رمزية التكرلي وتجريبية الربيعي وواقعية محمد خضير السحرية / داود سلمان الشويلي

اذا كان التجديد في الرواية العراقية قد بدأ بـرواية "الوشم" لعبد الرحمن مجيد الربيعي، وكانت الرواية الفنية الناضجة التي استلهمت التاريخ ولم تكن تاريخا محضا قد قامت على القلم الابداعي للروائي عبد الخالق الركابي، فان في مسيرة القصة القصيرة في العراق برزت الى الساحة السردية مجاميع قصصية جمعت فيها نماذج لنصوص قصصية،
كانت فاتحة لتجديد هذا الفن فأحدثت عند ذاك نقلة نوعية في هذا الفن السردي، من مثل المجموعة القصصية "الوجه الاخر" للقاص والروائي فؤاد التكرلي التي صدرت عام 1960، وهي حتما قد كتبت قبل هذا العام، أي انها كتبت ونشرت منفردة في خمسينات القرن الماضي في الصحف والمجلات الأدبية.
وكذلك المجموعة القصصية "السيف والسفينة" للقاص والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي التي صدرت عام 1966، حيث ان القصص التي تضمها هذه المجموعة قد كتبت ونشرت قبل هذا التاريخ على الصفحات الادبية للصحف والمجلات، أي في فترة اوائل الستينات، وهذا يعني انها تمثل القصة في النصف الاول من الستينات.
وأيضا المجموعة القصصية "المملكة السوداء" لمحمد خضير التي صدرت عام 1972، أي انها تمثل القصة في فترة النصف الثاني من الستينات كذلك.
هذه المجاميع القصصية احدثت نقلة نوعية في كتابة النص القصصي في الفترة التي كتبت فيها، ونزعت عن نفسها ثوب التقليد للنماذج القصصية التي سبقت هذه الفترة.
ومن الواضح ان بين طبع مجموعة واخرى ست سنوات تقريبا، وتأسيسا على هذا ، نفترض ان القصص التي تضمها هذه المجاميع قد كتبت ونشرت خلال تلك السنوات الست تلك ، اي ان كتابها ظهروا على الساحة الادبية الواحد بعد الاخر.
رمزية التكرلي
فؤاد التكرلي "1927م - 2008م"، روائي وقاص عراقي، نشر أول نصوصه القصصيه القصيرة عام 1951م في مجلة الأديب اللبنانية، إذ وجد التكرلي نفسه في خمسينيات القرن الماضي في جو مسموم بهواء فاسد في ظل الاستعمار وما تبعه من حكومات ملكية فاسدة ، فحاول التمرد على هذا الواقع الفاسد من خلال كتابته القصة ، فكتب نصوصا متطورة عما وجده في ساحة هذا الفن ،فجاءت قصصه لتعطى القيمة الاجتماعية الدور الكبير والمهم في هذا الفن السردي.
ان مجموعته "الوجه الآخر" التي ضمت نصوصه القصصية اتسمت بموقف فكري ناضج ،وتعبيري كذلك، إذ ان تصوير القاص شخوصه الذين اختارهم من هامش المجتمع العراقي ، ومواقفهم التي قدمها، قد جسدها خير تجسيد في نصوصه القصصية تلك التي نشرها منفردة او ضمتها تلك المجموعة.
في كتابة القصة القصيرة في العراق قبل فؤاد التكرلي، استخدم بعض القصاصين العراقيين الرمز في نصوصهم القصصية الا انه كان رمزا ساذجا، بسيطا، بدائيا، اما التكرلي فقد جاء رمزه مليء بالايحاء ، و نابض بالحياة ، انه مثل جملة المشبه والمشبه به، حيث تذكر جملة المشبه به ، فيما تبقى جملة المشبه مستترة .
اشتغل التكرلي على موضوعة الجنس الشاذ بين بعض افراد المجتمع ، ليرمز الى الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة، فكان جريئا في طرحه موضوعاته، مثل قصة "الطريق إلى المدينة" على سبيل المثال.
ورمزيته هذه التي نقل موضوعها الرئيس من المجتمع "وقد استهلها من المحاكم" الى عالم السياسة والسياسيين، جاءت لا لتصرح ،انما لتوحي عن الفساد الذي ينخر الحكومات المتتالية التي جاءت، وكذلك الاستعمار الانكليزي شبه المباشر الذي يجثم على صدر العراقيين .
ان فؤاد التكرلي قد كتب نصوصا قصصية بعيدا عما كان سائدا في كتابة القصة القصيرة ، وبهذا فقد عد مجددا في هذا الفن ، وصاحب تجربة قصصية ناضجة في ذلك الزمن الذي ظهرت فيه.
تجريبية الربيعي
ولد الروائي والقاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مدينة الناصرية عام 1939م ، درس في معهد الفنون الجميلة وكلية الفنون الجميلة فن الرسم، وقد اثر ذلك في تجربته القصصية التي سنتحدث عنها، و بدأ النشر في الصحف العراقية والعربية.
أصدر أول مجموعة له "السيف والسفينة" عام 1966، حيث تؤرّخُ هذه المجموعة لقضية التجريب في القصّة العراقية و العربية ، ونزع ثوب التقليد – بوعي او من دون وعي – لنماذج قصصية سابقة له.
يقول الربيعي عن الاختلاف الذي قدمته نصوصه القصصية:"الاختلاف ليس مسألة هينة، ويحتاج إلى وعي متقدم بالفن القصصي كما هو موجود، وبالتالي لما يجب أن يكون عليه، هو أمر متحرك وغير مستقر، فالوصول إلى محطة ما لا يعني البقاء فيها، وإِنَّما التهيؤ إلى مغادرتها، وهكذا".
ويقول في المقدمة التي كتبها لمجموعة السيف والسيفنة:"وأن من يريد أن يكون له صوته المتميز والمؤثر عليه بحق أن يبحث عن هويته الخاصة، ويبتعد كلياﹰ عن التقليد".
اذن كتب الربيعي قصص المجموعة هذه في ظل ذائقة تبحث عن صوته المتميز، والمختلف عن الاخرين ، من خلال التجريب الذي دعاه الى ذلك.
فقد كتب الربيعي نصوصه بعيدا عن التقاليد السائدة في السرد القصصي الذي يكتب ضمنه كتاب القصة القصيرة وقتذاك ، اذ لم تعد التقنيات التقليدية للقصة قادرة على استيعاب العلاقات الجديدة التي تنشأ في هذا الفن السردي الجديد ، أي انه اختلف في كتاباته القصصية عن الاخرين الذين جايلوه، او سبقوه ، فقد كسر المبادئ الاساسية الثلاثة للقصة التقليدية ، البداية ، الوسط، النهاية ، وكتب قصصه بعيدا عن هذه المبادئ ، وهذا اول عمل قام به في الكتابة المختلفة التي تجعل من صوته متميزا عن الاخرين، أي في تجريب القصة .
وتحت تأثير الفن التشكيلي وتقنياته، ذلك الفن الذي درسه اكاديميا وفك كل اسراره ورموزه، كتب اغلب نصوصه ، كما قال في احدى مقابلاته ، راجع نص "موت الجفاف" الذي اتبع فيه اسلوب الكولاج ، إذ يقول الربيعي في مقدمته للمجموعة:"إذا اعتبرنا القصة كلها مثل مساحة اللوحة فإن الجمل الاعتراضية المحصورة بين أقواس تمثل القطع الملصقة عليها، التي تملأ المساحة وتخلق فيها الموازنة والتناسق، ولا تجعل عيني مشاهدها تقعان في مطب فراغ ما"، وكذلك كتب نصوصا يمكن ان نعدها بانها قصص صبت في اسلوب سريالي، مثل نص "حفرة حيث لا أقمار" ونص "العين".
ان الذي دفعه الى اتخاذ هذه الاساليب في فن القصة بعد ان شاعت في الفن التشكيلي هو انعكاسا لما كان يراه من فساد السياسة و السياسيين في الحكم.
وهذا امر ثان بدا على تجريبيته في النص القصصي الذي ظهرت فيه نصوص "السيف والسفينة".
والمجموعة هذه "السيف والسفينة" تضم احدى عشرة قصة وكلها خارجة عن مألوف كتابة النصوص القصصية التقليدية ، المجايلة ، او التي سبقتها .
واقعية محمد خضير السحرية
محمد خضير قاصّ وروائي ولد في البصرة عام 1942 ، ظهرت أولى قصصه في مجلة "الاديب العراقي" عام 1962.
نشر مجموعته القصصية الاولى "المملكة السوداء" الصادرة عام 1972 عن وزارة الاعلام العراقية، أي بعد ان نشر اغلب قصصها منفردة قبل هذا التاريخ، حيث احدثت نصوص هذه المجموعة نقلة نوعية وكبيرة في القصة القصيرة العراقية ، فوضع القصة القصيرة في مفترق طرق، فاحتفت به اقلام النقاد والدراسين ، فكتبوا عن تجربته القصصية الكثير.
تعتمد نصوص هذه المجموعة على ما يمكن تسميته في الكتابة السردية بـ "الواقعية السحرية".
ان مصطلح الواقعية السحرية، رغم عدم تبلوره في ذلك الوقت ، الذي يجمع بين ما في الواقع المادي من مظاهر وعلاقات ، والقاص ذكي في رسم اماكن قصته التي يرسمها حيث انها اماكن منعزلة ، وبين الرؤى السحرية وما يرافقها من امور ميتافيزيقية للأشياء، والمظاهر والعلاقات، هذه الواقعية السحرية يمكن تحسسها في الكثير من النصوص التي ضمتها المجموعة مثل نص "المئذنة والشفيع والاسماك" وغير ذلك من النصوص، حيث تبقى مخيلة المتلقي شغالة في تصور ما سكت عنه النص.
تعتمد قصص هذه المجموعة والقصص الاخرى في مجاميعه التالية على الشخوص، إذ ان اغلب شخوص "المملكة السوداء" من النساء المنسحقات التي يمكن ان نقول عنهن انهن من قاع المدينة.
وقد اهتم القاص بالمكان كثيرا، المكان الواقعي المصور ليبدو مكانا يرى في اللا واقع، وفي الاحلام، المكان هذا اثر في وعي وتفكير القاص فاعطى قصصه ، فضلا عن شخوصه ، اضافة نوعية جديدة ، فجاء بحلة جديدة هي حلة الواقعية السحرية.
لقد حفلت مجموعة "المملكة السوداء" بقصص اثارت اهتمام النقاد والدارسين، فكانت اضافة نوعية وكبيرة لفن القص في العراق والوطن العربي .
***
لقد كان للقصاصين الثلاثة السبق في تقديم قصة قصيرة ناضجة نوعيا في الوقت الذي كتبت فيه ونشرت ايضا، فكان الرمز في القصة هو ما اتسمت به تجربة القاص فؤاد التكرلي في مجموعته "الوجه الاخر"، هذا الرمز الذي اختلف عن الرمز الذي استخدمه القصاصون العراقيون الذين جايلوه أو سبقوه ، حيث كان استخدام ساذج وبسيط له.
والتجريبية التي كتب فيها القاص عبد الرحمن الربيعي قد فتحت الباب على مصراعيه امام بعض القصاصين، فراحوا يكتبون قصصا تحت ذائقة تجريبية.
وعندما كتب القاص محمد خضير قصصه الاولى ونشرها في الصحف والمجلات كان هناك اسلوبا جديدا قد بشر به القاص – من دون ان يعلم بذلك - ليكون هو الاسلوب الطاغي في جل قصص مجموعته القصصية " المملكة السوداء ".
لقد سبق الكتاب الثلاثة زملاءهم في ما انتجوه من اسلوب في كتابة النص القصصي، فشرعوا في ذلك الابواب امام زملائهم كتاب القصة، فكانت القصة القصيرة العراقية الجديدة في كل شيء.