أعظم روائي كسول / مقداد مسعود

مشعلو الحرائق: هم ضوء العالم بالكلمات، لا تمتلك كلماتهم حنجرة مبحوحة، ولا يلهثون خلف تقنية الموضة الروائية. غادروا الجغرافيا ليستعيدوها نصيا: "البير قصيري" ترجم الحياة المصرية الى اللغة الفرنسية وتحديدا حياة المهملين من قبل الحكومات "مع الشرطي كانت نهاية كل سبل العدالة".. صحيح انه كتب رواياته باللغة الفرنسية، لكن عوالم رواياته مصرية.. مصر الحواري المؤدية الى ما قبل منتصف القرن السابق.. وبصفته كاتبا مصريا يكتب باللغة الفرنسية نال في1990 جائزة الأكاديمية الفرنسية.. كيف أنسى شخصية "سليمان العبيط" بائع الشمام الذي لا يمتهن سوى بيع الشمام في موسمه، ليتفرغ للبطالة!، وهكذا يعود للعاطلين عن الخبز: أحمد صفا والصنايعي رشوان قاسم والحوذي عبد العال:"لا يجهل شيئا عن قيمة الأشياء".. والذي يؤنسن عربته "كرجل شريف شغال"، كيف أكتشف سي خليل مالك البيت، ماهية عبد العال المكنونة وشخصّه كعقل للقاطنين في "منزل الموت الأكيد" وحسب قول سي خليل:"من هو إذن هذا الجرثومة الذي يدفع الروح في الفقراء والجياع؟، الى أين يذهب بالناس"؟، وهناك كاوه، فشخوص رواية "منزل الموت الأكيد" مهنتهم الكسل الذي اشتهر به البير قصيري نفسه بإستثناء القرداتي والمنتسب الوحيد للحكومة: الزبال "وهو يفهم اللغة الحسية"!.. حين أغادر الرواية سآخذ معي الشاعر "يكن" وأستاذ التأريخ "جوهر"، وأساعد المغني سوكة في انقاذ "إمرأة شابة جميلة كأنها زهرة سقطت في مدخنة"، وهو توصيف يليق بالصبية ناهد، زوجة الزبال، التي حاول سوكه ملأها بشجن الأغنية،"فقد انسحب سوكه الى دائرة الظل ولزم الصمت تماما واستكمل دندنته"، مشكلة البيت تتحول حلا لمشاكل العم شحاته.
الغرف في رواية "منزل الموت الأكيد"، تتشابه وتختلف، التشابه معماريا والاختلاف بنسبة الضوء الجارح للمكان.. فغرفة رشوان قاسم في الطابق الاسفل لا تختلف عن غرفة بيومي القرداتي، ومع ذلك فرشوان قاسم يحس وهو في غرفة بيومي.. ومثلما للضوء مؤثريته، هناك مؤثرية للصمت وهي ذات شحنة موجبة، لأنها نتاج تعاضد اجتماعي جمعي، وسيتسلح الصمت بظلام المكان، وهكذا يكون عميقا ومريبا أيضا.
في روايته "العنف والسخرية"، سنلتقي بشخصية كريم وهو ينزل من غرفته فوق السطح، دون أن يعود الى ذلك الحي المزدحم بالناس والحركة بل سيتجول بين الميناء والكورنيش، ثم يعود لصناعة الطيارات الورقية.. ان المجانين وحدهم لا يمتهنون الأذى والقبح.. وهذا الأمر يعيدني الى عبد الكريم كاصد "المجانين لا يتعبون"، والى سالنجر في "الحارس في حقل الشوفان"، حيث البراء: ملكية شخصية للطفولة فقط.. ان عظمة البير قصيري تكمن في انحيازه الطبقي للمحذوفين من قائمة المدعوين الى الحفل وهو انحياز بمهارة روائية كبيرة.