- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 20 آب/أغسطس 2016 19:25

حظيت الكائنات الحية التي تشارك الإنسان العيش على الأرض باهتمام الخطاب المعرفي والإبداعي للإنسان ، فقد تضمن المخيال الأدبي للمجتمعات وعلى المستويين الفردي والجمعي جملة من المنجزات التي كشفت عن تعالق الإنسان مع هذه الكائنات عبر معرفته لخصائصها التكوينية والشكلية (الخارجية) حتى صار راكزاً في المخيال الجمعي صفات معروفة تحيل إلى دلالات معينة يتصف به هنا الحيوان أو ذاك هذا النبات أو ذاك وتعدى الأمر إلى اسباغ الصفات الانسانية على تلك الكائنات من خلال انسنتها ولنا في ذلك أمثلة عديدة على المستويين المعرفي والابداعي كرسالة الطير لابن سينا أو رسالة حي بن يقظان أو "كليلة ودمنة" وكذلك القصائد والقصص الموجهة إلى الطفل لتقريب بعض المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية عبر الإحالات الدلالية .
ويعد "الطاووس" واحداً من هذه الكائنات التي تعالق الإنسان معها عبر خصائصه الشكلية والتكوينية وتوصل إلى الكشف عن مدلولاته عبر تلك الخصائص التي تشير إلى الغطرسة والتبختر والتكبر والتعالي وفق هذه التوصيفات كانت القصتان القصيرتان اللتان حملتا نفس العنوان الأولى للقاص أحمد خلف والثانية للقاص أحمد الجنديل واللتان تضمنهما العدد (12) من مجلة "الأديب العراقي" الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب العراقي شتاء 2016الخاص بالقصة القصيرة العراقية.
ففي القصة الأولى عمد القاص أحمد خلف إلى استخدام ضمير المتكلم ليكون السارد هو الراوي كلي العلم الذي يؤكد وجود كائن ما في اروقة منزله وتحاول أسرته المكونة من الزوجة والبنتين والابن تأكيد دخوله في وهم وتخيل وجود هذا الكائن الذي لا وجود له إلا في مخيلته وبعد ملاحظة وملاحقة للحركات والأصوات تمكن أخيراً من رؤيته في غرفة ابنته الكبرى التي كانت تصر بشدة على الوهم الذي وقع فيه والدها بوجود كائن ما في المنزل. الذي شهد بعد ذلك التحرك والتنقل الحر للطاووس بين غرف النوم وتجاوزها الى مشاركة أفراد الأسرة تناول الطعام على مائدة واحدة إلا ان الأب الذي رضخ لمحاولات افراد اسرته بمشروعية وجود هذا الكائن الجميل كالطاووس في منزلهم على الرغم من تبرمه وعدم احتمال رائحته الكريهة التي لا يشمها ولا يميزها أحد سواه وازاء هذا فأن "الطاووس" بعد أن تأكد له حمايته من قبل افراد الاسرة يحاول مناكدة الأب، فقد تمكن القاص من خلق خطاب داخلي بين الأب والطاووس تضمن دلالات غير ملفوظة ينبئ عن معرفة الاب بنوايا الطاووس الذي تمادى في حريته في التنقل بين غرف نوم الاسرة مشيرا إلى وجود علاقات مشبوهة بين الطاووس وابنته الكبرى تحديداً (في بادئ الأمر روعتي المشهد بما احتواه من غرابة وأنا ادفع الباب بعنف فاجأني البنت تقف وسط غرفتها شبه عارية وصرخت بوجهي وأن اقف مذهولاً أمام ما رأيت النص ص42) وفي الوقت الذي كان يرى فيه الأب خطأ وجود هذا الكائن في منزله برائحته الكريهة أولاً ولعناده ومناكدته وتجاهله لموقف الأب أكثر من مرة التي كان موقف افراد الاسرة منه سببا في تماديه، فقد اعترضت الأم وكذلك البنت الكبرى على الأب أكثر من مرة (ألا يبدو جميلاً ورشيقاً يا أبي ؟، النص42) إذ كان افراد الاسرة لا يرون في "الطاووس" سوى شكله الخارجي وحسن منظره، في حين كان الأب يرى فيه ما لا يرون وهو خطاب داخلي مضمر تم الكشف عنه عبر تصور الأب لرائحة الطاووس الكريهة والعلاقة المشبوهة التي تأكد منها الأب عبر تصرفات البنتين وخاصة الكبرى، فقد وضع القاص المتلقي في منطقة وجود تهديد مباشر من قبل الطاووس لواقع ومستقبل الاسرة التي مارست ضغوطاً كبيرة على الأب من أجل حماية الطاووس وابقائه في المنزل، الأمر الذي دفع الأب إلى اتخاذ قراره الذي وجد أن لا محيد عنه وهو قتله بضربة سكين جلبها من المطبخ بعد تمادي الطاووس في حريته في التنقل وارتمائه على فراش الأب في غرفته الخاصة وهو ما كان يخشاه الأب إلا ان الأسرة تمارس دور الحامي وتمنع الأب من القيام بفعلته، فبعد مشادة بين الأب والطاووس بالأيدي والضرب بينهم واطباق الأب على عنق الطاووس يتدخل افراد الاسرة : (تيقنت ان ما يجري بيننا قد يمتد ويطول قبل ان يداهمني افراد العائلة لتخليصه من بين اصابعي المطبقة عليه – النص44) ففي هذا النص دلالة على استماتة الطاووس في الدفاع عن نفسه ومحاولته الإجهاز على الأب.
لقد تمكن القاص المبدع أحمد خلف من تقديم رؤية داخلية لعلاقة الأب بالطاووس تضمنها الخطاب المضمر بين الأب والطاووس، بعد الخطاب هو الدلالات المضمرة التي لا يعرفها سوى المتخاطبين حسب كريماس وقد تشكل هذا الخطاب عبر موقف الأب من رائحة الطاووس الكريهة واحساسه بالعلاقة المريبة بين الطاووس والاسرة والنظرات المناكدة والتنقل بحرية مطلقة بين ارجاء المنزل، الأمر الذي جعل رب الاسرة يقرر قتله ليتخلص منه في حين كان افراد الأسرة يمارسون دور الحماية المطلق للطاووس، ولعل موقف افراد الاسرة هو ما جعل الطاووس يتمادى في تصرفاته المناكدة للأب، فالقاص هنا يضع الاسرة في موقع المسؤولية من استمرار هذا الوضع الاستثنائي لذا فأن الخطاب الدلالي لعلاقة رب الاسرة بالطاووس تضمنت دلالات شكلتها جملة من العلامات الرامزة ذات المدلول الذي كشفت عنه تصرفات ومواقف كل من الأب والطاووس على حد سواء، إذ ان تمتع الطاووس بحماية أفراد الأسرة هو ما جعله يتمادى في تصرفاته التي وجد فيها الأب ما يعكر صفو حياة الاسرة من مناكدة وغطرسة وتجاوز لحقوقه المشروعة في منزله .وبذا فقد انفتح النص القصصي عبر هذه الرؤية الداخلية على قراءات متعددة تستجيب لمرجعيات المتلقي .
أمّا في قصة "الطاووس" الثانية للقاص أحمد الجنديل فان الفضاء الدلالي للطاووس قد شكلته العلاقة الاستعارية بين الملك وخصائص الطاووس (الغطرسة والتعالي) إذ أن هذه المشابهة الاستعارية قد وضعت المتلقي في منطقة الاحالة الدلالية المكشوفة والواضحة لتكون تلك الغطرسة والتعالي صفة من صفات الملك الذي لا يأبه لمعاناة الشعب وموقفه مما يقوم به الملك من افعال وتصرفات هي اضطهاد للشعب وطمس لحقوقه المشروعة في حياة كريمة الا ان القاص يحاول منذ بداية السرد الذي استخدم فيه القاص ضمير الشخص الثالث (هو) قد نبه وبشكل رامز إلى ما يجعل الملك يتصرف وكأنه الطاووس، (بدأ يستعيد مشية الطاووس، كان حريصاً على بقاء ذيله زاهياً فهو يدرك بالفطرة التي اجلسته على العرش ان الطواويس لا قيمة لها اذا فقدت ذيولها، النص ص170) لذا فان الملك أزاء تظاهرات أبناء الشعب لا يملك الا ان يهتم بحاشيته من مستشارين وقادة وجند وسياسيين وهم الذين سيبقون على قيمته كملك فذيل الطاووس اشارة دلالية إلى الحاشية التي تكون بمثابة الذيل الذي يجمل أفعال الملك وهم بالتالي من يحميه مما يتعرض له من ثورة الشعب، (وحينما اطمأن إلى سلامة ذيله دخل برجه العاجي وأمام خارطة الوطن أعلن للجميع مكرماته السخية التي تضمن اجراء تغيرات في حكومته وبدء التفاوض مع اصحاب المطالب المشروعة، التهبت الاكف بالتصفيق وتصاعد الهتاف، النص ص171) وإذ اطمأن إلى ذلك (راح في نوم عميق تاركاً ذيله يقوم بواجباته الوطنية في حفظ الامن والسلام، ص171) إذ ان الملك لم يكن وحيداً في مواجهته المتظاهرين من شعبه وإنما أدرك مستشاره الخاص وبقية العاملين في خدمته من قادة وجند وسياسيين وقضاة هم الذين سيتصدون وعبر عنهم "ذيل الطاووس" ومن دون هذا الذيل (الحاشية) لن يكون هنالك طاووس، لذا فان وجوده وبقاءه متغطرساً محتفظا بملكه وتاجه انما هو امر مرهون بمدى إخلاص الحاشية وتفانيهم في الدفاع عنه مقابل الإبقاء على مصالحهم الخاصة.
وبنائياً فان القاص أحمد الجنديل قد استعار الطاووس وبما عرف من غطرسة وخيلاء ليصف بها الملك، باستخدام ضمير الشخص الثالث عبر الحكاية التاريخية، الا انه استطاع وعبر هذه الاستعارة ان يحيل إلى فضاء دلالي لإعلام المتلقي بان الملك او الطغيان والدكتاتورية وما ينتج عنهما من حيف وظلم للشعب انما يصنعه الحاشية (ذيل الطاووس) ليظل متغطرساً وسادراً في طغيانه، ويمكن إدراك هذه الإحالة بسهولة ويسر عبر العلامة الرئيسة التي اتخذت وضع الايقونة لما يشكله الطاووس وذيله من دلالة واضحة في حين تمكن أحمد خلف في قصته (الطاووس) من فتح النص على تأويلات مختلفة تعطي الحرية كاملة للمتلقي للتفاعل معه وانتاج نصه الخاص من خلال الرؤية الداخلية للطاووس التي تمكن من تخليقها القاص أحمد خلف، فضلا عن الاستخدام الامثل لضمير المتكلم انا بعده راوٍ كلي العلم للتوصل إلى طرح الخطاب الثنائي بين رب الأسرة والطاووس ذاته إذ ان الدلالات غير الملفوظة بين طرفي النزاع والمعبر عنها عبر تصرفات الطاووس قد استوجبت استخدام ضمير المتكلم إذ لا يمكن الإشارة الى حيثيات الصراع الداخلي غير المرئي إلا عبر استخدام ضمير ( أنا) المتكلم وبذلك فقد احكم القاص أحمد خلف بناء نصه بميزة عالية، على الرغم من ان القصتين قد توصلتا إلى نفس الدلالة والنتيجة والقيمة وهي ان من يصنع الطاووس بغطرسته وظلمه وما يحيل إليه من صفات التعالي والكبرياء الفارغ انما تصنعه الحاشية المحيطة به والتي تجمله وتحميه دائماً، ففي قصة أحمد خلف مثل هذه الحاشية أفراد الأسرة وخاصة البنت الكبرى في حين مثل الحاشية في قصة أحمد جنديل المستشارون وقادة الجند والساسة وغيرهم، الا ان دلالة الطاووس في قصة أحمد خلف كانت اكثر اتساعاً وشمولية وذات امتدادات في فضاء الدلالي في حين كانت دلالة الطاووس في قصة أحمد جنديل ذات احالة مباشرة (استهلاكية) تقطع الطريق أمام مرجعية المتلقي في التوصل إلى الدلالات التي يستبطنها النص ليتمكن من انتاج نصه الخاص عبر مرجعياته الجمالية والمعرفية.