- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 01 شباط/فبراير 2016 20:16

يفرض الواقع المعاش هيمنته على عموميات وجزئيات الحياة وخاصة في الفترات العصيبة والمصيرية، والعراق اليوم يمر بظروف معقدة وهو يخوض حرباً ضروساً ضد هجمة بربرية ظلامية لا تعرف للحياة معنى سوى القتل والتدمير والمتمثلة بـ "داعش" وفكره الظلامي المتخلف الذي عفا عليه الزمن وتجاوزته القوانين والأعراف التي تؤمن بانسانية الانسان والحياة المتطورة.
لقد انبرى لهذه الهجمة الوحشية وتصدى لها من يؤمن بتربة العراق وقدسيته وبشتى الوسائل منها التضحية بالنفس والشهادة. واذا اعتبرنا ان الفن عموما والدراما خصوصا تشتغل على اعادة انتاج الحياة بصيغ جمالية وفكرية مكثفة من خلال تجربة حياتية حقيقية او متخيلة فان مسرحية " حصار آمرلي " اعداد واخراج جمال الشاطي التي عرضت مؤخراً على المسرح التجريبي في معهد الفنون الجميلة – الكرخ - الدراسة المسائية، هي محاولة لتقديم تجربة حياتية مكثفة ابطالها يمثلون شرائح مختلفة من الطيف العراقي هاجسهم حب الوطن والدفاع عنه متجاوزين الهويات الفرعية التي تعمل على تدمير البلد.
اعتمد معد ومخرج العرض المسرحي جمال الشاطي على حكاية مقتطعة من الواقع العراقي المعاش الذي يتجسد في مناطق القتال ضد العدو الظلامي وعصابات الجهل والتخلف واختار منطقة آمرلي لتجسيد الحدث كونها من المناطق التي خاضت حرباً ضروساً ودافعت دفاعا ملحميا، انتصر فيها العراق متمثلاً بـ آمرلي.
أبطال الحكاية هم نماذج لشخصيات مختارة من عموم الشعب العراقي بلحمته وتكوينه التاريخي الذي انصهر فكان المجتمع العراقي والذي اصبح كطائر العنقاء، فكلما يحرق ويصبح رمادا يحيا من جديد. هذا هو العراق الذي تمثل بآمرلي الحكاية والرمز.
في الحكاية شخصيتان رئيستان وشخصية أخرى ثالثة عملت على استمرارية الحدث وصولا الى نهاية المسرحية التي حاول فيها الشاطي اشراك عدد أكثر من المقاتلين لحسم المعركة لصالح أصحاب الأرض. هذه الشخصيات الثلاثة تنصهر في بوتقة وتظهر وكأنها شخصية واحدة لها هدف واحد، تجتمع هذه الشخصيات اثر سقوط قذيفة صاروخية تقوم بهدم دارين متجاورتين، عندها تصبحا دارا واحدة، من هذا المكان تخرج شخصية تجسد المقاتل الصلب والمؤمن بوطنيته ومن نفس المكان تخرج شخصية أخرى تجسد المقاتل الذي يدون الأحداث وهنا تبرز رمزية الشخصيات، الاول الذي يقوم بالفعل والمتمثل بالدفاع البطولي والآخر التاريخ الذي يدون ويسطر الاحداث التي تصبح بالضرورة جزءاً من تاريخ هذا الحدث الكبير ومن خلال الدفاع المستمر من تبادل إطلاق النار يسقط المقاتل بعد ان يقوم باداء الصلاة والتي عمل المخرج على بث الشفرات من خلالها والتي تكشف عن الصلة بالمقدس الأرض التي تمثل الوطن والام والى السماء وتجلياتها السامية والنبيلة.
اعتمد مخرج العرض على منظر ثابت جسد فيه موقعاً لقتال في مكان منعزل خارج المدينة، وهو عبارة عن أكياس ترابية مكونة جداراً للصد، ووضعت هذه الاكياس أعلى المسرح، كما عمد الى وضع أكياس أخرى مصدا لهجمات العدو يمين ويسار القاعة تعطي دلالات رمزية على اشراك القاعة والمشاركة الجمعية لمحاربة العدو. هذه الأكياس الموضوعة لم تستغل كما يجب كمركز لفعل مثلا الا في المشهد الأخير وبشكل سريع، مما ترك انطباعاً لدى المتلقي بانها وضعت لكونها مصدرا لبث دلالات تؤشر على المشاركة الجمعية للقتال ضد "داعش"، اكثر من كونها بؤرة لفعل درامي يسهم في تنامي الحدث وتصاعده.
اختار المخرج جمال الشاطي ممثلين من ذوي الخبرة، ولكن هذه الخبرة لم تستغل بشكل جيد وخاصة في التعامل مع بيئة الحدث – بيئة العرض المسرحي – وما تفرضه عليه من افعال وردود افعال، اذ ان اهم ما يثير انتباه المتلقي هو عدم تجسيد ردود الافعال من قبل الممثل، من خوف وقلق وجميع الحالات الأخرى خاصة وهو يقوم بتجسيد شخصية تعيش حالات معقدة في منطقة بالغة الخطورة كمنطقة قتال مثلاً، وفي جو غير طبيعي.
ان تحرك الممثل وهو منتصب القامة من دون خوف وهو يعيش حالة حرب وقصف متبادل تجاوز على المنطق وواقعية الحدث لكون الواقعية في التعامل مع البيئة لا تلغي الخلجات الانسانية، بل تعمل على اختزالها وتكثيفها، لا ان تعمد إلى تجاوزها وكأنه انسان خارق القوة. هذه الحالة برزت بشكل واضح عند الممثل نصير جواد، لكونه كان على تماس مع العدو اكثر من شخصية المقاتل الآخر مدون الأحداث، طه المشهداني.
لقد حاول مخرج العرض المسرحي ان يعطي مشاركة أكبر لمجموعة من المقاتلين في هذه المعركة لذا عمد الى زج مقاتلين جدد وخاصة في المشهد الأخير ليؤكد على المشاركة الجمعية فيها، لكن هذه المشاركة جاءت متأخرة، على اعتبار ان مثل هذه الحروب وحسم الامور لم يأت عن طريق الصدفة، بل عن طريق التحضير لها بكل دراية وتركيز. واذا اعتبرنا ان هذه المشاركة بزج عدد اكبر من المقاتلين هي امتداد لشخصية المقاتل الذي استشهد. وتواصلاً لحالة الدفاع فانه من الأولى زج هذه المجموعة منذ البداية وكتعبير عن حالة المشاركة الجمعية والابتعاد عن البطولات الفردية التي ما عادت تجدي نفعاً.
"آمرلي" كرمز للبطولة لم تتجسد في مكان معين خاص بها كمنطقة معلومة، بل أصبحت رمزاً اخذ صفة الشمولية لذلك عمد المخرج إلى عدم التركيز على اعطاء هويتها كمنطقة ولا على إبراز أي دلالة على كونها مدينة، بل عمد الى جعلها رمزاً شمولياً يؤشر الى جميع المناطق التي تخوض قتالاً ضد داعش، هي كلها آمرلي الرمز والبطولة.
ان الشفرات التي بثها العرض المسرحي لم يجد المتلقي صعوبة في تفكيكها وكانت لمسات المخرج واضحة في سبيل ان يجعل منها، اي من هذه الشفرات، غير عصية على التفكيك، وهي من العوامل التي بثها العرض المسرحي فلامست مستوى المتلقي الذي هو بدوره يعيش الحالة بشكل مباشر او غير مباشر، لذلك بقيت سمة العراقية ملازمة لمجريات الحدث ونموه وهذا هو ما تفرضه عليه طبيعة الحكاية والعرض المسرحي في الوقت نفسه.
بذل الممثلون جهوداً استثنائية لايصال فكرة المسرحية عبر الاداء المتميز الذي تمثل بشخصية المقاتل ومدون الاحداث طه المشهداني الذي جسد الشخصية بتلقائية واعية لكونه ممثلا متمكنا من أدواته وصاحب دراية بالإضافة الى ما يمتلكه من لياقة عالية مع وضوح اللغة المنطوقة وجودة الالقاء. وكان لأداء نصير جواد الذي جسد شخصية المقاتل دورا كبيرا في ايصال فكرة المسرحية عبر ادائه المنسجم مع الشخصية. لقد شكل نصير جواد وطه المشهداني ثنائياً جميلاً عمل على ايصال فكرة المسرحية بكل وعي ودراية، وقد عزز هذا الاداء دخول شخصية المشاهد محمد لواء الذي عبّر عن كونه جزءاً لا يتجزأ من الشعب الذي يبغي الخلاص من "داعش" ومن فكره الظلامي. لقد كان صادقاً في ادائه وهذا يعود الى فهمه الجيد للشخصية والتعامل الجيد لمخرج العرض معه.
اسهم كادر مسرحية " حصار آمرلي " المتمثل بالفنيين علي السوداني واحمد السوداني وعقيل هاشم وكذلك وعد الكرخي وهند جواد مع الاسهامة المتميزة للدراما تورك الاستاذ عامر مصلح، وجميعهم عملوا على تقديم عرض مسرحي يعتبر اضافة نوعية لما قدمه قسم المسرح الخاص في معهد الفنون الجميلة / الكرخ / الدراسة المسائية، وخاصة في هذه الظروف بالغة التعقيد