عبد الرزاق الصافي وصفحة من نشاطه السياسي في العهد الملكي .. القسم الثاني.. / احمد مريــح المنصراوي

توجه طلاب كلية الحقوق الى صفوفهم في يوم 11 / 3 / 1952 ، وقبل الدخول في الدرس الاول هتف كل من الطالبين عدنان عبد القادر طه و عبد الرزاق جميل الصافي بهتافات تدعو الطلاب الى الاضراب عن الدروس فلبى بعضهم دعوتهما وذهب الباقون الى صفوفهم غير ان الطالبين المذكورين لم ينثنيا عن استمرارهما في حمل الطلاب على الاضراب حتى انهما دخلا الى الصف الثاني بقصد اخراج الطلاب منه وكان يحاضر فيه الاستاذ حسين علي الاعظمي الذي كان ينصح الطلاب بوجوب الاستمرار على الدروس والمحافظة على الهدوء و السكينة مؤكداً لهم ان مجلس الاساتذة سوف يساعد الطلاب ويحقق لهم مطاليبهم الا ان الطالب عدنان عبد القادر قاطعه قائلاً ( ان الطلاب لن يصبروا على قرار مجلس الاساتذة او الانتظار حتى ظهور النتيجة ان ذلك الوقت الذي كان فيه الطلاب يخضعون لقرارات مجلس الاساتذة قد ذهب ) واخذ يدق بيده على منصة الاستاذ ان على الطلاب ان يرغموا مجلس الاساتذة ويفرضوا قوتهم بتضامنهم الشديد فيما بينهم لنيل حقوقهم المشروعة ، فرد عليه الاستاذ الاعظمي قائلاً ( بأن هذا الكلام لا محل له خاصة ان مجلس الاساتذة و العميد عازمون على معاونة الطلاب وان على الطلاب ان يخلدوا الى النظام وانا اؤكد لكم عطف مجلس الاساتذة عليكم ) .
ومع ذلك انبرى له الطالب عبد الرزاق الصافي قائلاً ( لقد طردت من الكلية ولم يعين يوم لمحاكمتي . انا ادعو الطلاب الى عدم الاستماع الى هذه الوعود الخلابة و ادعوكم الى الاضراب ) . ثم تكلم الطالب عدنان عبد القادر طه ايضاً ( ان العمادة قررت ان تنتظر نتيجة الحكم الذي تصدره المحكمة وانا اتنبأ بان هذا الحكم سوف يكون ضد مصلحة الطلاب مما يحتج به مجلس الاساتذة لطرد الطلاب مع ان جريمة هؤلاء هي جريمة سياسية بحتة فاذا حكم عليهم فلا يحق للعمادة عندئذ ان تؤيد قرار الفصل لانهم ليسوا بمجرمين عاديين ارتكبوا جريمة عادية ) . ( ثم هتف يعيش تضامن الطلاب و الطالبات في سبيل الاضراب ).
بعدها خرجوا من الصف وساروا يدعون الطلاب الى الاضراب وهكذا اربكوا الدراسة وتجمهر الطلاب في ساحة الكلية خارج صفوفهم ومنهم من ترك الكلية الى داره وفي اثناء ذلك كانت تتعالى الهتافات ( فليعيش اتحاد الطلبة فلتسقط التحقيقات الجنائية فليعيش اتحاد طلبة العرب و الاكراد من اجل المطالبة بحقوقهم العادلة فليسقط الارهاب البوليسي فليعيش اتحاد الطلاب بمختلف نزعاتهم واديانهم و قومياتهم من اجل تحقيق مطالبهم ) .
ثم وقف الطالب عدنان عبد القادر على مدرج الكلية قائلاً ( ان مجلس اساتذة كلية الحقوق مصر على طرد الطالبين و نحن تجاه ذلك سنبقى مضربين وانا اناشدكم يا اخواني الطلاب على الاستمرار في الاضراب حتى تجاب مطاليبنا وان تعتصموا في داخل الكلية و تضربوا عن الطعام ايضاً الى ان تلغى العمادة قرارها القاضي بفصل الطالبين ) ثم خطب فيهم بعد ذلك الطالب عبد الرزاق الصافي احد الطالبين المفصولين يدعوهم فيها الى الاستمرار في اضرابهم وكذا الاضراب عن الطعام ايضاً الى ان تجاب مطاليبهم ثم عاد من بعده الطالب عدنان عبد القادر ايضاً فالقى قصيدتين شعريتين احدهما من نظمه والاخرى من نظم محمد مهدي الجواهري ، اعقبه الطالب عدنان عبد الحميد الدبوني ( انني احد اعضاء اللجنة التي تألفت للمطالبة بحقوق الطلاب ونحن بدورنا راجعنا الجهات المسؤولة حول ذلك ولكن ظهر لنا ان عمادة كلية الحقوق لاتوجد لديها رغبة في نقض قرارها لذلك تعتبر اللجنة نفسها منحلة منذ الان وعلى الطلاب ان يقرروا مصيرهم بانفسهم ) .
وهنا اخذ الطالب عبد الرزاق الصافي بالهتاف بما سبق من هتافات ودعوة الطلاب الى الاستمرار على الاضراب كما وان الطالبة اديبة نوري من طلاب الصف الاول كانت تهتف بهتافات مختلفة وتحرض الطالبات على الاضراب والاشتراك مع الطلاب .
ثم تقدم الطالب عدنان فرهاد فدعى الطلاب الى الاجتماع في قاعة الكلية حيث خطب فيهم قائلاً (نحن لا نؤيد مثل هذه الأعمال ولا نؤيد ما قاله الطالب عدنان عبد القادر طه في الاضراب عن الطعام و الاعتصام في الكلية لان مشاكل الطلاب لا تحل بهذه الفوضى بل عليكم ان تفسحوا المجال الى اللجنة التي تألفت سابقاً حتى تستمر في مراجعة السلطات المسؤولة بالطرق السليمة وليس بهذه الفوضى للمطالبة بحقوق الطلاب وها انني قد جئتكم بعد مقابلة معالي وزير المعارف وان اللجنة التي اؤلفت لهذه الغرض نفذت المطاليب التالية :
1. عدم احتساب الغيابات .
2. اطلاق سراح الموقوفين .
3. اخذت وعداً قاطعاً بارجاع المفصولين بعد ان يفرج عنهم من قبل القضاء وعلى هذا فأن اللجنة قد انهت مهمتها وهي تدع الخيار للطلاب في تنفيذ مايرونه مناسباً ) عندئذ وجه له الطلاب قولهم انه يوجد موقوف هو بهمن كاشي لم يطلق سراحه بعد فأجابهم ( انه ايراني الجنسية وان ليس للجنة حق في التدخل في شؤون الدولة الداخلية ) فانبرى له الطالب عبد الرزاق الصافي قائلاً ( انه احد المطرودين وانه فصل بناء على امر وزير المعارف وليس بقرار من مجلس الاساتذة بينما اوامر الفصل تعود الى مجلس التعليم العالي ثم وزير المعارف ) ثم دعى الطلاب الى الاضراب عن الطعام و الاعتصام في الكلية . بعدها تكلم عدنان عبد القادر طه ايضاً قائلاً ( اننا لا نؤيد الرأي الذي قاله عدنان فرهاد بل علينا ان نستمر على اضرابنا و نضرب كذلك عن الطعام و الاعتصام حتى تجاب مطاليبنا ) . فأجابه الطالب عدنان فرهاد قائلاً ( باننا يقصد القوميين قد ايدنا الاضراب لمدة عشرة ايام وقد اخذنا وعداً بل قد نفذت اكثر مطاليبنا وعليه فلا موجب للاضراب عن الدراسة ) . فانبرى له الطالب عدنان الدنوبي قائلاً( ان اللجنة التي قد انحلت وانه لايحق لعدنان فرهاد تقرير انهاء الاضراب ) فاجابه عدنان فرهاد ( بان اللجنة لم تحل انما قد سعت في جهودها ونفذت ما عليها من واجبات ونجحت في ذلك ) .
ثم غادر القاعة وتبعه عدد كبير من الطلاب وبقى الطالب عبد اللطيف الكمالي يجادل الشيوعيين على وجوب الانقطاع عن الاضراب و الاستمرار في الدراسة وكان رد الطالبة ماكي تلو من الصف الثالث اليه ( ان عبد اللطيف من انصار الوزير وجماعته وانه كان في المانيا سابقاً).
ويوضح لنا ذلك ان الطلبة الذين بقوا مصرين على استمرار الاضراب كان هدفهم حماية جميع الطلبة من تعسف نظام الكلية ووزارة المعارف تجاه الطلبة وحرياتهم وان لا تتكرر الحال مع آخرين .
غادر جميع الطلاب القوميين القاعة الى الخارج وانصرفوا وذهب كل من الطلاب عدنان فرهاد و صبيح الكبيسي و عبد اللطيف الكمالي و مؤيد اثنيان لمقابلة معالي وزير المعارف واخبروه بما حدث في الكلية وبان اللجنة قد ادت مهمتها على الوجه المطلوب وان الطلاب سيعودون الى دروسهم اعتباراً من صباح 12 / 3/ 1952 وعلى اثر مغادرة الطلاب قاعة الكلية حصل انشقاق بينهم فمنهم من يؤيد القوميين في رأيهم المتمثل في اقوال الطالب عدنان فرهاد ومنهم الاخرون وهم الشيوعيون من يؤيدون الطالب عبد القادر طه الذي اخذ يخطب فيهم حاثاً على الاضراب و الاعتصام في الكلية واعلان الاضراب عن الطعام ايضاً ناعتاً القوميين بالجواسيس مما حدا الى ان يرد عليه القوميون ايضاً حتى انهم تبادلوا السباب و الشتائم وكادوا يشتبكون فيما بينهم لولا تدخل بعض الطلاب المحايدين وبعد ان هدأت الحال قليلاً وقف الطالب عدنان عبد القادر طه وقال ( اخواني لقد جائني خبر انه قبل ربع ساعة قامت مديرية التحقيقات الجنائية بتوقيف طالبين ونحن تجاه ذلك سنستمر في الاضراب ) . ثم هتف عدة مرات بسقوط دائرة التحقيقات الجنائية ان الطالبين اللذين يقصدهما هما ابو قاسم كرو و بهمن محمد صادق كاشي اللذين صدرت الاوامر بنفيهما خارج العراق لقيامهما بالتحريض على الاضراب وقد القت الشرطة القبض عليهما لتنفيذ امر النفي بحقهما - . ثم احضر الطالب عدنان عبد القادر طه احدى سبورات الكلية ووضعها على مدرج الكلية كتب عليها ( نداء موجه الى الطلاب للاضراب عن الطعام و الاعتصام في داخل الكلية حتى تجاب مطاليب الطلاب العادلة).
ومع كل هذه التحريضات فقد داوم الطلاب المنشقون عن الاضراب في دروسهم وبعد انتهاء الدراسة وخلالها ايضاً اخذ الطلاب في مغادرة الكلية ولم يبق فيها سوى الطلاب التالي ذكرهم الذين استمروا في اضرابهم وقرروا الاعتصام في الكلية وعدم مغادرتها وكذا الاضراب عن الطعام حتى تجاب مطاليبهم وتعزيزاً لاعتصامهم هذا وقد اتخذوا من اثاث الكلية متاريس يحتمون بها وجمعوا الحجارة وبعض القناني استعداداً منهم في استعمالها لمقاومة الشرطة ان هي طلبت اليهم الخروج من الكلية غير ان الطلاب المعتصمين عندما رأوا كثرة عدد رجال الشرطة الذين احاطوا بالكلية شعروا بانهم لايمكنهم مقاومة الشرطة فاستسلموا للامر وخرجوا من الكلية فالقت الشرطة القبض عليهم دون مقاومة واوقفوا بأمر من حاكم التحقيق :
1. عبد الرزاق جميل الصافي - طالب في الصف الرابع / مفصول
2. عدنان عبد القادر طه - طالب في الصف الرابع
3. نجاح احمد جمال الدين - طالب في الصف الثاني / موظف في محكمة شرعية الكاظمية
4. طارق طه مكي - طالب في الصف الثالث
5. عبد القادر سعيد القيسي - طالب في الصف الرابع
6. حبيب محمد كريم - طالب في الصف الثاني
7. محمد علي جواد البياع - طالب في الصف الثالث
8. محمد مهدي محسن الزبيدي / طالب في الصف الثاني
9. عبد الرحمن احمد خالد بابان - طالب في الصف الاول
10. عدنان طاهر عبد الواحد - طالب في الصف الثاني
جرى تقديم الصافي للمحاكمة أمام محكمة جزاء بغداد ، مع عدد من المتهمين . وأُفرج عنهم "لعدم توفـّر الادلة" وبعد إعلان قرار الافراج عن المتهمين هتف ( لتعش ذكرى وثبة كانون المجيدة شوكة في اعين المستعمرين وأذنابهم ) . الامر الذي إعتبره القاضي برهان الدين الكيلاني إهانة للمحكمة ، وإخلالاً بالالتزام بعدم القيام بأي نشاط "مخل بالامن"من قبل المحكوم بعقوبة السجن مع وقف التنفيذ .
وتم إرسال الصافي الى السجن . وعند إستئناف الحكم أمام محكمة الاستئناف في بغداد ، وكان رئيسها ،يوم ذاك ، الاستاذ عبد الجليل برتو ، جرى نقض قرار حاكم جزاء بغداد الاول ، واٌخرج الصافي من السجن . غير أن قرار محكمة الاستئناف جرى تمييزه أمام محكمة التمييز ، التي كان في هيأتها شهاب الدين الكيلاني وقررت نقض قرار محكمة الاستئناف ، وتأييد قرار محكمة الجزاء .ولذا اُلقي القبض مجدداً على الصافي واُعيد الى سجن بغداد المركزي ، ليقضي محكوميته التي إنتهت في شباط 1953 . وهكذا حـُرم من إكمال دراسته في كلية الحقوق ، إذ كان في الصف المنتهي ولم يبق للامتحان النهائي سوى بضعة أسابيع .
عاد الى الكلية بعد جهود مضنية ، هو وعدد من المفصولين الاخرين الذين خرجوا من السجون في العــــــام الدراسي 1953-1954 ، وتخرج فيها بدرجة جيد . غير أن عمادة الكلية حجبت عنه شهادة التخرج تحت ضغط جهاز الامن . ولم يحصل على الشهادة إلا بعد ثورة 14 تموز 1958. عندئذ بدأ عهد جديد في نشاط عبدالرزاق الصافي السياسي والفكري في العراق وهو يحتاج الى بحث موسع .