مسرحية (الأرامل) للكاتب التشيلي أرييل دورفمان / د. عبدالحسين صالح الطائي

صدرت عن دائرة الثقافة والاعلام في إمارة الشارقة بدولة الامارات العربية المتحدة مسرحية (الأرامل) للكاتب التشيلي، الأرجنتيني الأصل (آرييل دورفمان)، ترجمة وتقديم الفنان المسرحي العراقي علي كامل، الذي سبق وأن ترجم مسرحية (الموت والعذراء) للكاتب نفسه، والتي صدرت عن دار المدى عام 2005.
في اختياره لترجمة هذا النص المسرحي ومن خلال الاطلاع على مقدمته نشعر وكأنه عثر على نتاج ثقافي يجسد ما يدور في ذهنه من صور مأساوية تتناغم مع الوضع الذي مرّ به وطنه العراق تحت سلطة الحكم الشمولي الاستبدادي، والتي مازالت تبعاته متواصلة متمثلة بالاضطهاد والقمع والعنف والارهاب والتمييز والخطف والتغييب والموت المجاني.
إنها دراما مأساوية ذات أبعاد سياسية جرت أحداثها في موطن المؤلف الذي كانت تحكمه سلطة عسكرية شمولية، بقوانينها القمعية البعيدة عن كل القيم الانسانية.
عاش الكاتب (آرييل دورفمان) الأحداث المأساوية للانقلاب العسكري الدموي الذي قاده الجنرال أوغيستو بينوتشيه في 11 سبتمبر 1973 ضد حكومة سلفادور أليندي الذي عُرِف بحكمه الوطني لبلاده. وعلى أثر هذا الانقلاب قامت الطغمة العسكرية البربرية بتصفية شريحة كبيرة من المجتمع التشيلي متمثلة بالحركة الديمقراطية ومؤيديها.
تمكن دورفمان من الهرب بإعجوبة، فتنقل في بلدان متعددة، واستقر به المطاف في هولندا عام 1976. حينها هيمن عليه إحساس أخلاقي، باعتباره الشاهد الحي للأحداث المأساوية، بأن يتبنى مهمة تعريف بما يحدث في بلاده وفضح الممارسات الوحشية والدموية لسلطات العسكر، فقرر أن يجعل من كتاباته الأدبية سلاحاً فعالاً ضد من خنقوا صوت الحرية في بلاده وأن يجعل من هذه الأحداث وثيقة إدانة وشجب قوية لكل محطات الزمن الغابر التي أدت إلى تقويض القيم الحضارية والانسانية في بلاده.
بدأ في كتابة قصيدة تتحدث عن رجال ونساء اختطفوا، وفُقدوا، ولم يُعرف عنهم شيء، ورفضت سلطات العسكر اعطاء أي معلومات عنهم، ولم تُسلم أي جثة لأهلهم أو أقاربهم. هذا المشهد هزّ أعماق الكاتب دورفمان وبإيحاء ما سمع صوت إمرأة طاعنة بالسن ينقله إلى الجانب الآخر من العالم: (أمرأة عجوز تجلس قرب النهر، تمسك بذراع منفصلة عن جسد، قذفت بها المياه تواً نحو الشاطىء).
وِلدتْ القصيدة بعد مخاض عسير، لكن العجوز لم تترك الكاتب دورفمان وشأنه، بل راحت تطاردته مطالبة إياه بالمزيد لتعريف العالم بما حدث ويحدث. فانبثقت فكرة جديدة بتحويل القصيدة إلى رواية تعالج حكاية تلك العجوز ومصير أولئك الناس الذين غيبّهم الموت ولم يُعرف مصيرهم، حيث أُوحي له بأن الجثث سوف تبدأ بالظهور ولا أحد يستطيع منع الموتى من العودة إلى بيوتهم.
فابتدأ بكتابة الرواية في صيف 1978 وأسماها (الأرامل) وسارع إلى نشرها بعد أن أخذت منه عاماً كاملاً. إلا إن الرواية بدأت تصرخ بصوت عالٍ تريد أن تتحول إلى مسرحية أو فلم، كما يقول في مقدمته، وصدى صوت العجوز يرن في مسمعه، مطالبة بأن يمنحها آمالاً جديدة، بتصعيد نبرة الخطاب السياسي ضد كل أشكال الاضطهاد، وأن يجعل من مسار الأحداث ذات أبعاد عالمية أوسع، فاستجاب لنداءها بأن تحيا ثانية، وأن يكون لها حضورها المميز بالمواجهة والتحدي، وباطلالة قوية مؤثرة على نافذة العالم من خلال خشبة المسرح.
خضع نص المسرحية لإعادة الكتابة مرات عديدة، واستغرقت عملية ولادته بشكله النهائي عشرة أعوام تقريباً. الشخصية الرئيسية التي تحرك الأحداث في هذه الدراما صوفيا فوينتس العجوز التي فقدت والدها وزوجها وولدين، والتي تذكرنا بشخصية الأم الشجاعة عند بريخت.
كانت صوفيا فوينتس تجلس قرب النهر طوال الوقت تنتظر وتناجيه: (ماذا جلبتَ لي أيها النهر ؟، أنا امرأة عجوز، وليس بوسعي الانتظار طويلاً). ولم تفقد الأمل بأن المياه ستجلب يوماً أولئك الغائبين: (شهدتْ هذه المياه موتهم، المياه ترى كل شيء لأنها تتدفق وتجري في كل مكان. وحين أضّل طريقي أو أفقد شيئاً ما، أعرف أنها ستساعدني في العثور عليه).
تجري أحداث المسرحية على ضفاف نهر في قريةٍ مزقتها أحداث الحروب المروعة، وتتحدث عن جمع من النساء المزارعات المفجوعات بفقدان الأبناء والأزواج والآباء اللواتي لم يفقدن الأمل من النهر أو من الرّب أن يعيدهم ثانية من عالم الأموات. كذلك الموتى فهم أيضاً ينتظرون في مكان ما، شاهرين أصابع الاتهام ضد من قتلوهم منتظرين اليوم الذي تأخذ فيه العدالة مجراها الصحيح في معاقبة الجناة، مطالبين من الأحياء أن لا ينسوهم أبداً.
في ظل حلم العودة، والاصرار بأن لا شيء يستطيع أن يوقف الموتى، يظهر شيء ما يتحرك وسط عتمة النهر، جثة مجهولة الهوية، عليها آثار ضرب وحروق ورضوض وعظام مهشمة، دليل إدانة ساطعة بحق السلطة. المشهد الذي يجعل العسكر في وضع مقلق، والمرأة العجوز في حالة تشبث بأنها جثة أبيها وقد عادت من أرض الأموات، مطالبة بدفنه قرب والدتها فوق التلة. وفي حوار عقيم مع العسكر يتم حرق الجثة لغلق القضية. إلا إن المشهد يتكرر ثانية بظهور جثة أخرى واصرار العجوز بأنها جثة زوجها هذه المرة: (لقد أعادوا لي رجالي. اثنين عن طريق النهر، والثالث رموه على قارعة الطريق، وجميعهم ميتون، سأعود الآن إلى النهر، بانتظار الأخير).
تحدي العجوز يساندها احتجاجات نساء القرية، تجعل الكولونيل وبدفع من الضابط المساعد، أن يستخدم سلطته في اعتقال العجوز التي تمثل رمز التحدي وتهديدها باعتقال حفيدها إذا لم تستجب لطلبات السلطة. إلا إن العجوز لم ترضخ لطلبهم معززة قناعتها بمطلبها البسيط بضرورة عودة المفقودين، وأن ينال القتلة عقابهم. بهذا الإصرار، أرادت العجوز أن تكون حكايتها وثيقة إدانة ضد الظلم والابتزاز.
تنتهي المسرحية بتحدي من النوع المجازي حيث تقف النسوة في جانب، يقابلهن الجند في الجانب الآخر وهم مثقلون باسلحتهم، وبظهور جثة جديدة، تتحرك النسوة نحو النهر وينزلن إلى الماء ثم يظهرن ثانية وهن يحملن تلك الجثة، يتقدمن نحو الجند بشكل راقص، ينشدن أغنية، ويهدهدن الجثة كما لو أنها طفل مولود تواً. تتلاشى الإضاءة شيئاً فشيئاً، وتسود العتمة المكان.
في مقدمته، يقول دورفمان: «لقد أوحيَ لي أن الجثث سوف تبدأ بالظهور، وأن لا أحد يستطيع منع الموتى من العودة إلى بيوتهم، وما إعادتهم ثانية عنوة من قبل النسوة، إلا بمثابة نوع من المقاومة المجازية ضد الصمت والظلم».