الـ «هو» بين «الأنا» و «الأنا العليا» في القصة والشعر / داود سلمان الشويلي

أول من قدم مصطلحات الهو، والأنا، والأنا العليا هو عالم النفس سيغموند فرويد في نظريته البنيوية عام 1932، والتي قدم فيها الاختلاف بين العقل الواعي، والعقل اللاواعي ، إذ تقدم هذه المصطلحات وصفا للعلاقات الديناميكية بين الوعي واللاوعي، حيث الأنا تتعامل مع الواقع الخارجي، والأنا العليا هي الوعي ، في حين تمثل "الهو" اللاوعي ، وهو مخزن الرغبات ، والغرائز اللاواعية، والدوافع المكبوتة
فالهو هو الجزء الأساسي الذي ينشأ عنه فيما بعد الأنا والأنا الأعلى.
والأنا كما وصفها فرويد هي شخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالاً بين الهو والأنا العليا، حيث تقبل بعض التصرفات من هذا وذاك، وتربطها بقيم المجتمع وقواعده، حيث من الممكن للأنا ان تقوم باشباع بعض الغرائز التي تطلبها " الهو"، ولكن في صورة متحضرة يتقبلها المجتمع ولا ترفضها الأنا العليا.
والأنا العليا كما وصفها فرويد هي: شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظاً وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية، والمجتمعية، والمبادئ، مع البعد الكامل عن جميع الأفعال الشهوانية، أو الغرائزية.
وفي دراستنا هذه التي انتخبنا لها نصوصا أدبية عشوائيا نص شعري، ونص من القصة القصيرة، ونص من القصة الومضة - سندرس وضعيات "الهو" فيها من حيث ان المبدع المنتج لهذه النصوص الذي يخاطب نفسه، يجد هذه النفس قد انشطرت الى نصفين، نصف يتمثل بهذا الانسان الواعي المدرك لكل حقائق الواقع وهو "الأنا"، و الثاني الذي راح يتبعه الحافر على الحافر دون أن يعطيه فسحة من الزمن ليرى فيما اذا كان هناك اختلاف بينهما ، وهو الاختلاف بين الوعي، واللاوعي، الا اذا جاءته صدمة من الأنا، هو "الانا العليا".
في نص القصة الومضة المعنون "أعمى" للقاص اثير الغزي، يذكر ان الأعمى "كان يقلدني تقليداً كاملاً - في الكلام والحركات والقبّعة- فيلعب دوره بصورة مدهشة، لم ينتبه عندما شتمته".
اذا، هناك شخص، وشخص آخر يتبعه حيث يقوم بتقليده في كل شيء، هذا الشخص لم ينتبه لشتيمة الشخص الأول، فماذا يعني هذا؟
في قصيدة "صديقةٌ فيسبوكيه" للشاعرة والفنانة التشكيلية رملة الجاسم، تقدم شخصية القصيدة على انها كانت تتمنى ان تملك كل ما عند الشاعرة، فتقوم بتقليدها في كل شيء، تختار ألوان الشاعرة، وتتحدث مع كل ما تعرفه الشاعرة:
"كانت تتمنى كل ما عندي
تحاول أن تقلّد كلّ ما أفعل
تختار مثل ألواني
تتحدث مع كل من أعرف
دون أن أعرف....
اما قصة "الكرسي المتحرك" لكاتب المقال، المنشورة في مجلة الموقف الثقافي - ع 43/ ك2- شباط/ 2003 ، فانها تتحدث عن الشخصية الرئيسة للقصة، والشخص الاخر الذي يحاول ان يفعل عكس ما يريد الأول، حيث الاول يمثل الشخص الواقعي، أما الثاني فيمثل ظله الآخر الذي يعمل ما تمليه عليه نفسه التي تنزع الى ان تكون ممثلة لما في نوازعها النفسية في العقل الباطن.
في القصة الومضة نلتقي بشخصيتين، الأولى هي الشخصية الرئيسة في القصة، والثانية تمثل ظله، أو الوجه الآخر له والذي يمثله في العقل الباطن، فحيث يتحرك الأول، يقوم الثاني بفعل الشيء نفسه، واذ يشتمه فانه لم ينتبه لذلك، لأنه هو نفسه.
أما في القصيدة، والتي تقدم أيضا شخصيتين، فإنها تقدمهما كالعملة الواحدة بوجهين متطابقين، غير مختلفين، حيث تقوم الثانية بتقليد الأولى، وتستخدم ألوان الأولى نفسها، وتكلم ذات الأشخاص التي تكلمهم الأولى، وهكذا، حيث علمتها امورا كثيرة دون أن تتعلم منها شيئا.
فالشخصية الثانية تحاول أن تقلّد الاولى ،تختار ألوانها، تتحدث مع كل من عرف، تتسابق - كما تقول الأولى - لتحقيق ماأحاول ، تعيد عليّ ما قلتُه لها البارحة، علمتُها الكثير، ولم أتعلم منها شيئا، تشكو لي ما يحزنها فقط لأتألّم وتخبّىء الحقيقة، كل ما أحسّسها بأن وجودها يساعدني تختفي أو تظهر متأخرة لإرباكي، تشتري ما أحب أن ألبس وإن كانت لا تحبه، وتمارس الخداع من أجل أن تصل الى تحقيق مصلحتها أولاً بأي وسيلة فعلتْ كل شيء لتكون أنا، لكن بعد هذا العناء، وحين أحسّت أني قرأتُها تطلّعتْ في المرآة فوجدتْ نفسها هي ولم أكن فابتعدتْ حانقةً وتلاشتْ.
هكذا الشخصية الثانية في القصيدة تفعل مع الشخصية الأولى الحقيقية، وعندما تطلعت في المرآة ابتعدت مسرعة حانقة، ثم تلاشت، لأنها عرفت أنها والأولى شخص واحد، مثل الشخصية الثانية في القصة الومضة، لم يفد معها السب والشتم، فلم تنتبه له.
أما في قصة "الكرسي المتحرك" فيبرز أمامنا صراع حاد بين الشخصية الأولى التي تؤكد على حب حبيبته، والشخصية الثانية "معوق الحرب" الذي لا يرغب بهذا الحب لانه معوق .
تبدأ القصة بهذه الكلمات:
:- موافق .
لم تكن الكلمة التي نطق بها الآن - وبالضبط في هذه اللحظة "أقصد لحظة نطقي لتلك الكلمة"، سوى السحر نفسه... اذ جعلت "شقيقتي التي تصغرني بعامين" طائرا يحلق في الفضاء الذي ينقسم الى نصفين مضطربين بالفرح، احدهما الذي ما زال "هو، وكذلك أنا بالتأكيد" يقبع فيه، وهو يجلس على الكرسي ذي العجلتين، والآخر، الذي ضاق بـ "عفاف"، فأمتلأ بها، أو هي ملأته بساعديها المفروشين كجناحي طائر راح يرقص فرحا، في فضاء هادئ جميل".
وتنتهي القصة باسكات صوت الشخص الثاني "المعوق"، ليأخذ الأول دور القيادة:"كانت هي المبادرة.. بيدين احسست بهما ترتعشان فرحاً، راحت تدير اتجاه الكرسي.. فالتهبت النار.. الحب.. الحنين.. الشوق.. في حضني "حضني أنا وليس حضنك أنت".. كان شعرها الأسود الفاحم الناعم قد ملأه "سأقتلك ان دفعت برأسها خارج حضني".. تكوم مرة واحدة، وراح ينشج".
وهكذا انسحب الشخص الثاني، "تكوم" وراح ينشج
في هذه الدراسة تناولنا ثلاثة نصوص أدبية، وهي نصوص مختلفة من أنواع أدبية، شعر، وقصة ومضة، وقصة قصيرة، لبيان الكيفية التي يتناول بها أي كاتب نصه من حيث الشخوص خاصة، اعتمادا على ما جاء في فتوحات علم النفس من عوالم تم وصفها من قبل رائد من رواد هذا العلم وهو الطبيب سيغموند فرويد ، وهي عالم النفس البشرية من حيث الانا ، والانا العليا.
وقد يكون الكاتب غائبا عنه هذا الوصف، وقد يكون عالما به، ولكنه قد اجاد طرح موضوعه بقدرة ابداعية كاملة.
تزاحمت الشخصيتان فيما بينهما، حيث قدمت الأولى "الأنا" أفعالها وأعمالها، فتبعتها الثانية "الانا العليا" الحافر على الحافر، فاستنسخت أفعالها وأعمالها جميعا في الوقت نفسه.
واذا كان الكتاب الثلاثة لم يذكروا أي الشخصيتين في نصهم هي الباقية، فهذا يعني فوز "الانا"، لأن " الانا " هو الذي يعيش في الواقع، أما الشخص الآخر، اللاوعي "الأنا العليا"، فحتما انه سيضمحل أمام سطوة الواقع "الانا" وهنا يبرز "الهو" الفاعل.