وليمة شيوعية* / حمدي العطار

(1)كانت هي فكرة صديقي "وليد زغير" الذي مضى على تعارفنا 35 سنة حينما كنا معتقلين في سجن رقم واحد ولم نكن نعلم لماذا أطلق عليه سجن رقم واحد الرهيب فهل هو الاول في الرعب والتعذيب ام لأن النظام السابق كان لديه سجون بالارقام الاخرى رقم اثنين او ثلاثة؟ وهذا ليس غريبا فقد كانت السجون منتشرة في كافة انحاء العراق، والانظمة الدكتاتورية بارعة في تحويل القصور الى معتقلات (قصر الزهور الى قصر النهاية) وحتى المدارس وملاعب كرة القدم يمكن ان تتحول الى معتقلات خاصة في الانقلابات العسكرية (ملعب الادارة المحلية في المنصور تحول الى معتقل عام 1963 وتحويل ملعب سنتياغو في شيلي الى معتقل عند الانقلاب العسكري على سلفادور الليندي) الفكرة التي طرحها (وليد زغير) لا تخلو من الدراما السينمائية حينما كانت تعالج قصة لقاء مجموعة من الاشخاص كانوا يشتركون في صحبة زمالة دراسية او صداقة طفولية يحددون يوما في السنة لتجديد لقائهم وأطفاء نار الشوق في قلوبهم وتبادل الاخبار والافكار والذكريات،
قال لي وليد "نحن المجموعة التي اعتقلت بتهمة تنظيم شيوعي في الجيش وزج بنا في المعتقل لمدة 400 يوم سنة 1981 يمكن ان نلتقي ونعيد الذكريات ورؤية بعضنا البعض بعد فراق اكثر من 34 سنة ! أثنيت على الفكرة وعلى التوقيت الذي اختاره فقد كان من المقرر ان نلتقي في عطلة نيروز لكن احد رفاقنا المعتقلين كان يريد الاحتفال بهذا اليوم مع اهله الكرد وتغير الموعد الى يوم 29 آذار ،وفي آذار هناك اكثر من مناسبة فهناك عيد المرآة العالمي 8 آذار وعيد الام 21 آذار وعيد نيروز 21 آذار ويتوج هذا الشهر بعيد تأسيس الحزب الشيوعي العراقي31 آذار، لم نكن نعلم انا وصديقي بأن الحزب الشيوعي قد حدد أيضا يوم 29 آذار موعدا للاحتفال بالذكرى الثمانين على تاسيسه! ولو كنا نعلم مسبقا لما أخترنا غير هذا اليوم موعدا لهذا اللقاء الدراماتيكي، نسيت ان اقول لكم بان رفاقنا المعتقلين بتهمة التنظيم الشيوعي متوزعون على مختلف محافظات العراق (الناصرية،كربلاء،البصرة، بعقوبة، الديوانية، وبغداد) وبرغم انهم مشتركون بالانتماء الحزبي سابقا الى الشيوعية الا ان هوياتهم القومية والدينية والمذهبية متوزعة على كل المكونات (عربية وكردية وتركمانية،مسيحية ومسلمة، شيعية وسنية).
تم الاتصال بالمجموعة بعد تحديد الزمان وبقي المكان ،أستقر الرأي أن يكون فضاء اللقاء بالضد من اجواء السجون الضيقة التي تمنع عنا الهواء والشمس واجمل المناظر السماء الصافية والماء ،ولا يوجد افضل من اللقاء على ضفاف نهر دجلة على ابي نواس (مطعم الجادرية العائم) ، توافد المدعوون مثل قطرات المطر وصل اولا "كامل مجيد" من بعقوبة ،ثم جماعة كربلاء (الحسينية) فيصل ،صالح ذياب ، غالب مهدي وتخلف حسين عبد علي وحامد وياسين تخلف مجبرا لوفاته بعد رحلة الملاحقة والمضايقات ! ومن ثم جماعة الناصرية جمال وصديقه خفيف الظل حميدحران - وتخلف عن الحضور رعد رديف ومهدي شاكر وبعدهم وصل "عامر عليوي" من الديوانية وتعذر حضور مجموعة البصرة محمود عيدان ،ضياء صمد وادي ،فريد سليمان - وبالتأكيد لم يحضر ابو ندى لأستشهاده في المعتقل !وتواجدت مجموعة (بغداد) - حمدي، وليد، رعد،محمد ،عارف، مجبل، احمد -كان من المفروض ان يكون اللقاء المرتقب الساعة الواحدة ظهرا بينما الحضور للبعض كان العاشرة صباحا ! كان لقاؤنا بعد فراق 34 سنة يعطينا شحنة عاطفية تهز كل كياننا وانت ترى اشخاصا كانوا يشاركونك المصير الخطير وتجعلك تسترجع كل الذكريات المؤلم منها والجميل ، لا يعتقد البعض ان المعتقل بالنسبة للشيوعي هو مثل السجن بالنسبة لأي مجرم لأن الاعتقال السياسي يوفر فرصة للتأمل ومراجعة النفس وأختبار القدرة على التحمل والاستعداد للتضحية وطالما حول الشيوعيون المعتقلات والسجون الى مدارس ومسارح وحلقات وندوات فكرية وادبية كما يقول الشاعر موفق محمد"لا ضير - فليبنوا السجون- وليحشرونا في قطار الموت - في نكرة السلمان-في الغرف الظلمية والوارس - سنحول - السجان - والجلاد - والسجن الرهيب الى مدارس " وكما حدث مع صحراء (نقرة السلمان) والتي سوف تتحول الى متحف عن قريب لأن الشيوعيين سطروا فيها الملاحم البطولية والانجازات الادبية من شعر وقصة ورواية وثقافة وتعليم! بعد اللقاء الصباحي الذي تخلله تبادل السؤال هل تستطيع ان تحزر من انا ؟ احيانا تتذكر ملاحم الوجوه رغم ما اصابها من تغييرات (تركتها عجلة الزمن) ويغيب عنك الاسم ! اقترحنا ان يذهب بعضنا الى حيث احتفال الحزب الشيوعي حتى يحين موعد (الوليمة الشيوعية)

(2)

عمر الانسان لايقاس بعدد السنين التي يقضيها في الحياة بل يكون المعيار ما يقدمه للمجتمع عامة ولنفسه ككيان اجتماعي له متطلبات العيش الكريم والكرامة وشيئا من السعادة المقبولة،اما اعمار الاحزاب السياسية فأننا لا يمكن نكران أهمية وجودها في الساحة السياسية معتمدين على ذكرى تأسيسها وصلابة مواقفها وصحة طروحاتها وما قدمته للمشهد السياسي من انجازات في مجال السياسة اولا ومن ثم الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية.
أحتفل "الحزب الشيوعي العراقي" في الذكرى "الثمانين" لتأسيسه في أجواء الحماس العاطفي وأثبات الوجود ورفض ملامح الشيخوخة والاصرار على التجديد والامل في التغيير والاصلاح ( بحكمة الأعوام وعنفوان الشباب ) كان يؤطر هذا الاحتفال - بالحضور الكثيف لجماهير الحزب - الذي اقيم في قاعة سينما سميراميس وحضر التاريخ السياسي العراقي كله في هذه الاحتفالية التي أثبتت للجميع بأن هذا الحزب لا يمكن أن يفقد شعبيته مع مرور الزمن ولا تتقادم أهدافه في ترسيخ الديمقراطية والبحث عن المدنية لبناء (وطن حر وشعب سعيد).
في كل سنة بتاريخ 31/آذار يحتفل الشيوعيون وأصدقاؤهم بمناسبة تأسيس حزبهم ،يستذكرون الرعيل الاول الذي وضع الاساس الصحيح للتنظيم الحزبي في (مقارعة الاستعمار والرجعية) والوقوف ضد المعاهدات والاتفاقيات التي تفقد العراق سيادته ،يتذكرون قيادتهم خاصة (فهد وسلام عادل ورفاقهم) اللذين كانوا مثالا للتضحية والثبات على المبدأ كما يتذكرون كل رفاقهم الذين أستشهدوا منذ تأسيس الحزب سنة 1934 حتى سنة الاحتفال 2014 ومن هنا جاء تكريم الحزب لكوكبة من مناضليه (عبد الرزاق الصافي ،مفيد الجزائري، الفريد سمعان،فتاح حمدون،سافرة جميل حافظ،حكمت محمد،بثينة شريف،عريان السيد خلف،ناظم السماوي،ام نضال،نوح الربيعي،قحطان المعروف) كان سكرتير اللجنة المركزية "حميد مجيد موسى" يقبل بأمتنان رفاقه ورفيقاته المكرمين والمكرمات عرفانا بما قدموه من تضحيات وصبر وقوة تحمل في مسيرة الحزب الصعبة،ثمانون سنة لم ير الحزب فيها اي فسحة من الراحة والرفاهية ،توجد فواصل تاريخية تمتع فيها الحزب بحرية العمل العلني وحتى في هذه الفترات لم يسلم من المؤامرات وملاحقة اعضائه وتصفيتهم أو تهجيرهم وزجهم في المعتقلات والسجون.
لا ادري لماذا تذكرت قصيدة الشاعر المبدع (مظفر النواب) عمر وتعدى التلاثين لا يا فلان- التي عدت قصيدة عتاب من الشاعر الى الحزب الشيوعي سنة 1974 والتي اصبحت اغنية للمطرب (ياس خضر) كان عتابه بأن العمر يمضي بك يا حزبنا ولم تحقق أهدافك وتستلم الحكم! كنت دائما اعتقد بأن الحزب الشيوعي العراقي لا يريد ان يستلم السلطة ! هو يريد ان يشارك في الحكم ولكنه لم يسع الى الانقلابات العسكرية او حتى التفكير بقيادة حركة ثورية يكون شعارها (اسقاط النظام وتسلم الحكم)،حضرنا جزءا من الاحتفال الذي تلمسنا منه قوة وشعبية الحزب الشيوعي في المجتمع العراقي رغم انعدام تأثيره السياسي من حيث المشاركة في البرلمان والحكومة ،ألا انه يمثل فاكهة ونكهة السياسة في العراق وسيستمر هذا الاريج مهما تقدم فيه الزمن، عبارات عريف الحفل (ابراهيم الخياط )وكلمة مفيد الجزائري، وقصيدتا عريان السيد خلف والشاعر موفق محمد ) الهبت الحماس في المحتفلين وتصاعدت الاهازيج بينما كانت شابة تسير بين زحام الحضور و تلف نفسها بالعباءة العراقية وتحمل صينية فيها 80 شمعة مضاءة بعمر الحزب الشيوعي وأمرأة أخرى تزغرد (وطش وهلية جكليت على الحاضرين )خلقتا جوا من الثقة بأن الحزب الشيوعي (يكبر لكن لا يشيخ) خرجنا من الاحتفال قبل نهايته لأن الساعة قاربت من الواحدة ظهرا ،كانت كلمات الحزب ترن في قلوبنا "النصر حليف شعبنا وقواه الديمقراطية في بناء العراق المدني الديمقراطي المزدهر" من اين يأتي الشيوعيون بكل هذه الثقة والامل ؟ وصدق الشاعر "موفق محمد" وهو يتساءل في قصيدته "فمن أي طين قد صبرك" مع هذا لقد أزدادت الشهية للذهاب الى رفاق المعتقل للقائهم والتقاط الصور التذكارية ونتعاطى (الوليمة الشيوعية)

(3)

الحميمية والوعي والثقافة والبساطة والحب والمشاركة الوجدانية والضمير الحي ومساعدة الاخرين والتميز والابداع والشعور الانساني لا بد ان تكتسب جزءا منها في حالة ايمانك بالشيوعية ،قد يتخلى عنها من يكابر ويترك الشيوعية كتنظيم ويتحامل عليها باللوم والنقد الجارح وجلد الذات ليبثت للاخرين بأنه قد هجرها نهائيا !لكن الاكثرية تبقى الافكار عالقة في دواخلهم من صفاء السريرة والقدرة على استيعاب الاخر مهما كانت هويته القومية او الدينية او المذهبية ايا كان انحداره الطبقي غنيا او فقيرا،حضريا او ريفيا، موظفا او فلاحا او عاملا او كاسبا، يستطيع (الشيوعي) ان يتعايش مع الجميع لأنه لا يفتش عن الاختلافات بل عن المشتركات الانسانية ، عقله وقلبه اممي لا يؤمن بضيق الافق بل يتسع لكل الامم!
من شارع السعدون حيث الاحتفال الجماهيري لعيد الحزب الشيوعي الثمانين الى شارع ابو نؤاس الى (الوليمة الشيوعية) واللقاء برفاق المعتقل بعد فراق 34 سنة، كان الجميع يطيل النظر في عيون البعض وبالتأكيد كما انا هم ايضا يتذكرون فترة الاعتقال وما بقي عالقا في الذاكرة منها، كان كل واحد يتذكر حادثة او كلمة يذكر بها الاخرين ، كان "رعد حنا" حتى لم يكن شيوعيا بل هو مهووس بشتم وسب (صدام) وقد نصب له (مازن) هذا هو اسم الواشي او المخبر السري في الجيش انذاك وسجل له شريطا وكان معتقلا لهذا السبب وقد كانت حصته من التعذيب اكثر من الجميع! كان يعتقد انه أذا قال للحراس او المسؤولين بأنه ليس شيوعيا سوف يسهلون عليه الامر، ولكنهم يسألونه (لعد ليش جايبيك هنا) يجيبهم المسكين (ما سويت شيء بس سبيت السيد الرئيس) يجن جنونهم ويضربونه اكثر! "رعد" كان يملك صوتا حنونا في الغناء وقد خفف عنّا وطأة السجن فهو متخصص بأغاني (عبد الحليم حافظ) وخاصة وهو يذوب عذوبة في أداء أغنية (ظلموه)! في العنبر او القاووش كان هناك اخرون ليس لهم علاقة بالحزب الشيوعي لكن اقدارهم جعلتهم معنا (مجبل او الطفل المعجزة) كما اطلق عليه - كامل مجيد- مقتبسا هذه التوصيف من الافلام الهندية حينما يكون البطل طفلا يقدمونه- و(الطفل المعجزة) - هذا جندي متطوع كان يريد ان يترك الجيش لا نعرف من ادخل في قناعته فكرة أن يدعي بأنه شيوعي وسوف يطردونه من الجيش ! ولم يكن يعلم بأنه سوف يطرد من (الحياة)! شخصية اخرى ليست شيوعية بل ان اخاه كان شيوعيا ،تعرفون بأن النظام السابق يأخذ الشخص بجريرة اخيه! اعتقل وتم تعذيبه واجبروه على الاعتراف بانه (عضو في اللجنة المركزية) ولا اعرف لماذا لم يعدوه من (المكتب السياسي) انسان بسيط حتى لا يفهم بالسياسة ولم يمارسها ، كان صوته في الغناء يشبه (البكاء) أطربنا في أداء اغاني (فريد الاطرش) وبالذات أغنية (ليه الظلم ليه القسوة ليه) تذكرنا "عارف" حمامة السلام كان يتدخل لأنهاء الشجار والخصام والحجز في حالات الهيجان ، نعم ليس دائما اوقات الاعتقال (غناء واحاديث ثقافية ) فهناك امتحان للمعدن الاصيل واختبار للصبر والتحمل والثبات وأذا اردت ان تعرف الشيوعي الحقيقي ادخل معه في المعتقل، "عارف" كان من الناصرية ويريد من "وليد زغير" في السجن ان يرسم له خطوط سير مصلحة نقل الركاب لتكون له دليلا عندما يزور بغداد بعد الخروج من المعتقل ! ولم يكن يعلم بأنه لو عثروا على هذه الاوراق واسماء شوارع بغداد فيها سوف (يودون جلده للدباغ) لأنهم سوف يرتبون لهم تهمة جديدة هي (مخطط لأحتلال بغداد) بعد (الانقلاب المزعوم للتنظيم)
كانت شهيتنا مفتوحة لهذه الوليمة ،وكان لقاء ساخنا عاطفيا رغم ان الجميع تقريبا قد ترك الحزب الشيوعي بشكل طوعي برغم من الجميع في ذلك الوقت لم يتنازل عن افكاره ولو كان المقابل اطلاق سراحه !بعضهم قد كون قناعات متناقضة مع افكار الحزب - عقائديا، وفكريا، لكن (نور وثقافة وطيبة ) الحزب تشع من عيونهم ،واتفقنا على جعل هذا التقليد سنويا وأطلقنا عليه تسمية (وليمة شيوعية)
ــــــــــــــــــــــــــــ
* "الزمان" 13 نيسان 2014