شيء عن القضية التي أوقدت نار الثورة الحسينية وأحيت ضمير الأمة بعد خراب / عبد الأمير شمخي الشلاه

ما كان يميز الوضع السياسي والاجتماعي عام 61هـ .. أن الأرستقراطية العربية كانت تعيش في بحبوحة من العيش وفي قصور ناعمة تجلب إليها من كل الأمصار وسائل الترفيه ويعيش في غرفاتها القيان والعبيد، ويجلس الأمير في حاشيةٍ من صحبه وخدمه والمتزلفين إليه.
كانت تلك الطبقة تتكون أساساً من الولاة الذين فرّوا ببيت المال ما نسميه عندنا الفساد المالي أو من أغدق عليهم الخليفة ما شاءت له سياسته، يضاف إليها كبار المحاربين ذوي الأعطيات الضخمة وأصحاب الثروات الطائلة، ومن أبناء هؤلاء جميعاً وأتباعهم، ويأتي بعدهم الولاة الذين يستمدون سلطانهم بحكم أمصار كبيرة كالعراق ومصر وغيرها. ويدين هؤلاء لهذا الفريق أو ذاك. هكذا يبدو النظام الفوقي للدولة مكوناً من هذه الأرستقراطية التي تصطرع فيما بينها على السلطة، وتكوّن كل منها تجمعات حولها في مواقعَ مختلفة تستفيد منها في تدعيم نفوذها، والتربص في اللحظة المناسبة للوثوب إلى السلطة. أما القوة الرسمية الضاربة التي تمتلك النفوذ فهي الحزب الحاكم في الشام القوة الوحيدة المنظمة. كثيرة هي الشواهد والأحداث التي تؤرخ انهيارَ القيم وشراءَ الذمم وموتَ الضمائر، وتكشف المدى الذي وصلت إليه أخلاق الناس وكيف استطاع الحكم أن يفسد هذه الأخلاق حتى يهبط إلى هذا المستوى، سنجد أن الأخ يخذل أخاه والابن يعق أباه وإن الخوف والطمع هما المحركان الأساسيان في المجتمع. في ظل هذا الوضع المأساوي يحدث ما يشبه "الوباء العام" ويفقد الناس إحساسهم بالكرامة، وحين يحكم السيف تضيع الكرامة ويستسلم الناس ويستدعون من أنفسهم كل كوامن الشر ليعايشوا السلطة القاهرة بأسلحةٍ من طباعها، فيخيل للإنسان الذي يعيش هذا الواقع أن كل ما قرأه وعرفه عن القيم الخيرة.. إن هو إلا أوهام كتّاب حالمين لم يصطدموا بالواقع.
هذا يذكرنا بقول الفيلسوف (فولتير) : "إن وقوفي لحظة في قفص الاتهام وأنا بريء ينسيني ألف كتابٍ قرأته عن الحرية".
في تلك الأجواء، كان الإمام الحسين (u) ظاهراً أكثر الرجال شعبية في مفهوم الثورة ودعاتها، فالثورة ليست تغييراً تنشده وتعمل له مجموعة مقهورة لتلغي قهرها وتسترد حقوقها وحسب، فهي أعمق من هذا .. إنها طريق إلى سلّم التطور الأخلاقي للمجموعة البشرية، وهذا يبدأ من السلّم الفردي إلى السلوك الجماعي للأمة والإنسانية جمعاء.
كان الإمام الحسين (u) يرى ببصيرته النافذة حال الأمة هذا فجاء صوته مجلجلاً من معقله في المدينة : "إني خرجت أطلب الإصلاح ".
إن الأمر هنا ليس حنكةً سياسيةً وليس غفلةً سياسيةً، إنه أمر واضح تماماً يرتفعُ عن مستوى الغفلة والخيال، هو موقف أشبه بموقف السيد المسيح (u)، هو موقف الفدية والمخلِّص، فيّكون الصرخة التي توقظ ضميراً خربوه بكل الوسائل اللاأخلاقية واللاإنسانية ..
هذا هو الحدث العظيم الذي ألهم الجواهري وفطاحل الشعراء على مر الدهور والعصور ولا يزال وسيبقى كل هذا النتاج الأدبي الشعري الثر. الأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته الشعرية "الحسين ثائراً" جسد لنا أهدافاً كبرى في هذا النداء الحسيني المهيب. سيروا بنا كي ننقذ الدنيا من الفوضى ومن هذا الخراب، سيروا بنا نستخلصُ الإنسان من هذا العذاب.
حديث عن الضمير
لابد من الإشارة أولاً كما هو معروف إلى أنه لا يوجد في جسم الإنسان عضو "بيولوجي" اسمه الضمير.. فهو شيء حي داخل القلوب عندما يغرق القلب في الظلمات والتكبر والغرور والانخداع وتعلو "الأنا" والشهوات على صوت الضمير الذي يخبو ويكاد يكون منعدماً.
وفي تعريف الضمير أو ما يسمى "الوجدان" هو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان خطأً أو صواباً، والتمييز بين ما هو حقٌ وما هو باطلٌ، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمهِ الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة والنزاهةِ عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية.
وهنا يختلف الأمر نتيجة اختلاف البيئة والنشأة أو مفهوم الأخلاق لدى كل إنسان.
التفسير العلمي الحديث للضمير
يفسر علماء العصر الحديث في مجال العلوم الإنسانية وعلم النفس والأعصاب الضمير: إنه وظيفة من وظائف الدماغ التي تطورت لدى الإنسان لتسهيل "الإيثار المتبادل" بالانكليزية "Altuism" أو "السلوك الموجه" من قبل الفرد لمساعدة الآخرين في أداء وظائفهم واحتياجاتهم من دون توقع أية مكافأة.
والضمير، وصفٌ وكلمةٌ تجسد كتلة ومجموعة من المشاعر والأحاسيس والمبادئ والقيم التي تحكم الإنسان وتأسره ليكون سلوكه جيداً محترماً مع الآخرين، يحسُّ بهم ويحافظ على مشاعرهم ولا يظلمهم ويحافظ على حقوقهم.
باختصار شديد هو ميزان الحس والوعي عند الإنسان لتمييز الصح من الخطأ مع ضبط النفس لعمل الصالح والابتعاد عن الخطأ.
الضمير في الفلسفة
مركب من الخبرات العاطفية القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقية لسلوكه في المجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه، وليس الضمير صفة ولا هدية، إنما يحدده وضع الإنسان في المجتمع وظروف حياته وتربيته وهكذا ..
يرتبط الضمير ارتباطاً وثيقاً بالواجب، ويشعر المرء بوعيه أنه إن أنجز واجبه تماماً بأنه "صافي الضمير".
أما انتهاك الواجب فيكون مصحوباً بوخزات التأنيب.
والضمير في استجابته الإيجابية لمتطلبات المجتمع، قوةٌ دافعةٌ للتهذيب الأخلاقي للفرد.
الضمير في علم النفس
يميزُ علمُ النفس الضمير بالخصائص الآتية :
الضمير.. جهاز نفسي تقييمي يتعلق بـ "الأنا" فالمرء يهتم بتقويم نفسه بنفسه، كما أنه يتلقى تقويمات الآخرين، أما ما يصدر عنه من أفعال، فالضمير يقومُ بمعاقبة الشخص إذا تبين نتيجة تقويمه لنفسه أو تقويم الآخرين له بأنها ليست جيدة.
الضمير يتصف بشمولية الأنحاء، فهو لا يقتصر لتقويم جانب واحد من الشخصية، بل يتناول الشخصية ككل.
والضمير يتناول الماضي والحاضر والمستقبل، فهولا يعاقب صاحبه على ما صدر منه في الماضي فقط، بل يحاسبه عما فعل في الوقت الحاضر، وعما سوف يفعله في المستقبل.
الضمير قد يبالغ في التراخي، وقد يبالغ في القسوة.
الضمير قد لا يكون سوياً، أو قد يتعرض للانحراف، أما إلى البلادة أو إلى الخمول، أما إلى المبالغة في تقدير الأخطاء.
شيء عن قصيدة "آمنت بالحسين"
خُطت هذه القصيدة كاملةً في كراسٍ أنيق بأنامل فنانٍ قدير، أبدع أيما إبداع في تشكيل حروفها، فأضفى عليها بهاءً على بهاء .. إنه السيد الفاضل الأستاذ حسام علي الشلاه.
وقد كتبت مقدماً هذه القصيدة في كتابي عن الجواهري ما يلي: "ألقاها الشاعر في الحفل الذي أقيم في كربلاء يوم 26 تشرين الثاني 1947 ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)، تقع في "64" بيتاً نشرت في جريدة "الرأي العام". كتب خمسة عشر بيتاً منها بماء الذهب على الباب الرئيس الذي يؤدي إلى الرواق الحسيني.
هذه عينية الجواهري الهائلة في مدح سيد الشهداء، إنها بحق تتويجٌ لخلود الاسم والحدث والمكان، وتمجيد للبطولة الخارقة لشهداء "الطف" في كربلاء، ودعوة إلى الامتثال لصوت الحق الهادر "أني لا أرى العيش مع الظالمين إلاّ برَما". ولولا الأمانة على التسلسل الزمني لخرائد الجواهري لرصعت جبين هذا الكتاب بهذه القصيدة تبريكاً وتشريفاً.
عن القصيدة يستذكر الشاعر الكربلائي محمد علي الخفاجي ما قاله له الجواهري وهو يهبط أرض كربلا:
قال الجواهري للخفاجي : ما وطئت قدماي هذه الأرض إلا وزرتُ زيارتي المخصوصة.
قلت له في حينها، ولم أكن منتبهاً إلى ما يرمي:
البدء إن لكل إمامٍ زيارةً مخصوصةً..
قلت وما تلك فقال:
وقد بدأ يُلقي مطلع القصيدة "فداء لمثواك من مضجع" وحين يصل الجواهري إلى القبة الذهبية، يقف خاشعاً متلمساً جدار ضريح الحسين بن علي عليهما السلام ويكتب فوق أفريز السطح الداخلي للضريح "فداء لمثواك.
وقد كتب الأديب "أثير محمد شهاب" دراسة تناول في جانب منها قصيدة "آمنت بالحسين" من خلال الحديث عن "هدوء الصورة المتحركة"
وطُفتُ بقبرك طوفَ الخيالْ بصومعة الملهم المبدعِ
نرى هنا أن الفعل "طُفتُ" في هذا البيت، يأخذ مع ذات الشاعر دلالة حركة هادئة ملتحماً مع قوله:
"طوف الخيال والتأمل" إذ أن قدسية هذا الجو لا يمكن أن تتم بصورة متوترة إن لم يكن هناك هدوء يتناسبُ مع مقام الحسين (ع)، لذلك قال الشاعر: بصومعة الملهِمِ المبدعِ".
شاعرنا الكبير المبدع "السيد الجليل محمد علي النجار" ألهمه مطلع قصيدة "آمنتُ بالحسين" فداء لمثواك من مضجع، ليؤرخ تاريخ وفاة الجواهري 1997، بطريقة الحروف الأبجدية "أبجد .. هوَّز" التي أجاد من خلالها التوثيق الشعري للأحداث والمناسبات في توثيق المعنى بما يناسب الموثق له والتاريخ المراد توثيقه:
يقولون قد حلَّ صرفُ الردى
ومن كان في قمة المبدعين
فقلتُ جواهرَهُ لن تموت
وجدتُ لتاريخه شاهداً
بساحةِ شاعرِنا الألمعي
يحلِّقُ في الأفقِ الأوسعِ
وتخلدُ في العالمِ الأرفعِ
فداء لمثواك من مضجعِ
311 86 + 597 + 90 + 913
= 1997 تاريخ وفاة الجواهري.
فنعم الإبداع ونعم المبدع
أنموذج واحد عن الضمير في شعر الجواهري
للجواهري، بشأن الضمير دعوة يقولُ للناس فيها:
فتفحصوا طُهرَ الضمير ولطفَهُ
فإذا استقام فكل شيءٍ هيِّنٍ
وصلاحه كتفحص الأدواتِ
وإلى جهنم سائر الزلات
هذا ميزان الجواهري.. استقامة الضمير فهو الهادي إلى طريق الحق والخير والصلاح والسمو والكمال.
أبيات الضمير في القصيدة
على عظمة كل أبيات القصيدةِ، إلا أن الأبيات الخمسة التي أمامكم معنية مباشرة بموضوعة "الضمير" الذي يشكل جوهر هذا البحث.
كأن يداً من وراءِ الضريحِ
تَمدُّ إلى عالمٍ بالخُنوعِ
تخبَّطَ في غابةِ أطبَقَتْ
لِتُبذِلَ منهُ جديبَ الضميرْ
وتدفعَ هذي النفوسَ الصغارَ
حمراءَ مبتورة الإصبَعِ
والضيم ذي شَرَقٍ مُترَعِ
على مُذئِبٍ منه أو مُسْبعِ
بآخرَ مُعشَوشِبٍ مُمرعِ
خوفاً على حَرمٍ أمنَعِ
"مبتورة الإصبع" : هي يد الحسين (ع) وقد بترت إصبعه بعد استشهاده.
"ذو شَرَقٍ" : ذو شجا وغصة.
في بيت الضمير هذا لم يستعمل الشاعر أي كلمةٍ أخرى وهو الضليع في اللغة غير استبدال "جديب الضمير" الذي لا يفيد معه أي إصلاح.
لقد أراد الشاعر كما أرى إيقاف حالة التداعي والتردي في المجتمع بهذا التصور الإعجازي، أن تمدّ يد الحسين (ع) المنقذة .. المبتورة الإصبع لتعيد الحقَّ إلى نصابهِ وإلى أصحابهِ. الجواهري هنا صاغ رؤيته للبديل مباشرةً في الشطر الثاني بهذا النص الممتلئ الذي لا يحتاج إلى توضيحٍ أو تأويل، "بآخرَ معشوشِبٍ ممرع". نعم.. بآخرَ معشوشِبٍ ممرعِ، لتسير الحياة قدماً إلى أمام، ولتحقيق أهداف الثورة الحسينية العظمى التي أوقد نارها المتأججة أبد الدهر سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي "عليهما السلام"..