- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 24 أيلول/سبتمبر 2016 18:36

ثمانية دواوين هي حصيلة تجربة الشاعر مالك مسلماوي التي بدأت بـ "فوضى السكون" ولم تنتهي بديوانه الأخير "مثلث الهذيان"، الذي حمل عنواناً ثانوياً "نصوص مرتجلة"، وهو عنوان توصيفي لصيرورة النص وحدود تشكله عند الشاعر ، ويشير الفضاء الدلالي للعنوان الرئيس والعنوان الفرعي إلى حرص وقصدية الشاعر على منح النصوص صفة المغايرة الشكلية بعدّها "هذياناً وارتجالاً"، فالمفردتان تشيران إلى عدم وضع مخطط مسبق ومنظم للتكلم والتلفظ "القصيدة" ولا يحتكم هذا الهذيان والارتجال إلى تفكير وانضباط فكري أو لغوي صارم بعدّ الشعر ذاته حراً طليقاً دون ضوابط ولافهم ولا معنى، فقد تبدت المعاني التي اشرنا اليها في المقدمة النثرية التي تصدرت الديوان وتضمنت جملة من وجهات النظر المشكلة لرؤية الشاعر اتجاه الشعر وصيرورته فقد حملت عنوان "قول"، وتستدعي وجهات النظر هذه مناقشة وجدلاً يستمد ضرورته من الاشكالات التي يُثيرها الشعر المعاصر وعلى كافة مستوياته الشكلية وانماطه المختلفة/ ومنذ بدأ "قوله" يشير إلى "ان اللغة نظام والشعر رؤيا لا تخضع لأي نظام .. وازاء ذلك نقول أن اللغة نظام قواعدي تتبدى من خلالها الرؤى "والافكار بعدّها – اللغة التعبير المباشر للأفكار حسب ستالين ، فعلى الرغم من قصور اللغة لاستيعاب الافكار هنا كما أشار افلاطون أو "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" حسب النفري. فإنها تبقى وسيلة وغاية فهي وسيلة اتصال تحتكم إلى القواعد التطبيقية التي تم الاتفاق عليها وغايتها بعدها أداة جمالية "إنتاج خطاب جمالي يتبدى في شكل من الاشكال والمتعارف عليها شعر – قصة – رواية... الخ".
اذن تبقى تلك الرؤيا عائمة حتى تلبس ثوبها اللغوي لتصل إلى المتلقي . ولا شك بأن الفنون البلاغية "المجاز – الاستعارة – التشبيه" هي الادوات البلاغية التي تنقل اللغة كنظام قواعدي إلى مستوى تعبيري / انشائي ينزاح عن المستوى الاستهلاكي اليومي الذي تكون فيه اللغة خاضعة للمنطق والتي اسماها الشاعر "اللغة العاقلة" وهذا امر ليس بجديد وبديهي فإن عدم توفر خاصية الانزياح في بناء السياقات الشعرية "المتخيلة" يعني بقاء اللغة في مستوى مألوف وإذا ما تجاوزته بفعل الانزياح فإنها ستكون لغة شعرية منتهكة الاعراف السائدة والرؤى المألوفة من خلال تخليق الصور المعبرة عن التجربة الشعرية التي يخوضها الشاعر، ويرى الشاعر ان الخروج من منطقة اللغة العاقلة يكون بتقديم "نص لا يسعى إلى الفهم ولا يضع في حسابه الوصول إلى المعنى".. وإلى ذلك نشير إلى أن اللغة الشعرية كفيلة بتخليق فضاءاتها الدلالية المثبتة للمعنى الذي يتفاعل معه المتلقي للوصول إلى المغزى / فالمعنى يثبته النص والمغزى يتم التوصل إليه تأويلياً .. إذن هنالك قصدية في تفضيل معنى ما عبر اللغة الشعرية المنزاحة عن لغة النثر الاستهلاكية وبهذا الصدد نشير إلى العديد من الحركات الشعرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية دعت إلى اللاعشوائية في اختيار الكلمات المكونة للنصوص، ومرت مرور الكرام وليس بالإمكان عدّها واحدة من حلقات تطور المفاهيم الشعرية أو صيرورتها وانتهت في حينها إذ كانت رد فعل سريع لظرف معين وإذا ما تخلى النص عن المعنى والسعي إلى توصيل تجربة ما فانه يعد هذياناً لا قيمة له ولا اثر والمعروف ان الشعر هو تجربة شعورية تستلزم الغموض دون الابهام الذي يعني في ابسط صوره عدم امكانية النفاذ منه والتفاعل معه ، فالإيهام يجعل النص مغلقاً متحولاً إلى مجموعة من الاحاجي والرموز التي لا يعرفها حتى الشاعر نفسه وهي غير مقصودة وبمعنى آخر يتحول النص إلى هذيان عديم النفع والفائدة ولن يسهم في اغناء تجربة المتلقي وغناه المعرفي والجمالي.
ولعل وجهات النظر هذه التي بثها الشاعر مالك مسلماوي في مقدمة ديوانه تضع المتلقي في منطقة استقبال نصوص "هذيانية ومرتجلة" كما دعاها الشاعر وحين تدخل إلى نصوص المجموعة ستجدها غير ذلك تماماً أي أن هنالك تناقضاً بين ما ذهب إليه الشاعر في مقدمته ونصوصه التي كشفت عن وعي بالكتابة من خلال تراكيب الجمل الشعرية واللغة الشعرية التي مارست انزياحاً مقصوداً يتجاوز "الوضع غير المخطط له" لتستقيم نصوصاً مخططاً لها وخارجة عن دائرة الهذيان ، ولاشك في أن التشظي الحاصل في جسد النصوص لا يمكن عدّه هذياناً انما يعكس التشظي والفوضى في تجربة الشاعر الممتدة على النصوص التي لا يفصلها فاصل ترقيمي أو عناوين اختصت بالنصوص على شكل انفرادي. وإذ جنح الشاعر إلى هذا الاسلوب فانه اراد لنصوصه أن تكون بعنوان واحد "نصوص مرتجلة" أو "هذيانية" تنتقل من جملة إلى جملة دون أن يجمعها جامع الا ان هذا الاسلوب "الشكلي" لم يفلح في تقديم نصوص لا تحيل إلى دلالات أو كتبها الشاعر كما تشاء "النصوص" وانما تدخّل في بنائها وفق لغة شعرية منزاحة تسمح للمتلقي مد جسور معنوية معها ليتوصل إلى نصه الخاص به والمغزى المتولد من المعاني التي ثبتتها النصوص إذن فهو هذيان واعٍ مقصود يخرج عن قصدية الشاعر وادعائه الذي تضمنته مقدمة الديوان فالهذيان لا ينتج معنى وليس هناك تجربة خالية من المعنى/ الا إذا كانت شكلية محضة لا يتجاوز عمرها القراءة الأولى.
وبالإمكان وضع نصوص الديوان كما اراد لها الشاعر ان تكون تحت عنوان واحد "حب، جكاير، علك"، الذي يحيل فضاءه الدلالي إلى ما استقر في الذاكرة الجمعية وهو البائع المتجول الذي يجمع اشياء عديدة في طبق واحدة / اذن هنالك شتات من صور وجمل يجمعها طبق/ نص واحد وهو الهذيان أو الارتجال فالنصوص تحتكم إلى الوجيز في طرح التجربة ليختص كل مقطع في بث معنى من المعاني ولا فاصل بينهما لتوحي إلى التشويق وامتلاكها صفة الهذيان لانعدام الرابط بينها وعدم قدرتها على توصل المعنى الكامل بقصيدة ارادها لها الشاعر ان تكون كذلك، لذلك فإن نزع العنوانات عن تلك النصوص الوجيزة قد جعلها "شكلياً" تبدو وكأنها هذياناً لا رابط بينها، إذ ان كل مقطع أو نص بمضمونه وشكله، ولإحكام الشكلية والدلالية والبنائية على نحو الارتقاء بالنص بمضمونه وشكله ولإحكام رؤية الشاعر هذه كان عليه نزع العنوان الرئيس في بداية المجموعة "جكاير، حب ، علك" لتبدأ النصوص رحلتها الهذيانية فمنذ البدء وحتى النهاية دون أن تسمح للمتلقي بأخذ قسط من التأمل في استيعاب النصوص والتفاعل معها.
لقد تفاوتت نصوص المجموعة في قدرتها على فتح قنوات اتصال وتفاعل مع المتلقي، فبعض النصوص دخل منطقة الابهام المقصود الذي اراد له الشاعر ان يعكس وجهة نظره التي تضمنها "قول" مقدمة الديوان.. ومن الممكن عد النص الأول "المدينة نص" مدخل إلى التجربة الشعرية للمجموعة إذ أن الفضاء الشعري للنصوص يتحرك في أجواء مدينة بغداد بدلالات الامكنة التي حضرت بوصفها مكان الشاعر ولعلها ايام دراسته الجامعية في هذه المجموعة، فـ "باب المعظم، الميدان، شارع الرشيد، حديقة الأمة، الصابونجية، الباب الشرقي، مقهى أم كلثوم ، نصب الجندي المجهول ، شارع النهر ، بغداد، ساحة النصر، وغيرها من الامكنة التي احتوت تجربة الشاعر، ولاشك بأن هيمنة الحضور المكاني قد جعل من النصوص تدور في فلك السرد الذي لم يعط للشعر بوصفه فناً زمانياً فرصة الدخول إلى الوظيفة التعبيرية للنص أي - الشعرية – على الرغم من الحضور الواضح للفنون البلاغية، الاستعارة، المجاز، التشبيه، الذي انقذ النصوص من الوقوع التام في السرد الخالص ، فهي النصوص اتخذت وضع السرد الشعري الذي كرس أهمية الامكنة يعدها مسرحاً أو فضاء لحركة تجربة الشاعر ومثلما انتهى النص الأول "المدينة نص" بتأكيد بقاء المدينة ازاء أسئلة لم تتم الاجابة عنها بعد "في الليل تغرق في الصخب الساكن على سرير من ركام الاسئلة"... فإنَّ النص الأخير في المجموعة يثير أسئلة عديدة ايضاً تبقى بلا أجوبة لتبقى ماثلة ومؤشرة لجوهر تجربة الشاعر "كل شجرة سؤال / كل صورة سؤال / كل حلم سؤال / ذبلت الاشياء وازهرت الاسئلة"، ليبقى السؤال هو المحرك ابدا لصيرورة الشعر.
واجمالاً تشكل هذه المجموعة اضافة نوعية لتجربة الشاعر مالك مسلماوي وازاء قدرة النصوص على تحقيق التواصل إلى المعنى ومنح المتلقي فرصة التفاعل معها بعدّها تجربة فردية اكتسبت وجهة نظر ازاء مدينة كبغداد ويشير كل ذلك إلى حضور الوعي بالكتابة ولا هذيان فيها كما اشار الشاعر في مقدمته للمجموعة. التي لا نرى ضرورة لها إذ ان اتجاه النصوص قد جرى على وفق التقاطع مع وجهة نظره التي تضمنتها المقدمة.