دمة الاحتلال في الرواية العراقية الحديثة "الحفيدة الامريكية" أنموذجا / داود سلمان الشويلي

الاحتلال – اي احتلال، عمل عدواني، وغير اخلاقي، وغير انساني بصورة عامة، يدفع بالفرد والمجتمع الى ان يقول كلمته فيه، فأما ان يكون معه، او ضده، وحتما فإن الافراد، والمجتمع كذلك، السويون يقفون ضده، لأنه - كما قلت - غير اخلاقي وغير انساني، والمجتمع السوي يقف مع الامر الاخلاقي والانساني دائماً وأبداً.
لنتساءل: ما هو موقف "الشخص" الذي ينتمي الى هذا المجتمع "السوي" الا انه غادره في وقت من الاوقات ليعيش في كنف مجتمع قامت قواته باحتلال بلده ؟
عندما يحتل البلد يقف ذاك المجتمع في مفترق طرق، اما ان يكون مع الاحتلال وعند ذاك يكون قد خان الوطن، او ان يكون ضده، عندها يكون موقفه وطنيا متساوقا مع الطبيعة البشرية السوية مهما كان موقفه من الحكومة في ذاك الوقت "وهو موقف في عرف العالم اجمع".
ان الوطنيين هم الاكثرية الساحقة من المجتمع الذي احتل بلده محاولا ان يغير من قيمه واخلاقه، اما الذين هم مع الاحتلال والذين يمكن ان نطلق عليهم كلمة " خونة " فهم اقلية، بل اقلية قليلة من المنتفعين منه، لهذا لا يحسب لهم حسابا عند الوطنين، الا اذا كان صوتهم عال في زمن الاحتلال لانهم يستمدون قوتهم من هذا الاحتلال، فتكون محاربتهم بشتى الطرق، والحذر منهم، واجباً وطنياً كذلك كالوقوف ضد الاحتلال.
في رواية الكاتبة العراقية انعام كجه جي "الحفيدة الامريكية" نطلع على حالة تقع ضمن الوصف الذي قدمناه، وايضا تقف خارجه، فهي حالة خيانة للوطن من شخص عراقي غادر وطنه قبل خمسة عشر سنة، وفي الوقت نفسه هي حالة العودة إلى الوطنية قبل ان يفوت الاوان، وبين هذا وذاك يقف وصول تلك الشخصية الى ارض الوطن هي الفيصل بين الاثنين.
تدور احداث الرواية عن شخصية "زينة" الفتاة المسيحية التي هربت مع والدها المذيع الى امريكا وحصلت على الجنسية الامريكية، ابنة الأسرة العراقية المهاجرة التي تفككت في هجرتها، وأدمن الابن "يزن" على تعاطي المخدرات، وعاش الاب والام في مدن مختلفة، فامتلكت هي زمام إرادتها.
وفي الوقت نفسه فهي تقوم بمقام الراوي للأحداث بصيغة الراوي العليم، وهذا مما ساعد على توصيل المعلومات عنها وعما تراه للمتلقي، فقد كانت هي التي تنقل إلى المتلقي كل ما كانت تحس وتشعر به من هواجس وهموم، وما تذكره من ذكرياتها في امريكا، وما تراه في العراق زمن الاحتلال، وقناعاتها الفكرية او النفسية عن كل هذا.
عندما احتل العراق تطوعت "زينة" في الجيش الامريكي للعمل في العراق، فها هي تقول بكل فرح وسرور :"ملأني الفخر بعد أن أعطوني البدلة المرقطة وتأكدت من أنني ذاهبة الى المهمة التي ستجعلني أستحق المواطنة الامريكية، أنها فرصتي لرد الجميل للبلد الذي احتضنني منذ أول الصبا وفتح لي ولأسرتي صدره".
كانت مزهوة بالبدلة العسكرية الامريكية، وكذلك بذهابها في مهمة خاصة بأمريكا الى بلدها الام، لأنها وجدت في ذلك فرصتها لترد الجميل كمواطنة امريكية إلى امريكا، فهل حققت ذلك المطلب بعد وصولها إلى العراق؟
ومن لحظة وصولها إلى العراق ومشاهدة الفعل الامريكي الاحتلالي فيه تغير كل شيء في نفسية وفكر " زينة " بعد ان كانت تعد امريكا وطنها وعليها ان تخدمه، "إنها فرصتي لرد الجميل للبلد الذي احتضنني منذ أول الصبا وفتح لي ولأسرتي صدره".
في الرواية تقف "زينة" في مفترق طرق، بين موقفها الفكري عن امريكا كوطن لها يجب عليها ان ترد جميله، وبين موقف الجدة التي بقيت في العراق، وهو موقف وطني لمن عاشوا في العراق ولهم تاريخهم الممتد عبر الزمن، وشربوا من مائه واكلوا من خيراته، وكان زوجها ضابطا في الجيش العراقي وما زالت بدلته تتوهج وطنية، وكذلك ما تراه من فعل الاحتلال.
ان ما شاهدته من فعل الاحتلال في العراق، وكذلك ما سمعته من جدتها عن حبها العراق، وكيف انها تحتفظ بالبدلة العسكرية لزوجها المتوفي، كل ذلك اعاد إلى فكرها الذي كانت تصفه بالنزق : " كيف تمكن هذا الإحساس المخاتل أن يصقلني ويشذب نزقي الذي كان طبعا ً فيّ ؟ "، التوازن الفعلي لاتخاذ موقف سوي بالضد من موقف الاحتلال.
ان الشخصية الرئيسة في الرواية "زينة" تقف بعد تطوعها في الجيش الامريكي، ووصولها الى العراق ورؤيتها ما يفعله الاحتلال، في مفترق طرق، اما ان تكون مع والديها تائهة لا هوية وطنية لها، فها هي بعد ان رأت امها عند عودتها من العراق، تقول عنها زينة :"أقر بأنني عدت مقهورة، محملة بحصى الشجن وبحبتين من النومي الحلو، اشتهيتهما لأمي التي يبدو أنها اكتفت بنعمة الخذلان قبلي، وبالتحديد منذ ذلك اليوم الذي سيقت فيه إلى الاحتفال الكبير في ديترويت ـ لكي تؤدي قسم الولاء لأميركا وتنال بركة جنسيتها. دمعت عيناها وأنا أمد يدي اليها بالثمرتين الصفراوين اللتين قطفتهما من حديقة البيت الكبير الذي أمضت شبابها فيه. أخذت النوميتين بكلتا يديها وتنشقتهما بعمق وكأنها تشم مسبحة أبيها وحليب أمها وعمرها الماضي"، او ان تقف مع جدتها بهوية وطنية معروفة سلفاً، ومع بلدها الام؟
في هذا المجال تطرح رواية " الحفيدة الامريكية " اشكالية الهوية، فكيف ننظر الى "زينة" قبل وبعد المجيء الى العراق؟ هل ننظر اليها على انها فتاة هرب بها وبعائلتها والدها الى امريكا وترعرعت هناك على قيم واخلاق غير التي عند العراقيين؟ ام ننظر اليها وهي تتخذ موقفا غير الموقف التي جاءت به من امريكا مع الجيش الامريكي؟
لقد تساءلت مرة :"هل أنا منافقة، أمريكية بوجهين؟ أم عراقية في سبات مؤجل مثل الجواسيس النائمين المزروعين في أرض العدو منذ سنوات".
انه تساؤل حرك في نفسها وفكرها كذلك ما كانت تعتقد به قبل مجيئها الى العراق، ودق ناقوس الخطر عندها.
في هذه الاشكالية، اي اشكالية الهوية، نصطدم بزينة الفتاة العراقية التي عاشت اكثر من خمسة عشر سنة في امريكا، واكتسبت عادات الامريكان وتقاليدهم وثقافتهم، وعندما تأتي ضمن الجيش الامريكي بعد الاحتلال الى العراق تصطدم بذكريات جدتها الوطنية زوجة الضابط السابق في الجيش العراقي، وبأخيها في الرضاعة الشيعي المنتمي الى جيش المهدي المقاوم، وبالواقع العراقي بعد الاحتلال الذي يقول اقل مما يسكت عنه.
هذه العوالم الثلاثة التي اصطدمت بها هي التي تعيد إلى زينة هويتها العراقية بعد ان كادت ان تسحقها الحضارة الامريكية بمخالبها الحديدية.
قالت زينة بعد ان رأت فعل الاحتلال :"حتى ضحكتي تغيرت، لم أعد أقهقه من قلبي كالسابق"، و"منذ أن عدت من بغداد خرقة معصورة من خرق مسح البلاد"
فبينما كانت تقول في بدء التحاقها بالجيش الأميركي :"كنت أقول إنني ذاهبة في مهمة وطنية. جندية أقدم خدمة لمساعدة حكومتي وجيشي وشعبي"، عادت الى امريكا وهي تردد قول والدها :"شلّـّت يميني إذا نسيتك يا بغــداد".
هذا التغير الذي حصل في تفكير "زينه" وقبله في وجدانها وضميرها العراقي بلا امريكا وثقافتها، قد حصل بفعل الجدة، وبفضل أخيها في الرضاعة المقاوم، و فضل الواقع المرئي لفعل الاحتلال، ولولا هذه الاركان الثلاثة المؤثرة في فكر وضمير واخلاق "زينة" لما رأينا " زينة " جديدة في امريكا بعد عودتها وعدم تجديد تطوعها في الجيش الامريكي الغازي، انها وقفت مع "أناس يديرون الوجوه ويبصقون ويحذرون من خيانة الأرض التي شربنا من دجلتها وفراتها"، لا مع "أناس يشجعون ويصفقون ويزينون التجربة" تجربة الاحتلال المريرة والقاسية واللاوطنية ايضا .
ان "الحفيدة الامريكية " قد وضعت اللبنات الاولى في موقف " ضد الاحتلال " بعد ان تتبعت مصير المتطوعة العراقية / الامريكية في الجيش الامريكي، فكانت رواية هجاء للغزو، كما انها رواية مدح للموقف العراقي الصامد الذي مثلته الجدة، والعراقيين المقاومين.
صحيح اني لم اكن فيما كتبت ناقدا لفنية النص الروائي وتركيبه الداخلي، او ان اقوم بدور المقيّم والمقوّم، الا اني افهم النقد على انه دراسة النص لإضاءته من كل جوانبه، لهذا قدمت دراسة لموقف البطلة " زينه " من الاحتلال، الموقف الانساني، والاخلاقي، والتاريخي، والعائلي، دون ان اتحدث عن جوانب السرد ومقوماته، والشخوص، والوصف. .. الخ، فانا اترك هذه الجوانب لناقد غيري هو مسؤول عن تقييم وتقويم العمل.
ولما كنت في ما كتبت من سطور سابقة اقرب الى ما يسمى بالنقد الثقافي، فلا بأس ان اتكلم عن عتبتين احدهما نصية والاخرى تشكيلية ذكرت في الرواية، وهما الحديث النبوي الذي اوردته كجه جي في مقدمة روايتها اذ ذكرته :"إياكم وخضراء الدمن" فهل كان هذا الحديث يرمز الى ما في المنطقة الخضراء من تجمع يضم رموز الاحتلال واذنابهم الذي قال عنهم بريمر في كتابه "عام قضيته في العراق" ما معناه : ان امريكا جاءت بسياسيي الاحتلال من العراقيين من شوارع وازقة اوروبا، فراحت كجه جي تحذرنا منهم؟
ان المتلقي لا يخرج بشيء الا بهذه النتيجة التي تؤكد ان الاحتلال ما زال في العراق ان كان بقوات عسكرية، او بعملاء له من العراقيين .
كأنها تحذر من "المنطقة الخضراء" في بغداد التي تضم السفارة الامريكية، وينظر إليها العراقيون باعتبارها رمزا لنكبتهم المعاصرة.
والعتبة النصية الثانية هي " تشكيلية "، وهي اختيار ناجح لجزء من لوحة " شاي العصر بعد الحمام " للفنان فيصل لعيبي، حيث رمزت الى المنطقة الخضراء التي حذرت منها في الحديث النبوي بخلفية اللوحة الخضراء، وثانيا مثلت هذه اللوحة التشكيلية على انها جلسة سمر تأتي بعد الخروج من الحمام الذي غسلت فيه "زينه" ادرانها من الاحتلال واذنابه من العراقيين.
لقد تحولت " زينه " من مواطنة عراقية – امريكية بلا هوية انتماء وطني الى " زينه " عراقية الهوية تتفاعل مع ابناء مجتمعها العراقي، وتشعر بمشاكلهم وقضاياهم، فتصل الى نتيجة نهائية وهي عدم تجديد عقدها مع الجيش الامريكي الغازي بعد ان رأت افعالهم مع المجتمع العراقي الذي قسموه الى ملل واديان وقوميات، اقلية واكثرية، انهم جعلوه عبارة عن مكونات وليس مجتمعا واحدا.
هذه الرواية هي الثانية التي يلتقي القارئ ببطلة ذات جذور مسيحية بعد رواية "ليل علي بابا الحزين" للروائي عبد الخالق الركابي والتي تغادر الى امريكا، ونحن نتساءل: هل ان المسلمين وتابعي باقي الديانات بمنأى عما قامت به هاتان الشخصيتان بمغادرة العراق الى امريكا، او ان امريكا خالية من العراقيين المسلمين، وخاصة بعد عام 2003، عام الاحتلال؟ اترك الاجابة عن هذا التساؤل في هذه السطور الى الروائيين انفسهم.