الخــوة / علي أبو عراق

الصداقات والعلاقات الصداقية في الريف من امتن العلائق الاجتماعية وأشدها تأثيرا وأطولها عمرا وربما من أكثرها فاعلية... وفي الأعم الأغلب تأخذ هذه العلاقة شكلا عميقا ومتحكما في حياة من يخوضها... للحد الذي توصف (بالخوة) أي يتحول الصديقان إلى اخوين أو أكثر.. فيشتركان في العيش والمعيشة... زرعهما وصيدهما ورزقهما وافراحهما واحزانهما وعوائلهما... فيقران ان كل شيء مشترك بينهما الا (ماحرم الله) بالتعبير الدارج اي ما يعني ما حرم الله من زوجة او اخت او رحم... وبمعنى ادق يتحول الصديق إلى اخ بالمعنى الكامل للكلمة... يسدان لبعضهما البعض الحاجات المادية والعائلية والاجتماعية على وفق منظور أخلاقي خالص بعيداً عن المنفعة الخاصة وأجلى صور الإيثار والتضحية..
وقد قيل الكثير من شعر الدارمي في هذا الشأن
فمن قال تعبيرا عن التضحية والايثار
انزع لخوي الثوب وأبقه انه عريان
وابرد وأكول تهون من هو دفيان
ومن اقسم بمقدسه ان صديقه هو المقدم على كل الاخوان
والحجر وأهل البيت والكافل أخته
من احجي بالخوان أولهم انته
ومن يتباهى بصدقه ووفائه وحفظه للأخوة ويعتبر التقصير ان وجد هو بفعل الزمن (الوكت)
ما ناسي والينساك ما عنده خوه
بس الوكت مرات يلهينا كوه
وكان لا يعكر صفو هذه العلائق الجميلة في جوهرها ومظهرها سوى النزاعات العشائرية والعصبية القبلية وخصوصا إذا كان الصديقان من عشيرتين مختلفتين... وكان راضي وكرم اللذان يعيشان في قرية تزرع الرز وتعتاش عليه وعلى صيد الأسماك والطيور نموذجا مجسدا لهذه العلاقة... فقد كانا يشتركان في الأرض والزرع والضرع والصيد والحصاد وعموم شؤون الحياة وكان كل منهما يعتبر عائلة الآخر عائلته... ومسؤوليته منها تماما كمسؤوليته من عائلته... وفي مرة حدث نزاع بين عشيرتيهما وما أكثر النزاعات التي تنطلق غالبا لأسباب تافهة كخلاف على الحيوانات أو نوبات السقي أو الرعي وأحيانا لأسباب معنوية أو حتى لمجرد كلمة عابرة... اذكر أن معارك دامية حدثت وسقط فيها العشرات من القتلى ونُزفت سواقٍ من الدم... بسبب ملعقة شاي وضعها احدهم بقصد أو بغير قصد بشكل عمودي في (الاستكان) وهو ضيفه... ما فسره الآخر أنها إشارة للطعن بشرفة،... والكثير من القصص التي تحدثت عن معارك من هذا النوع، لم يزل بعض أيتام ضحاياها على قيد الحياة... الخلاف الذي تحول إلى معارك دامية بين عشيرة الصديقين كرم وراضي قتل فيها أشخاص من الطرفين ولم تحط اوزارها إلا بعد (فصل)1 ثقيل كان من أهم شروطه رحيل أو جلاء (يجلي ) أفراد عشيرة كرم كنوع من إتمام العقوبة أي الفصل... فلم تكف النساء لسد رمق عصبيتهم القبلية... واللاتي وزعوهن وفق درجات وتصنيفات (مضحكة مبكية)... اقترحوها... إذ تعاملوا مع (نساء القبيلتين) كسلع أو بضائع واجبة الدفع حسب تصنيفات غير إنسانية وتوقيتات اقترحوها ووضعوا لها تو صيفات (فجريه2... تلويه3 )... لكنها كانت سائدة في تلك المجتمعات... غير أن هذا النزاع الذي اغرقته الدماء على إيقاع عمليات كر وفر عديدة لم تغير جوهر علاقة الصديقين... (الأخوين)... على الرغم من جلاء عشيرة كرم إلى قرية تبعد مسير نهار يوم كامل عن قريتهم الأصلية وضعفت علاقتهما لعدة سنين بسبب إملاءات العشيرتين وليس برغبتهما... ولكن بعد زواج (الفجريات والتلويات) والتصاهر الذي خلف أطفالا... خفت حدة العداوة كثيرا... وصار بإمكان الصديقين أن يتزاورا ويتواصلا ويستأنفا (خوتهما) من جديد... كانا اول من كسر أسوار العداوة والبغضاء... اذ راحا وبشكل منتظم يفدان على بعضهما ويتزاوران وكل منهما محمل (بالصوغة) اي الهدايا للآخر وغالبا ما تكون طيورا وأسماكا و(خريطا)3 وهي مما يجود به الريف بسخاء كبير... ولكن الأهم أن عواطفهما النبيلة وأشواقهما لبعضهما كانت تسبقهما... فقد أزهرت سنين الود والمحبة الطويلة بساتين من المشاعر التي لا تنطفئ... وفي إحدى هذه المرات خرج كرم من قريته القصية مع أول اشراقات الصباح الاولى.. وكانت الغصون والمروج لم تزل مثقلة بالندى... كان قد شرب طاسة4 من حليب الجاموس المغلي والمحلى بالسكر مع ما استطاعت زوجته ان تجهزه من خبز السياح... وانطلق في مشي أشبه بالهرولة فالمسافة بعيدة... وان لم يسرع الخطى فسوف يداهمه الليل بعد ثلاثة أرباع الطريق... مشى بما أوتي من قوة منحتها له عذرية الريف.. من هواء نظيف وعليل... وطعام غني صحي يستمده من كرم الأرض.. وسخاء الأنهار... وتدفق الضروع... مشى وهو يحلم بلقاء صديق عمره الذي أصبح أكثر من أخ له بسبب فقدانه لأخيه الوحيد... ويقمع أشواقه.. ويحث الخطى لاستعجال لقائه... لكن المسافة كانت طويلة فضلا عن كونه تأخر بسبب توقفه عند احد البيوت الذي صادفه في طريقه... ضيفا لتناول طعام الغداء.. أطبق عليه الليل ولم يزل نحو ربع الطريق أمامه ولم يكن بيده سوى أن يغذ السير رغم الظلمة الكثيفة التي يقطع صمتها بين الحين والآخر أصوات نباح جوقة من كلاب الريف الأشبه بالذئاب... والتي يهشها بعصاه وثباته وتجربته الطويلة في التخلص منها... وأخير وقبل منتصف الليل بقليل وصل إلى بيت صديقه وناداه بمحبة كبيرة عدة مرات... (خويه راضي انا اجيت)... فلم يتلق ردا... حدق (بالربعة) من خلال القصب المشبك الذي كشف عن فانوس تتراقص ذبالته الشحيحة الوشيكة على الانطفاء... فدلف إلى الربعة كعادته في الأيام الخوالي... واستلقى على فراش وجده مفروشا وجاهزا للاسترخاء.. راح ينتظر صديقه فالبيت بيته ولا مشكلة في دخوله اليه دون وجوده.. فهو بيت أخيه كما يعتقد... استلقى على الفراش وقد الم به التعب كثيرا... فالرجل لا يملك جوادا وقطع كل هذه المسافة على قدميه.. بعد مسيرة اليوم أنهكه التعب ومهد له دفء الفراش الطريق سالكا إلى النعاس... ونسي الجوع وانتظار صديقه ونام نوما عميقا حتى أيقظته جلبة الصباح... نهض من نومه العميق فوجد مخدة جنب مخدته التي نام عليها... ولم يجد تفسيرا لهذا... لكنه تجاوز هذا فالبيت بيت أخيه وكم من المرات في الأيام الخوالي وجد نفسه نائما في الربعة ببساطة ودون حساب... حينما خرج من دائرة أفكاره المشوشة... نادى على زوجة صديقه التي يعاملها كأخته تماما (نوريه خويه نوريه أنت وين البارحه اجيت نص الليل ومالكيتكم... لكيت الفراش ممدود وغفيت ما ادري بروحي)... سمعت نوريه النداء... فأصيبت بالصدمة وشعرت بان الأرض تتزلزل تحتها... هذا صوت كرم وجاسم ذهب لزيارته... وهي قد نامت معه طولاً بطول دون أن تدري بعد أن رجعت من أهلها في وقت متأخر.. بسبب سفر زوجها الى صديقه جاسم... والذي يبدو إنهما تقاطعا في الطريق... خرطت خدودها ولطمت صدرها وهي تقول لنفسها (يمه انا أمس نايمة طول بطول ويه كرم حسبالي جاسم... يمه صخام الوجه... يمه شكل لجاسم لو جاي ولكانا احنه نايمين بفرد فراش؟)... وجاسم هذا كان قد رجع الى بيته بعد أن اخبروه أن كرم ذهب لزيارته... فرجع على فرسه ليلحق بصديقه.. ولكنه وصل مع بزوغ الفجر الى بيته... دخل الى الربعة... فوجد صديقه كرم وزوجته نوريه في نفس الفراش... صعق واعترته موجة من الغضب والذهول واللا قدرة على اتخاذ اي قرار... ولكن بعد تفكير عميق خرج وهو بنصف وعي يتنازعه الشك واليقين... وكمن وراء مشبك الربعة وراح ينظر الى النائمين وهو بالكاد يسيطر على غضبه... وبعد فترة قصيرة نهضت زوجته بتلقائية من نومها وذهبت من بيتهم القصبي لتعد الفطور... وضعت إبريقها الاسود بفعل السخام على الموقد... وراحت تحضر عجين السياح... فتناهى لها صوت صديقهم وعشيرهم كرم... فجاءت ملبية النداء وبعد سلام سريع ومرتبك وهي لم تزل في هول صدمتها... لا تعرف ما تقول...ولا كيف تفكر... قال لها (خويه سويلي ماي اريد اسبح..الطريق طويل وتعرقت كثيرا) وجاسم يسمع هذا مما عزز شكوكه... لكنه استعان بصبر جبال كي يبدو طبيعيا ودخل على صديقه... وكان لقاؤهما غير حميمي وسلامهما فاترا مما أغاظ كرم كثيرا... ولكن جاسم ظل على تماسكه وجلس مع صديقه على طعام الفطور ودار حديث مبعثر لا ينم عن ود ولا محبة ولا يشبه أحاديث أيام زمان... كان لا يستطيع الحديث ولا الاكل او حتى محاولة التمثيل على صديقه... فشعر كرم بهذا الجو المكهرب وظن ان إملاءات العشيرة عادت ثانية لتعبث بعلاقتهما من جديد... فحاول إنهاء الزيارة والخروج سريعا... لكن جاسم اعترضه في الباب قائلا (هل تعتقد أن الأمر بهذه السهولة...هل تعرف ما ثمن خيانة الأمانة)... ففغر كرم فاهه مشدوها واكتسى وجهه بصفرة مفاجئة..ورد بعنف...عن اية خيانة تتحدث..؟ رد جاسم بصوت اقرب الى الصراخ (جا شتسمي نومتك طول بطول ويه مرتي)... ازدادت حيرة كرم مع ارتفاع نسبة غضبه... حاول كرم استعادة ما حدث...لم يتذكر سوى انه جاء متعبا ولم يجد صديقه ولازوجته... فنام في الربعة كالعادة... فرد بصوت يقارع صوت جاسم في الغضب والعلو... (ولك انت تظن بيه هاذا الظن، انت اخوي ومرتك اختي..اجيت ومالكيتكم وأخذني النعاس ونمت للصبح ومن التعب ما دريت الدنية طشت لو رشت..شلون انا نايم ويه مرتك طول بطول..؟)... وفي هذا التوقيت بالضبط دخلت نورية وهي ترتجف من الخوف والانفعال وقالت (والله وامان الله... انه اجيت من أهلي وباوعت لكيت زلمة متمدد نايم.. كلت هذا رجلي تعبان من السفر.. فوضعت مخدة جنب فراشه ونمت واستيقظت وأنا لا ادري ما حدث أبدا)... وقف الثلاثة كل منهم ينظر في وجوهه الاخر
...جاسم يعرف جيدا.. ان زوجته شريفه وأنظف من الثلج ويعرف كذلك ان صديقه كرم هو الآخر شريف ومخلص... ولكن الشك ظل يتملكه بقوة...فقال لصديقه (ليس هناك لها سوى أن تقسم لي بالعباس على صحة ما قلت) فشعر كرم بأسى كبير.. وان الكون يقع على رأسه...وأحس ان (خوته) مع جاسم ستنتهي تماما... فوافقه على ما أراد وذهبا إلى العباس واقسم له بما أراد... وخرج مسرعا كأنه يهرب من ماض يفترسه..ولم توقفه نداءات جاسم المتضرعة (خويه اوكف خل افهمك) فرد عليه دون أن يلتفت او يبطئ الخطى... (راحت الخوه ويه هلها...انت كفرت بالاخوة وهذا حدي وياك)... وظل جاسم يرقبه لوقت طويل بندم كبير ودموعه لا تنفك عن الجريان... حتى غاب كرم بين جموع الزائرين واختفى كالحلم واختفت معه (خوة) صمدت لعشرات السنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) فصل...هو قانون عشائري يضع الحد للخلاف بين عشيرتين بعد ان تترتب على المعتدي بعض التكلفة المادية او المعنوية او تزويج النساء لعشيرة المعتدى عليه على وفق سنة العشائر.
2) الفجرية... هي الفتاة التي يسوقها حظها العاثر أن تكون فصلا أوليا او مباشرا او واجب التنفيذ لعشيرة المعتدى عليه للتخفيف من العداوة والدماء... طبعا ليس من حق الفتاة الاعتراض على من يتزوجها اكان شيخا او معاقا او دميما او حتى مجنونا.
3) التلوية وهي الاخرى التي تعين كفصل واجب الايفاء بعد مدة من الزمن ومن الممكن ان يتم التراضي بين العشيرتين واطلاقها من هذا الاسر مقابل تعويض مادي.
4) الربعة هي الجزء الخلفي من العشة او الخص الذي يملكه الفلاح ويستعمل للنوم.