- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 27 أيلول/سبتمبر 2016 20:31

يكل اللسان عن الكلام، والأقلام تتعذّرُ عليها الكتابة؛ حين يكون الموضوع شائكاً غير واضح المعالم، أو تكون الأفكار كثيرة؛ منثالة انثيال الموج على شاطئ البحر الهائج؛ في يوم عاصف.
كان هذا القلم المتواضع؛ راغبا في أن يعبر عما يجيش في قلبه الربيعي النفس؛ عبر الذكريات المرئية، لِباقة زهر عبقة ممن ليس لأحد من المثقفين المعاصرين أن يقول :- أن أحدهم لم يسهم في بناء أمتنا العربية الحديثة؛ إسهاماً واضحاً" سلبياً كان هذا الإسهام أم إيجابياً" فتلك الباقة العطرية العبقة التي قلما يتفق اثنان من مثقفي العرب المحدثين؛ على عظمتهم جميعا.
وعدم الاتفاق هذا؛ لا يمنع من أنهم أسسوا مدارس ثقافتنا الحديثة؛ مطورين بشكل أو بآخر مضامين ثقافتنا القديمة التي تشكل جزءاً مهما من خيوط نسيجنا الثقافي الحديث، فنحن من تلامذة بعضهم، شئنا أم أبينا\ بل إن بعض أساتذتنا وبعضا من أساتذتهم من تلامذتهم أحيانا.
وفي ذلك الفخر كل الفخر, ففي عام تسعة وثمانين وثمان مائة وألف ؛ نبتت عشر زهرات عاطرة؛ في أرض الكتابة العربية؛ ما لبثت أن صارت أشجاراً فغابات.
من هذه الغابات العامرة، والبساتين الثقافية الزاهرة؛ كل من المرحومين طه حسين، علي عبد الرازق، عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي وغيرهم ممن أحسن المثقفون المصريون إذ احتفلوا بهم في ذكريات ميلادهم المئوية، بأن أقاموا المؤتمرات، وعقدوا الندوات، وأعدوا البحوث والمؤلفات، فنشروها. كما نشروا المقالات، ورصدوا الجوائز؛ تشجيعاً للمهتمين بهؤلاء النفر الذين يحق الاهتمام بهم تحفيزا لغيرهم على التقدم في هذا الطريق الشائق الجميل , مع أنه شائك متعب.
وكان حرياً بالمثقفين العرب أن يحذوا حذو المثقفين المصريين، فيحتفلوا بهؤلاء، وبأشباههم من الأفذاذ في كل بلد عربي؛ تذكيراً بهم، واعترافاً بفضلهم دون ما تفضل عليهم، فالاعتراف بفضل أهل الفضل؛ من حسن الأدب، ولا يكون إلا من أهل الفضل، فكيف يتوقع إنسان أن يعترف الناس بفضله، وقد تشامخ حتى ظن أن لا فضل لأحد عليه؟!
هذه الخواطر انثالت من قلب حامل هذا القلم؛ حبا على القرطاس حين تذكر ذكرى رحيل المرحومة سوزان طه حسين؛ زوج الراحل العظيم؛ عميد الأدب العربي طه حسين الكفيف الذي كشف عن مستقبل الثقافة العربية الحديثة؛ ممهدا له في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، ذلك الكتاب الذي يوشك أن يكون مفتاح معرفة خطى الثقافة العربية التي نعيشها، كما فتح الأبواب العملية لتطبيقها حيث تقلب في الأعمال الإدارية بين عميد لكلية، أو رئيس لجامعة، أو وزير للمعارف، أو مستشار لهذه الصفحة الثقافية أو تلك، أو رئيس لمجمع اللغة العربية في القاهرة، ورئيس للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية؛ ناهيك عن كونه محرراً ثقافياً في بعض الصحف، أو رئيساً لتحريرها، أو تحرير صحف أخرى.
وقع حادث وفاة السيدة سوزان طه حسين الجلل؛ في أيلول من عام تسعة وثمانين وتسعمائة وألف قبل الذكرى السادسة عشرة لوفاة طه حسين نفسه بشهر وبضعة أيام, وفي العام المئوي لميلاده.
سوزان طه حسين؛ تركت الأهل والوطن المتحضِّر، لترافق رجلاً أجنبياً أعمى جاء من بلد بعيد؛ مغرق في الجهالة، لكن ابنه الأعمى؛ جاء متعلما، لتعيش معه بقية مغامرات حياته الطويلة؛ الكثيرة؛ العنيفة؛ العنيدة، لتقبل، معه حلو الحياة ومرها؛ ثراءها وفقرها؛ العمل والعطالة؛ الاحترام والشتم؛ كل ما يحتمل، وما لا يحتمل.
ولدت له ولداً وبنتاً, وعلى يدها، أو بالقرب منها، ولد أهم وأعظم إنجازاته العلمية والعملية التي لا مجال لذكرها هنا, لكن المهم هو أنها حرصت على أن يكون مصباحه ممتلئاً بالزيت، ما دام حياً، ليُنير أرض العرب، فتستنير به مع مَن يستنير، ولتسجل ذلك في كتابها المهم "معك" الذي صدر بالفرنسية في ذكرى وفاته الخامسة، ليترجم إلى العربية بعد ذلك.
إنه كتاب يستحق أن تقرأه كل فتاة، بدل قراءة كتب الأبراج، حتى تعرف كيف تختار حبيب القلب، فتدفعه وتندفع به إلى الأمام, لتعلم أنه "لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
إنه كتاب يجدر بكل إعلامية عربية أن تقرأه، لتبرز مفاخر النساء الحقيقية، ثم تبرز بهن، فمَن منا يعرف شيئاً عن زوج المرحوم العراقي الدكتور محمد مهدي البصير، وأسرته؟
لقد كانت زوجته معه لا تقل خطراً عن سوزان طه حسين، فقد قرأتْ له بالفرنسية الكثير، وأنجبت له مَن قرأتْ له معها، أو بعدها.
إنها ابنتهما "مي".
كانت مدام "البصير"؛ تحتفل بمحبيه وزواره، وقد قدمت لكاتب هذه السطور القهوة بيديها الكريمة، وصاحب هذه السطور؛ يتعثر في طريق النشر , قال وهو يقدمه لها لأول مرة : "أقدم لك أديبا عراقيا"، فكأنه توقع ما يكون.
مثل هاتين السيدتين، في الفضل، سيدات أجنبيات وعربيات وعراقيات أخريات من أمثال أزواج الدكاترة محي الدين توفيق؛ عبد الرحمن شهاب؛ كامل البصير وسواهن من النسوة العاليات الهمة اللائي جلسنَ في الظل، فلسْنَ في حاجة إلى التعريف بهن, لكن الأمة في حاجة ماسة؛ إلى إبراز عظمائها وعظيماتها كي يكونوا ويكُنَّ قدوة للناس، فهناك الكثير من الفتيات اللواتي يتحرجن من الاقتران بكفيف؛ مع أن المكفوفين ناس من الناس؛ فيهم الصالح، وفيهم الطالح، والتحرز ينبغي أن يتجه إلى الجميع.
مثل هذا يقال للأهالي وعنهم، وهو ما لا يفعله غير إعلام واعٍ, نبيل ونبيه في الاستراتيجية العامة للأمة فالدولة، مثلاً تحث على الإنجاب الصالح، ولا يكون الإنجاب صالحاً إلا بتكوين أسر صالحة، وكم عنست فتاة لم يتقدم لخطبتها سوى كفيف كان نصيبها، فرفضته، أو عارض أهلها، فلم يطرق بابها سواه، أو طرقه مَن دونه في أشياء، فقبلت به بعد الحرمان، على مضض، وأصلت حرمانها من حق طبيعي لها في الحياة.