه نجح في إمتاعي عبر ما وفره لي من دهش شيق ومسل
أنساني همومي لبعض الوقت"!
لماذا على الرواية العربية أن تكون كتابا موجِها ولا تكون كتابا لصناعة المتعة للمتلقي؟ ومن قال إن الرواية الممتعة ومتعة دهشها ليست من عوامل وأساليب التوصيل الحاذقة؟ ومن قال إن الرواية الجادة "المجافية للمخيال وغير السابحة بعيدا عن محددات ما يسمى بالواقعية" هي القادرة على التوصيل من دون واقعية ماركيز السحرية، على سبيل المثال لا الحصر؟
بل أن أجمل وأحذق ما أوصل مقولات ماركيز كان خيالها المسرف وسباحتها بنا في بحيرات الغرق المحتم التي لذذتنا بكل ما هو غير معقول ومناقض لاشتراطات الواقع اليومي ومنطقه الذي عافته نفوسنا منذ أول جرح تلقيناه بعد يوم دخولنا تناقضات وهزائم الحياة.
إن جدية لغة الخطاب ورسمية صياغته، لا تمنحه عوامل الإقناع، ببساطة لأن الرواية ليست خطابا سياسيا أو وعظيا رسميا أو مؤسساتيا، بل هي نزهة مقتطعة من عمر الزمن في أجواء المتخيل البديل، وساعة استرخاء وطفو على مرارات الواقع وهزائمه التي تلحق بحياة الإنسان العملية ومعيشه اليومي المثقل بالهموم والحسرات.
فلنجرب أن نوصل رسائل رواياتنا بسلاسة من يذهب للاسترخاء تحت رشاش ماء الحمام الدافئ، وببهجة من يرفع عقيرته للغناء تحت سلس دفئه
أو بحبور اصطياد، ريمديوس الجميلة، إحدى بطلات ماركيز المذهلات، للعقارب الزاحفة على جدران حمامها، وهي تغيّب نفسها عن واقع صخب بيت الجدة ارسولا، لساعة من الزمن المستقطع لعبثها البدائي، من جدية وعبث التأريخ الجاد والواقعي لحياتها اليومية.