"مروا علي".. اشتغالات الحنين وفطنة الصوفية / محمد المطرود*

ترتكز جملة عيسى الشيخ حسن الشعرية على أبعاد ثلاثة، وتكاد الأبعاد/ الأثافي هذه أن تشكل ديدن عمل الشيخ حسن في سابقاته، قصائده المجموعة في كتبه:"يا جبال أوبي معه أمويون في حلم عباسي، وعمله الأول أناشيد مبللة بالحزن"، وهو بذلكَ الجَلد يؤسس مشروعه الشعري، ويعطي مفاتيح نصوصه لقارئه لتقرأ باسمه ابتداء من حرفه الأول وانتهاء بالجملة المشحونة بأسئلتها وذكائها وفطريتها في الوقت نفسه، بحيث لا نجد مغالاة في تثوير النص لجهة المعرفة أو التحميل على حساب روح النص الأولى، وهو بذلكَ يذهب بعيداً في "تمرير حبات" سبحةِ الكلمات معطية أي "السبحة" بهذا التماسك والتتالي الفرصة والهامش المناسبين، ليأتي القول كما لو جاء في أوانه الذي فرضته اشتغالات النفس ومراكمتها، ثم الحالة الشعورية والإحساس بالموضوع من حيث "الأنا" والذات المنفتحة على آخر، هو بالضرورة وسط متعدد وساخن بما يدفع إليه حدثاً وفعلاً مشيداً من جهة شاعريته في حالته الخام، أو من جهة سطوته للمتعة المبهرة أو خلافه للحالة السكتةِ أو الميتة أو اليومية الرتيبة، إذن فلا قسر ولا عصا تلوح، بمعنى ما سنجد نصاً غافلاً عن نفسهِ، شارداً عنها ومدركا في الآن ذاته أنّه قيلَ بهذا الشكل وهذه الطريقة، لأنه لا مسرب سواه، وبالتالي نحن هنا أمامَ جسم وهيئة كائن يقدم نفسه لقارئه بوصفه كائناً مختلفاً لا يتشاكل مع الآخرين تناصاً أو تلاصاً أو تأثراً، بجواز التأثر ومشروعيته بل على العكس من كل ذلكَ تأسست له لغة مغايرة للسائد والواضح الأفقي من المفردة إلى صياغة الجملة/ الجملة الشعرية الناهضة بأعباءِ الإيقاع والمعنى والمرامي الدفينة للمجاز وغيره.
وإذا كنت دللتُ بحسب قراءتي للكتابِ الأخير "مروا عليَّ" إلى ثلاثة أبعاد رابطاً الشغل هنا بمجموعِ اشتغالات المنتج، حتى غدت كتابته تفصح عن نفسها وتدلل قارئها إلى روائز واستنادات يفهم نصه على إثرها ويتحدد طابعها من خلالها، وأولها "الأبعاد": اللغة وإن تكن اللغة شرط عين في الكتابة عموماً فإنها عند الشيخ حسن منطوقٌ وذهاب بها إلى ينابيعها ليس من معجميتها قرباً أو بعداً، إنما استخداماً وموفقية في اكتساب خصوصية مفرطة تسمح للمتابع الجيد أن يتعرفَّ لغة هذا الشاعر بما تشيعه خلفها، وبما تخلق من فضاءات وتهويمات تطبع نصه به، بشخصهِ وبحنينه الآسر، ويكاد من يقرأه أن يقول:"لو كان الحنين يقتل لقتل هذا الرجل أولاً".
ويمكن من العنونة المنسحبة على نص طويل في المجموعة تلمسّ اللعبة وتلمس خط سير الحنين، فالعنوان "مروا عليّ" بالفعل الماضي يجوز رده إلى الأمر "مروا" بضم الميم وفي ذلك رغبة جامحة في تتبع مواطن من ترك، والحاجة إلى مرورهم في طللية واضحة تستذكر السلف الشعري والسلف العاشق، وهو ما يؤكد صفاء اللغةِ والذهن، في هضم موروث غني وإعادة إنتاجه بأدوات وتقانات جديدتين، وبروح جديدة تتلبس الماضي، لكنها غير معتدة به لتعيش في كنفه وبما يسمح، ما سيجعل، لو الأمر كان كذلك، أن تأتي اللغة هنا بلا اللعبة والدراية بما يحدث من تطور صناعي للغة والعالم أجمع، الكونية هذه هي ما يجعل الشعراء، وعيسى منهم، أجدر بتكثيف الحياة والعلاقة معها ضمن اللغة ومن داخلها، ربما هو فهم مبكر لما يقال أو يتم الترويج له، على الرغم من الانفتاح التواصلي الهائل "حروبنا المقبلة هي حروب لغوية" قالها أحدهم مسيّساً وسيلة التواصل وظيفياً وتجاوزاً للوظيفيةِ. يقول عيسى الشيخ حسن في "مَروا عليّ" كتابه الجديد الصادر قبلَ أيام عن دار نينوى:" ليسَ من سببٍ/ أرى الضدين يتفقان/ والبحرين يلتقيان/ والنارين تبتردانِ/ والأسرارَ ذارفةً/ وحزناً يستطيلُ/ وشهوة الإيماض في حطبِ الغوايةِ/ واندلاع البحر بالسفن الغريبةِ/ وانحناء قصيدتينِ/ على سؤال باردٍ.. في أوّل الحرب".
أما البعد الثاني "الصوفية" المرتبطة غالباً بسؤال معرفي وجودي، هي هنا عند الشيخ حسن تشكل متكأ شعرياً خالصاً، مَرد الأمر إلى تربية دينية طالته بحسبِ حوارات أو كتابات وجدانية، جاءت في مواضع مختلفة، سواء تصريحاً أو تلميحاً. وهنا في الكتاب موضوع القراءة نقرأ وبشكل سافر تلك النزعة الطافحة على سطحِ أكثر من نص، بل لا نبالغ إذا قلنا أننا نلتقط هذا الملمح في المجموعة كلية، المجموعة التي لُفّت بخيط دلالي وتقاربت لغة النصوص وأجواؤها من بعضها، ما يحدونا لأن لا ننظر إلى الفعل كلية على أنّه حالة صحية لو استثنينا التنبه الذي أراده الشاعر لربط المجموعة درامياً وإعطائها مشروعية الحضور، كما لو أنها نص واحد، ولكن قُسّمت بصرياً للحاجة الفنية، ومن المعلوم أنَّ القصيدة تحتمل الفلسفة واشتغالات المتصوفة والتاريخ يقدم صورة المتصوف الشاعر، ذلك الذي يزف موضوعته إلى مريديه ومتلقي علمه بمجاز وتكثيف شديدين، ولا أجدى من أن تحمّل القصيدة بالتكثيف، منعا من ترهل المقولة أو فضفضتها وهو ما فعله الشيخ حسن في أكثر من مكان من مجموعته "مروا عليَّ" وهو يخاطب شيخين أحدهما "أبي" وآخر كأن يكون شيخ المعرة أو السهروردي أو ابن عربي أو.. أو، يقول:"يعذّبني الشيخ../ يعذبني حين يخبّئ عنّي العارفَ في سحنته/ ويعذّبني حين يدسّ لي الرؤيا في صُرّته/ ويعذّبني حين يدثرني بوصايا الصمتِ/ ويسرفُ في الرؤيا فتغيم على عينيه الأسماءُ فيجهشُ:/ أتعبنا هذا السفر المتطاولُ… فالتمسوا في هذا الليل غناءً كي نمكث فيه/ ونسأل عن ولدٍ أفلتَ من قمصانِ الوجدِ ورفرفَ.. صعلوكاً../ تتضاءل دونَ متاهته الأشياء".
في البعد الثالث، ثالث الأثافي "الفكرة" وهي الحنين أيضاً كثيمة ومنطقة التباس وبؤرة حدث، وفي حال من الأحوال هي البلد بحرائقه الأكثر استعاراً "سوريا"، إذا عرفنا أن الزمن الذي تمَّ فيه إنتاج "مروا عليَّ" يمرَّ بالسنوات الأربع للحرب والثورة ويأخذ منها، ففي أماكنَ تتوضح الفكرة لتلامس العادي والكثير كردة فعل مشروعة وأصيلة، ولا يمكن مجاراتها إلاَّ بالقدر المتاح مباشرة وآنياً، وفي أماكن أخرى تهدأ اللغة ويعاد تدويرها على نار هادئة حتى تجيء مصقولة وبأكثر من لون، تتدرجُ من الغامق إلى الغامق الصادم بجمال التركيبة وهول الفاجعة المتحدّثِ عنها يقول:"وضلُّوا/ دفاترَ آبائِنا لا تشيخُ/ يتأتِئ فيها هواةٌ/ ويأخذها في المساءِ حواة/ إلى حيث تومضُ شيئا قليلاً/ فقولي: تَخفَّ عن الموت/ قولي: تعالَ صباحا/ وأبق لي الورقات التي رسمتني". وإشارة دامغة إلى حنين يصل حد الأعياء وتتحدث عن أناس مروا في يوم ما أو يراد لهم أن يمروا لتوسم المجموعة بهم وتكون لسان حال شاعر ما أو لسان حالهم عن متنفسهم هنا "وأنا نسيت/ نسيتُ ما تركوه في شجري/ من الظلّ الحنونِ/ نسيتُ ما تركوه في جملي من الإعرابِ/ واللغةِ الطويلة/ كنتُ نسيتهم أيضاً/ ونسيت نسياني/ فعدتُ لأذكر ال شّطَبوه من كلماتِهم/ في دفتر الحزنِ/ العتيقِ/ وعشتُ بهاءهم".
كلُّ هذا القليل ما استطعنا تحصله في قراءة لا تخرج عن الصحافي ولا تبعد عن النقدي الانطباعي والاحتفائي بعمل صدر حديثاً لشاعر مازال يقدم مشروعه ويجتهد فيه بصبر وأناة، وهو بذلك وإضافة الى ما حددنا فيه ما رأيناه مناسباً للإمساك بثلاثة خيوط سهلت الدخول على المجموعة ومماحكتها عن قرب، فإنَ مواضيعَ أخرىَ يشترك فيها عيسى الشيخ حسن مع مجايليه، أو الذين سبقوه والذين لحقوا بقافلته، كالخيبة والطعنات واليوسفية التي لا ينفكُّ عنها أحَد ولكن بروح وجسد عيسى الشيخ حسن في "مروا عليَّ" أو مروا عليَّ ولا ندري ما إذا كانوا مروا أو سيمرون؟: "أولموا/ كلَّ الذئابِ/ وزيّنوا/ موتي/ وعادوا/ بالدمِ القاني/ على صدر القميصِ/ وأشعلوا/ حطبَ الغواية في مدى الرؤيا/ وتابوا/ عن حبيباتٍ جرحن الليلَ بالموت/ القليلِ فأجهشت ريحُ الصبابةِ/ ثم قطعّن النهاراتِ الحزينة بالأغاني".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ناقد وشاعر سوري