«القرمطي لا يخلع عهده» / جبار الكواز

تحيل نصوص الشاعر ذياب آل غلام في مجموعته الشعرية الجديدة "القرمطي لا يخلع عهده" الى مجموعة دلالات رمزية تستغرق النصوص منطلقة من الذات المتصلة برؤية جمعية هي محور ما يؤمن به منتجها ، ولا شك أن الاستغراق في الهموم الذاتية استغراقاً كلياً يحول الى ضيق في التجربة ما لم تتواصل مع الرؤية المشتركة بين الآخرين مكونة جسراً تواصلياً يقود الى استكشاف الجمال عبر الدهشة العابرة لتوصيفات الراهن أولاً ، ومؤطرة لما يطلبه المستقبل ، وهل الغنائية التي تغلغلت في نصوص المجموعة هي أسمى تجليات ما أوردته أنفاً ، ولهذا فالهم هنا متشظٍ الى هموم تتقاسمها مشاهدات الشاعر وتجاربه مع الآخر ، حبيبة ، أو أسرة ، أو مدينة ، أو حزب ، أو مجموعة خلانٍ أوفياء ، هذه الغنائية المستحبة التي تنطلق من مشاهدات روحية مكتنزة بنبض القلب والاحتفال بالحياة بالرغم من قساوتها أحياناً هي أس نصوص هذه المجموعة.
وتشكل غنائية الذات بواجهة الحبيبة العنصر الأول في النصوص والحبيبة التي تغلغلت في ذاكرته صارت قرية للحياة والموت ، وهي ماثلة اينما حل وأينما رحل ، مشكلة آصرة روحه المعذبة بالذكريات والممتلئة بما فتنته الحبيبة من لحظات سمو ، وعشق وهيام ، وهو إذ يختصر النساء فيها فإنما يريد عمق تجربته بها وحلاوة لحظاته معها واحتواءها كلّ ما تمثله الحياة لديه :
وحدي أذرع صمت الليل
أشم الأرض
وحدي في الطرقات المهجورة
هل أبقت قدمانا شبراً لم تعرفه
فلم شفتاك تغيبان
ويسدل شعرك فوق جبيني..
فهي حاضرة رغم غيابها ، حاضرة في صمت لياليه ، وضجر خطواته ، وحلاوة شفتيها الغائبتين ، وحرير شعرها المسدل فوق جبينه المعروق. وحين يكون وحيداً في غربته يكون ذكرها مفاجأته في ليل دامس ، فيقول:
يفاجئني صوتك
أسمع في الليل صدى صوتك
يدخل أحشائي يرميني بالنظرة والوجد
وبالحرقات المرة
باحثاً يتبعني كالموت
كقطعة سكين في الخصر ...
فهو رغم احتدامه بذكريات صوتها يقرنه بالموت أو بطعنة سكين ايلاماً منه لروحه على ضياعها وامعاناً لتدارك معاني الفقد الذي غمر كيانه بغيابها ، هي إذن الحاضرة والغائبة ، الحياة والموت ، البكاء والحزن ، الجمال والقبح.
معاً هذه المتوالية تبقى جذراً لكل نصوص ذياب وهو يتصدى لبناء هيكل نصوصه عبر ذاكرته المثقوبة ، يقول الشاعر:
أتيه في غياهب عينيك
يا امرأةمن ملح وعسل
يطاردني النسغ الصاعد
لجذوة الروح
أنا المختبئ في عينيك
مثل أغنية..
وهكذا تتفتح أزاهير رؤاه نحو جمال مفقود ومفتقد ما زال طرفه المعذب يبحث عن مفتاح يوصله الى بستان هيامه لينتهل من جمال روحها وغشاوة لقائها ويكون الآخرون :"الحزب – الأصدقاء – الأسرة" طرفاً أساسياً في نصوص المجموعة ، وهو أن استغرق في حالاته الوجودية المطلقة ملتصقاً بقرين جمالي عبر العشق فإنه يعبر هذا العشق الى عشق آخريحمل هموم الجماعة فيستدرك نصوصه بغناء صادح بحبهم وبمواقفهم لنتذكر معاً قصيدته في الشهيد كامل شياع ، وشهداء الحزب الشيوعي العراقي ، أو الى صديقه عباس سميسم ، أو إبراهيم الخفاجي ، أو الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم.
ففي نصه عن الشهيد كامل شياع القائد الشيوعي والمثقف العضوي ، يقول :
أيها المسار في الآفاق
ضيم العيون
وسن الظنون
مطر من سجيل
في غروب المشتاق
هذا العراق..
أسيدة الحانة
هل مربك العاشق كامل شياع؟
ويشكل المكان في تداخله ، والزمان في نافذة احد أهم علامات هذه النصوص من خلال الاسترجاع التقابلي أو المتضاد ، ففي النصوص سياحة مكانية بين النجف وبابل، عمان وملبورن، وزمانية بين ماضٍ آفل، ومؤلم، وحاضر يسعى ال بناء جديد ومستقبل جاهز للحضور عبر الاصرار، وتشكل كلمة "روضة" بوصفها علماً للحبيب اشعاعاً مكانياً وزمانياً في النصوص ، فهي بؤرة مشعة يحاول الشاعر بها ومن خلالها استقراء معالم حياته مكانياً وزمانياً ،فتغدو آصرة حياته بكل تفاصيلها لعل فيها ما يقوده الى بناء نظرة جمالية من الدهشة والخلود والحب المفقود.
وفي استثمار الشاعر مقطوعات من الشعر الشعبي العراقي خلال بعض النصوص ما مكنه من كسر طبيعة التوقع الذهني والجمود الايقاعي في محاولة منه لتهشيم مشكلة المتن والهامش وتداخل الأجناس الابداعية من خلال ادراكي طبيعة الشعر الشعبي في استقراء مفاهيم ما يرى من أفكار يؤجلها النص العربي أحياناً بسبب من خصوصية معروفة فيه.
وخلاصة القول فإننا بإزاء مجموعة تستحق القراءة والاهتمام والاحتفال لأنها تنطلق من تجارب حقيقية ملأها الشاعر جمالاً ودهشة.