في رواية « عازف الغيوم» / عبد علي حسن

تعد "اليوتوبيا" مقترحاً فكرياً لحل اشكاليات المجتمعات البشرية باعتبارها افكاراً متعالية تتجاوز نطاق الوجود المادي للمكان الذي يحتوي على أهداف ونوازع العصر غير المتحققة، ويكون لها تأثير تحويلي على النظام الاجتماعي القائم وهي بهذا المعنى مدينة فاضلة بالنسبة للفارابي وقبله جمهورية مثالية بالنسبة لافلاطون وقد تبعت ذلك لاحقاً وجهات نظر عديدة للمفكرين لم تخرج عن المفهوم الذي اشرنا إليه انفاً، وعلى الرغم من علم هؤلاء المفكرين بعدم امكانية تحقيق هذه "المدينة" فان الفكر الانساني يعدّها محاولات افتراضية لنموذج المجتمع البشري الذي ينعم فيه الإنسان بظروف تحقق له وجوده البشري السليم.
وفي روايته الأخيرة "عازف الغيوم"، يحاول الروائي علي بدر اعتماد "المدينة الفاضلة" بنية مركزية يسعى بطل روايته نبيل إلى تحقيقها خارج حدود المكان الأول "بغداد"، لتكون ثيمة عالمية لا تخضع للهوية المكانية من خلال فكرة "التناغم" الموسيقي التي طرحها الفيلسوف العربي "الفارابي" عبر دراسته النظام الموسيقي الذي اطلع عليه بطل الرواية واعتمدها كقاعدة فكرية لإحلال وإقامة مجتمع "المدينة الفاضلة" التي يحلم به ويقترحها كحل للازمات الطائفية والدينية والاجتماعية التي يعيشها الانسان في ايما مجتمع كان ويطرح البطل هذه الفكرة لصديقته البلجيكية "فاني" كالآتي:"يصبح المجتمع مثل الاوركسترا، الوتريات لهم الغربيون، الشقر يمثلون العمود الفقري في الاوركسترا مثل، الكمان والفيولا، الكونترباس , والتشللو، ثم اللاتينيون ويمثلون الآلات النفخية مثل الايوا، والفلوت والكلارنيت والباصون، ثم الشرقيون عرب، اتراك، فرس، اكراد فهم مثل الآلات النحاسية ترومبيت، هون، تروميون، وثيويا، وهنالك الأفارقة مثل الطبول والدرامز، وهنالك الاسيويون مثل بعض أنواع السيمبالات" على هذا الشرح التفصيلي التقريبي لفكرة التناغم التي طرحها نبيل على صديقته البلجيكية يعكس فهمه "الاجتماعي" وانعكاس فكرة التناغم الموسيقي لدى الفارابي للوصول إلى "المدينة الفاضلة"، "هكذا هي فكرة نبيل عن المجتمع، وقد اخذها ايضاً عن مفهوم الموسيقى عند الفارابي فالصوت الواحد لا ينتج موسيقى إنما الموسيقى تتشكل من خلال الاختلاف بين الاصوات، لكن هنا الاختلاف بحاجة الى هارموني، إلى تناغم كامل، وإلاّ يتحول الاختلاف إلى نشاز، يبطل الفكرة الاساسية التي تنخلق الموسيقى أصلا من اجلها النص". ولعل تشكل هذه الفكرة عند بطل الرواية أو عند أفلاطون أو الفارابي أو توماس مور أو سواهم، من المفكرين كان رد فعل لمساوئ المجتمع البشري وإفرازات النظم الاجتماعية القاهرة لإرادة الإنسان، فـ "نبيل" لم تتكون لديه فكرة البحث عن المدينة الفاضلة الا بعد تعرضه الى الاهانة وتحطيم آلته الموسيقية "التشيللو" من قبل جماعة مسلحة "سلفية" جاؤوا إلى محلته بسيارة دفع رباعية وحطموا آلته الموسيقية ومزقوا قميصه وضربوه وطلبوا منه تبرعاً لأنشاء جامع في المنطقة/ وهذا ما دفعه إلى مغادرة العراق لتجاوز الإهانة التي تعرض لها باحثاً عن المدينة الفاضلة التي حلم بها في موطن هجرته كلاجئ في بلجيكا التي هي الأخرى تعرض فيها الى الاهانات ومضايقات الجماعات الإسلامية السلفية، الأمر الذي جعله يستنتج أن الهوية تتحول إلى طائفة أو دين يكون تعويضاً لافتقاد هوية المكان وهو ما جعله يعتقد أن وجود المهاجرين عائقاً يحول دون تحقيق "التناغم" الذي ينشده وبالتالي فأن هنا الوجود هو من عوامل تردي المجتمعات التي تشهد تضادات طائفية وعدم إمكانية التجانس والاندماج من قبل المهاجرين في المجتمعات التي هاجروا اليها، وهو ما يحول دون تحقيق "المدينة الفاضلة" الاندماج بفعل الاختلاف في المكونات الثقافية والنفسية للمهاجرين الذين لم يتمكنوا من الانسجام مع المنظومة القيمية للمجتمعات التي هاجروا اليها بسبب تلك الاختلافات، على أن هذا الاعتقاد يجابه باعتراض صديقه "فاني"، "لا تظن أنك في بلد عظيم، هذا البلد لا شيء في الحقيقة.
الّا ان "نبيل" وبالمقارنة مع ما يتعرض له العراقيون في العراق فأنه يجد في بلجيكا "المدينة الفاضلة" فانه لم يعان من البلجيكيين الذين وجد فيهم ملاذاً حقق له السعادة التي ينشدها، إلا ان المشكلة كانت مع المهاجرين الذين وجد فيهم السبب في عدم تحقيق المدينة الفاضلة الذي تستوجب "التناغم" في أعضاء المجتمع واحترام الاختلافات التي حولها المهاجرون "السلفيون" خاصة إلى خلافات متسمة بالعنف كما حصل له حين كسروا الته الموسيقية ومضايقته ليزعجوا نبيل في تصرفاتهم هذه في محاولة منهم لإيجاد هوية لهم في بلد المهجر بعد فقدانهم الهوية المكانية التي كانت حاضنة لهويات أخرى ولعل أكثرها فاعلية هي الهوية الطائفية، ولعل وجودهم ضمن تلك الجماعات المنظمة وفق وجهة نظر طائفية ومتعصبة سلفية كانت بمثابة وجودهم وهويتهم الجديدة التي يحرصون على تكريسها والتحرك إزاء المهاجرين الآخرين "المسلمين خاصة" امر ضروري لهم لاكتساب تلك الهوية تأثيراً أكثر وقوة أمضى، ولم يتوقف ادراك تأثير وحفيظة هؤلاء المهاجرين عند المهاجرين المسلمين فقط وانما تعدى ذلك إلى شعور المواطنين الأصليين بالتدخل من قبل هؤلاء في حياتهم الخاصة، وتبدى ذلك في الخروج بتظاهرات رافضة لوجود هؤلاء المهاجرين لما يسببونه من مضايقات في حياة البلد. . وعلى الصعيد الشخصي فإن "فاني" – حين يعترض التركي المسلم على ما تظهره من اصوات عالية اباحية وهي في شقة نبيل - تشعر بالمضايقة وتعلن بصوت عال وصريح:"ماذا؟ صرخت بقوة في بهو العمارة كي يسمع الجميع، أنا في بلدي، أصرخ مثلما أشاء ـ ومثلما أريد ومن لا يعجبه فليأخذ بناته إلى بلده وهناك لن يسمعون سوى صوت الأذان، أما هنا فانا افعل ما اشاء. .". فضلا عن المشاكل الاجتماعية والاخلاقية التي يسببها المهاجرون الامر الذي جعل نبيل يدرك تماماً بأن وجود المهاجرين يمنع تحقيق التناغم لتحقق المدينة الفاضلة التي تخلى عن هويته المكانية بعد مغادرته العراق والبدء من جديد بهوية إنسانية شاملة في بلد المهجر بلجيكا وقد ابدى استعداداً نفسياً للاندماج والتناغم مع المجتمع الجديد ولعل هذه الفكرة "استبدال الهوية" قد بثها واعتمدها الروائي علي بدر في أكثر أعماله الروائية وبشكل خاص في روايته "حارس التبغ".. الذي يعالج فيه قضية تعدد الهوية وامكانية استبدالها وفق الوضع الجديد للشخصية وعلى الرغم من حيادية نبيل وعدم تمسكه بأية هوية إذ أن احساسه بالمكان الأول "بغداد" يتلاشى شيئاً فشيئاً اثناء سفره اللا مشروع "بالتهريب" إلى تركيا. . وحين يغادر الحدود العراقية يتوقف بشكل نهائي كل ما يتعلق بالعراق فلم يعد يذكره الا مشابهة ما حصل من قبل الجماعات السلفية في العراق وبلجيكا إلا انه كان على استعداد كامل للتناغم في المجتمع الجديد و انه يفشل هو الآخر لوجود وجهة نظر سلبيه من قبل البلجيكيين ازاء كل لاجئ بأنه دخيل على مجتمعهم. . فأثناء مشاركته في التظاهرة ضد المهاجرين يكتشفه البلجيكيون بانه لاجئ وسرعان ما ينهالوا عليه بالركلات والضرب من كل اتجاه ويتوّج من قبل المهاجرين بطلاً رغم انفه وازاء وضع كهذا يسقط في يده وهم اليوتوبيا، وامكانية تحقيق فكرة التناغم الموسيقي "الفارابية" على المجتمعات. . وليبقى الجميع محافظاً على هويته وان استبدلت بهوية أخرى جراء انتفاء مكونات الهوية الاولى.
وعلى الرغم من ان قضية الهجرة وعدم إمكانية الانسجام في المجتمعات الثانية قد وردت في أكثر من رواية وعمل أدبي إلا ان الاستجابة السريعة والحاذقة من قبل الروائي العراقي علي بدر لما يحصل في العراق بعد التحول في البنية الاجتماعية العراقية في نيسان 2003 وحتى الآن وتحديدا ظاهرة الهجرة من العراق والبحث عن وطن آخر بصفة اللجوء الإنساني يُعد أمراُ في غاية الأهمية في الكشف عن قدرة الروائي علي بدر في الاقتراب من الواقع والإمساك بتفاصيل حياتية معروفة ومكشوفة للمتلقي ومعالجتها فنياً عبر افتراض تفاصيل أخرى تؤكد براعته في تداخل الواقعي مع المفترض والإفصاح عن مشاكل الواقع بسبل فنية متقدمة في إطار ما سنطلق عليه "الرواية الافصاحية" التي اشتغل في منطقتها العديد من الروائيين العراقيين بعد عام 2003.