أفكار في السياسة الثقافية / ياسين طه حافظ

في هذا المقال يطرح الاستاذ ياسين طه حافظ مجموعة من الافكار في السياسة الثقافية، قد يتفق معها البعض وقد يختلف معها البعض الاخر، فهذا امر طبيعي؛ فالمعرفة لن تتطور إلا عبر السجال، لكنها مع ذلك ترمي حجرا في المياه الراكدة.. لذا نأمل ان تستدعي نقاشا وحوارا خصبا بعيدا عن اية تابوهات.. وتبقى ابواب المجلة مفتوحة للحوار الراقي.
بعد ثورة يوليو 1952 في مصر، وجد الشعب المصري نفسه في اجواء من الحماسة والمشاريع الثقافية والصناعية، كما حضرت بقوة مشاريع الاصلاح الزراعي والتنظيمات الإدارية، لم تكن تلك حماسات فارغة أو غير حقيقية ولكن نسبة من التهويل الاعلامي واللاواقعية كانت حاضرة بالتأكيد.
وتأثرا بالانجازات الشعبية في منظومة البلدان الاشتراكية من تأمين واصلاح زراعي ومشاريع ثقافية تتبنى فيها الدولة هناك رعاية الثقافة من نشر الكتب والمجلات بأنواعها وتخصصاتها إلى معاهد الدراسات والثقافة الجماهيرية...، حصلت مثيلاتها تلك في مصر ضمن اجواء «الاشتراكية» المعلنة، وبمظهرها العام القائم لا على نظرية حقيقية بل على نظرية غير متماسكة أو جملة افكار.
لكننا في كل حال، في مصر وفي بقية بلداننا العربية، ربحنا العديد من المجلات وسلاسل الكتب، من التأليف والترجمة إلى الرواية والمسرح إلى الفنون والسينما ما يعيب هذا الحراك الثقافي الساخن، ان اشتراكية عبد الناصر مرتبطة - بالمزاج الشخصي أو القيادة السياسية فردية الحسم، اكثر مما هي مرتبطة بالمشروع الاشتراكي العلمي، ولذلك لم تبق الحماسة بأوجها، حصلت اختزالات هنا وهناك واختفت مجلات وتوقفت سلاسل كتب وإصدارات وبقي منها ما يؤكد: "ان ليس كل شيء زال....".
الاساتذة المصريون العاملون في الكويت وجدوا فرصتهم الثقافية و"الشخصية" فأصدروا هناك سلاسل من المسرح وكتاب المعرفة وإصدارات اخرى عديدة لتأكيد ان الدولة ترعى الثقافة وتهتم بالفنون والكتاب، وأسسوا، كما في مصر، هيأة عامة للثقافة. ولكنها هنا ذات طابع رسمي، والتي في مصر هي أيضاً تحت إشراف، غير مباشر من الدولة مع هامش حرية معروفة حدوده.
عموما كانت "فورة" مفيدة أوجدت اجواء ثقافية ونشاطاً ابداعيا ورسخت حكماً! لكن هذا الانجاز صار يخفت بتوالي السنوات، وما بقي علامات على ان الامور ما تزال بخير، وان كان واضحا تأرجحها وقلقها، وافتقاد بعضها صار ظاهرة مألوفة.
بعد 14 تموز 1958 في العراق وبعد 8 شباط 1963 حصل تقليد لما في مصر، وصدرت مجلات وصحف وسلاسل كتب ونشاطات ادبية وثمة نشاط في المسرح والسينما، ومثل هذا كان في سورية، من قبل، تظاهراً بالاشتراكية أيضاً ونزوعا إلى الاهتمام بالجماهير ونشر الثقافة والكتاب.
على العموم، في البلدان الثلاثة بدا التناقص وان لم يختف كل شيء، لكن الارباكات والتلكؤات ومحاولات الايقاف ظلت تجري لإثبات الجدارة الادارية اكثر مما لانجاز مهمات ثقافية رئيسة وأساسية، وهنا لا بد من ان أقول، اني لست غافلا عن أن تبني الدولة للثقافة والنشاطات الثقافية وراءه هيمنة غير مباشرة على اتجاهات العمل كما على مفرداته. لكنه مرحليا عمل محمود لنشر الثقافة ورعايتها.
لا أحد اليوم، لا في مصر ولا في سوريا ولا في العراق يعقد آمالا على النزوعات الاشتراكية في هذه البلدان. ولذلك فأي مشروع ثقافي للمستقبل يستوجب نظراً جديدا وعدم الاعتماد على ما ورثناه من الازمنة السابقة، أنظمةً أو برامج. فنحن اليوم لا نفسر الانحسار بتقصير الدولة أو بضمور اقتصادها، انه التحول الصريح، والمعلن، إلى اقتصاد السوق، اقتصاد السوق يعني ان الدولة ليست مسؤولة عن نشر الكتاب والمجلة ولا عن رعاية دور النشر بديلا من القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، الدولة يمكن ان تخول أو ترعى منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية المدنية وهذه بدورها تقوم بمهام الرعاية لمنتسبيها وإبداعاتهم أو تأليفهم.
فيمكن، مثلا، ان تمنح الدولة اتحاد الادباء والكتاب مبلغا كافيا وتلزمه بإصدار عدد من الكتب لأعضائه بمواصفات وشروط تشمل علمية الكتاب ومستواه في الطباعة والإخراج، وليس صعباً ان تؤسس له مُجمَّعاً طباعياً إذا شاءت، في هذا التحوّل ضرر قليل ولكن فيه من جانب اخر مكسب كبير، الدولة في هذه الحالة لا تُشْرف ولا تحدد ولا تفرض شروطها على مضمون الكتاب، لقد ربحنا الحرية، ربحنا التحرر من الدولة وما عدنا نخضع لاستمارة "الخبير" وتعابير بالية تخلى عنها المجتمع مثل "لا يتقاطع مع فكر الحزب والثورة.."، واصبحت لنا مؤسسة شعبية للإصدارات الثقافية.
في اتجاه عمل مثل هذا، تصير على دائرة الشؤون الثقافية، مثلا، مهام اخرى محددة اكثر وأكثر نظاما. انا شخصيا اقترحت، ومنذ سنين، ان تغير اصداراتها، هي ليست مسؤولة عن نشر الشعر والقصة ورعاية الناشئين، هي دار الدولة الرسمية، مهمتها نشر الكتب التي تهتم بالعراق دولة ووطنا، تاريخا وحاضرا، احداثه التاريخية والسياسية ووثائقه وما يكتب عنه وعن حضارته وحاضره في السياسة والمدارس الفكرية عبر تاريخه وكل ما يتعلق به كدولة وبلد ذي تاريخ وحضارة، أي تؤكد على نشر كل ما يتعلق بماضيه وحاضره من وثائق ودراسات عربية وأجنبية، حتى اذا اراد متخصص ان يكتب عن العراق أو يدرس ظاهرة، فسيعتمد على اصدارات هذه الدار العراقية الرسمية المهمة والموثقة.
بعض مثقفينا ما يزالون بعقلية الخمسينيات والستينيات، يلهجون بهيأة عامة للثقافة... ناسين ان البلد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا يعمل اليوم باقتصاد السوق وان بقايا النزوع الاشتراكي برعاية الدولة للنشر والنشاطات الثقافية، ما عادت تتفق والاتجاه الجديد، اعني اقتصاد السوق، التفكير العملي اليوم هو دعم منظمات المجتمع المدني ذات المفردات الثقافية لتهتم كل منظمة بحقل نشاطها - الثقافي اذا كان ذلك ضمن برامجها، ليس مطلوبا من الدولة إلا رفع سقف الحصص المالية للمنظمات الثقافية لتغطية اهتماماتها بالنشر أو المهرجانات والندوات.
وهو هذا شرط التحرر من الدولة فكريا، وهو هذا شرط تمتع المنظمات الثقافية بحرية عملها، وحتى هذه المساعدات أو الحصص المالية، يأتي زمن وتنتهي، تنتهي عندما تتكامل امكانات المنظمات الثقافية وتصبح قادرة على ادارة شؤونها، المساعدات المالية في بريطانيا اليوم هي من غرفة التجارة، من الكنيسة ومن المعهد البريطاني British Council، وفي الولايات المتحدة، الجامعات وأقسامها تصدر المجلات بأنواعها العلمية والأدبية ومطابعها تنشر الكتب العلمية والأدبية أيضاً، والجمعيات والجامعات هي التي تتبنى الندوات بمراجعات كهذه، بتنظيمات جديدة واقعية كهذه، تصبح السياسة الثقافية لدوائر الدولة المنضوية تحت لافتة وزارة الثقافة، واضحة ولا تضيع وقتاً وجهودا طباعية وبشرية.. حتى الدول التي انفرطت من المنظومة الاشتراكية، خضعت لاقتصاد السوق وبدا فيها تفكير جديد وغيرت سياساتها الثقافية، حددت خطوطا جديدة لعملها تتفق وتوجهات الزمن الذي هي فيه، نعم، قد لا يكون هذا مريحا، ولكن هو هذا اقتصاد السوق ما دمنا لا نفكر بالاشتراكية ونعترف بان تحولات سياسية واقتصادية حصلت، علينا ان نحترم الاتجاه الجديد الذي تعمل بموجبه أو تتبناه الدولة.
ولكننا نحتاج إلى بنى تحتية، إلى تأسيسات تقوم عليها المشاريع المنظماتية، من هذه ان الدولة في مرحلة البناء هذه تعمل على اقامة مقرات حديثة لهذه المنظمات تتوفر فيها قاعات اجتماعات وقاعات للنشاط العام، فإذا تيسر هذا وتسلمت حصصها من ميزانية الدولة، وكما تقرره وزارة الثقافة، تستطيع حينئذ ان تبدأ نشاطها: نشر كتب أو مجلات أو ندوات ومهرجانات، نحن بهذا نكون منحنا المنظمة حرية العمل والتصرف ووسعنا من نشاطها الثقافي، وأيضا نكون قد حررنا الوزارة من عبء وتفاصيل وكم من الموظفين ودوائر روتينية غير منتجة أو غير مقنعة وباعثة دائما على التذمر.
نشر الكتب الأدبية والمجلات وإقامة المهرجانات، هذه أصلاً ليست من مهام الدولة أو وزاراتها، هي نشاطات اجتماعية، تفقد حريتها في ظل الدولة.
كما أننا نريد العملي الدائم، لا المزاجي - السياسي الذي يطبع اليوم ويوقف غدا أو يسمح للمجلة اليوم بمئتي صفحة وغدا يختزلها إلى ثمانين لأسباب مالية مثلا وكما حصل لنا مرات.
وحتى دار المأمون للترجمة والنشر، هي ليست مسؤولة عن ترجمة أي كتاب لهذا أو لذاك، وحسب المزاج والعلاقات أو الاجتهادات الآنية، مسؤوليتها ان تترجم الكتب التي تعني بالعراق، بالدولة العراقية، بتاريخ العراق، بالوثائق التي حفظت أو اكتشفت عنه، او التي تحتاج لها الدولة، هذه هي مهام الدوائر الرسمية وهذا هو الفرق بينها وبين دور النشر الاهلية أو المنظمات والجامعات. ومع تقديري لجهود الاصدقاء في دار المأمون ومباركتي لنشاطاتهم، لا بد من وقفة للتساؤل: ماذا نترجم ولمن وكيف نسوّق؟ ثلاثة اسئلة مطلوبة لكل نشر لا للترجمة وحدها، ان ترجمة بعض الكتب التراثية إلى الإنجليزية، مثلا، تثير التساؤل: المستشرقون يعرفون العربية افضل منا ويعرفون مكان المصادر وحيث توجد المخطوطات، والانجليزي العادي غير معني بموضوعات كهذه، نعم بعض الكتب جيدة ولكن لمن نترجمها وكيف توزعها؟ نحن لا نستطيع ان نوزع الكتاب العراقي في المدن العراقية، فكيف بالكتاب المترجم إلى الإنكليزية المراكز الثقافية؟ توزع بضع نسخ وتبقى مكومة في مخازنهم ولا مانع يمنعهم من القول تهافتَ الاجانب عليها! اظن عمل المأمون يمكن ان يتوسع الى مؤسسة ربحية لترجمة المؤتمرات أو الافلام أو الوثائق، هو خط عمل ثان عملي وصحيح وفيه فائدة للناس وللعاملين فيها.. وهو خط عمل يتطلبه تطور البلد وستزداد الحاجة اليه.
اعتقد بان تفكيرا جديدا لتنظيم عمل دوائر وزارة الثقافة مطلوب ضمن التحولات الجديدة والفكر السياسي الذي يسود الساحة وينسجم مع ما في العصر ومع الدولة التي حققت انتقالا ما إلى الديمقراطية اللبرالية او ان تحوّلاً فكرياً حصل، الارث الاداري ما عاد مقنعا اولا ثم انه صار مُتْعِبا للعاملين في الوزارة بسبب المفارقات الحاصلة في التطبيق.
بعض مثقفينا يلهج بالمشاريع القديمة التي انتهى زمنها وبقاياها في الطريق إلى التغيير، من هذه ما ذكرناه عن تأسيس هيأة عامة للثقافة، هذا مشروع ما عاد في زمنه الدولة، أي دولة من الدول غير الاشتراكية ما عادت مسؤولة مسؤولية مباشرة عن العمل الثقافي وليس مطلوبا ولا مرغوبا فيه هيمنة الدولة على النشر والأنشطة الثقافية، هذه مهمات المنظمات والجامعات والمؤسسات المدنية، كما أوضحنا ونُعيد القول: على الدولة منح هذه حصصها من ميزانية الوزارة لتتكفل بعملها وتحرر الوزارة من التفاصيل، لكن لجنة خبراء في الوزارة لرسم السياسة الثقافية العامة للبلد، هذا موضوع آخر يتطلبه عمل الوزارة وهي التي تقدر الحاجة له.
لجنة استشارية من معنيين حقيقيين يمكن ان تبعد الارتجال والمزاجية والاجتهادات الآنية و"الانتفاعات الشخصية" التي تتلبس عادةً لبوس الصالح العام.
ان تحرر المنظمات الثقافية وتمكنها ماليا سيمنحانها المقدرة على العمل الاوسع وستعرف هي عندئذ كيف تخدم التعددية الثقافية وترعى ثقافات الاقليات والنشاط الفردي، ما عاد الظرف الجديد يسمح لان تنشغل الوزارة بطبع هذا الكتاب وتلك المجلة، مطلوب منها عمل أكثر مركزية وإلا فهل يعقل ان تنشغل وزارة دولة بنشر قصيدة لهذا وقصة لذاك؟ وهذا يعترض عن كتاب تأخر وكتاب رُفِض؟
مطلوب من وزارة الثقافة اليوم ان تتبنى تصورا ديموقراطيا لبراليا وان توقف ما ورثته من انظمة وبرامج عمل تنتمي لفترة ادعاء تثقيف الشعب واشتراكية الثقافة، الدولة اليوم تقدم مالا وتطلب من المنظمات عملا، وهذه تخدم أعضاءها، سواء بأجور رمزية أو بمعونة تُجْتَزأ من المعونات التي تلقتها، وحتى تكاملها ماديا ومعنويا فلا تحتاج بعد عونا.
ان استمرار وزارة الثقافة على تبني نشر الكتب والمجلات من دوائرها والإشراف الثقافي على المهرجانات من قبلها، فيه نفع آني لكنه يمنع تطور المنظمات والاتحادات ويقلل من هامش الحرية لعملها ويبقها تابعة للمؤسسة السياسية.
إن تقديري لجهود اصدقائنا في الوزارة هو دافعنا لتقديم افكار مثل هذه، القصد مشترك، والتجديد مطلوب من الجميع وحسب التحولات الاقتصادية والسياسية في البلاد، علينا ان نقرّ بأننا نعمل بعقل مرحلة أُخرى ماضية وعلينا اعادة النظر في المهام وآليات الانجاز.
النشر والنشاطات الثقافية والمهرجانات فعاليات وأنشطة شعبية، لا بد ان تنتهي مرحلة كونها مهمات رسمية. هذا هو التحول إلى الديمقراطية الارتباط بالدولة يعني الانتقاص من الحرية، بعبارة اخرى يعني بيع المنظمات والاتحادات لحرياتها مقابل "تكريم" الدولة، هذا فضلا عن تغيير هوية العمل من ثقافي إلى اعلامي! خط مرفوض يجب ان يتوقف.
الفعل الرسمي، نشاطا ثقافيا أو مهرجانا أو نشرا، لا يمكن ان يغطي الابعاد وتعدد الثقافات، النشاط الحر هو الكفيل بذلك، هو عمل منظماتي هدفاً وإجراءات، للوزارة إعداد السياسة الثقافية العامة والإشراف الاستشاري من بعيد، المنظمات الثقافية هي قطاعات شعبية اصلا والدولة ملزمة بإدامتها وملزمة بالحفاظ على حرياتها وتمكينها من مهماتها.
وزارة الثقافة اليوم تقف في الوسط المرتبك لمرحلتين، مرحلة ما ورثته من بقايا النزوع الاشتراكي وتبني للدولة للأنشطة الثقافية ومرحلة الديمقراطية الليبرالية الناشئة واقتصاد السوق، وهذه الوسطية والجمع بين المختلفات سبب للفوضى وسبب لهدر الاموال التي لا تصرف دائما في مواضعها، كما ان عملا من هذه لا يخلو دائما من ارتجال أو اجتهادات شخصية ولا تخلو الاجتهادات من انتفاعات، اظن ان اموال الدولة يجب ان تصرف بموجب خطط واضحة ورؤى جديدة من اجل نتائج واضحة وأفضل.
نحن نقول بهذا لأننا لا نريد لجهود اصدقائنا في الوزارة ان تضيع أو لا تحقق كل ما هو مؤمل منها، المسألة المطروحة ليست شخصية ولا مذهبية قدر ما هي رؤيا اقتصادية وراءها ما حصل من تحول سياسي وخطط ومنظومات عمل جديدة تقترب مما هو في العالم الحديث اليوم.
باختصار: ما ورثناه ما عاد بكامل صلاحيته والدعوة صريحة للتغيير!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 378 - 379
تشرين الثاني 2015