موقف الشيوعيين في اسكتلندا من الاستفتاء حول استقلالها

لندن –طريق الشعب
لم يتبق سوى 10 ايام على حلول موعد استفتاء اسكتلندا بشأن استقلالها عن المملكة المتحدة أو بقائها جزءاً من سيادتها. وسيجري الاستفتاء يوم 18 أيلول الجاري، إذ سيطرح سؤال على حوالي اربعة ملايين ناخب اسكتلندي: "هل ينبغي أن تكون اسكتلندا دولة مستقلة: نعم أم لا؟".
وتشير استطلاعات الرأي الى ان النتائج متقاربة جداً بين حملتي "نعم" و"لا". واذا كانت نتيجة الاستفتاء "نعم"، ستنفصل اسكتلندا عن المملكة المتحدة خلال أقل من سنتين، في آذار 2016. وعندذاك سيغادر النواب الاسكتلنديون البرلمان البريطاني في لندن. وفي حال جرى انتخاب حكومة بقيادة حزب العمال في 2015 فان ذلك سيعني ان الحكومة ستسقط على الأرجح، لأنه من مجموع 59 نائباً يمثلون اسكتلندا في البرلمان البريطاني يوجد نائب واحد من حزب المحافظين و44 نائباً من حزب العمال.
ويدافع الشيوعيون في اسكتلندا، كما هو موقفهم دائماً، عن حق الأمم في تقرير المصير. لكنهم لا يؤيدون الاستقلال في الظروف الحالية وفقاً للشروط التي قدمتها حكومة اسكتلندا المحلية بقيادة الحزب القومي الاسكتلندي والوثيقة ("الورقة البيضاء") التي طرحها حول الاستقلال وتضمنت وعوده وتعهداته.
ويشار الى ان مطلب الشيوعيين منذ ثلاثينيات القرن العشرين هو "الفيدرالية التقدمية"، وهو مطلب حظي في السبعينيات بدعم اتحاد النقابات الاسكتلندي والحركة العمالية الاسكتلندية.
ماذا تعني الفيدرالية "التقدمية"؟ انها ليست مجرد ترتيب دستوري بل فيدرالية تدعم النضال من اجل التغيير الاجتماعي التقدمي الذي يشمل كل الأمم المتعايشة في بريطانيا، والذي يتيح اعادة توزيع اجتماعي للثروة والسلطة.
وفي ظل الفيدرالية التقدمية تتولى الحكومة الفيدرالية (الاتحادية) على المستوى البريطاني السيطرة على السياسة الاقتصادية ويتوجب عليها دستورياً أن تقوم بإعادة توزيع الدخل جغرافياً وبما يتناسب مع الحاجة الاجتماعية. وستكون للبرلمانات المحلية في اسكتلندا وويلز وفي اقاليم انكلترا، اذا حظي ذلك بتأييد محلي، سلطة تمكّنها من نقل المؤسسات الخدمية الى سيطرة القطاع العام، والتدخل في المجال الصناعي لإدامة تشغيل الأيدي العاملة وزيادة نفوذ الشغيلة وتحكمها بموارد بلادها.
كانت هذه هي الرؤية التي تبناها البرلمان المحلي الاسكتلندي في 1972: من اجل اقامة "برلمان للشغيلة" تكون أفعاله موجهة لاستنهاض النضال في انحاء البلاد ولتحقيق وحدة الصفوف وليس الانقسام.
اما "الاستقلال" الذي تدعو اليه حكومة الحزب القومي الاسكتلندي في "ورقتها البيضاء" فانه مختلف تماماً، ويعتبره الشيوعيون فخاً للشغيلة. فهو سيضعف موقعهم في مواجهة مجموعات المصالح والاعمال الكبيرة والبنوك، بالاضافة الى إضعاف وحدة الشغيلة في ارجاء بريطانيا في مواجهة الدولة البريطانية التي ستستمر في تمثيل السلطة المتركزة للرأسمال المالي.
ان الوصفة التي يقدمها الحزب القومي الاسكتلندي في "الورقة البيضاء" هي خفض ضرائب الشركات، والسعي لتأمين الاستقرار للقطاع المالي الضخم في اسكتلندا بالبقاء في منطقة الاسترليني، وضمان حقوق مجموعات الاعمال الكبيرة الخارجية التي تملك ما يزيد على 80 بالمئة من قطاع التصنيع الاسكتلندي عبر السعي للانضمام الى الاتحاد الاوربي.
ومن دون وجود بنك مركزي لاسكتلندا او عملتها النقدية الخاصة بها، يعني هذا ان ميزانية اسكتلندا ستبقى خاضعة لمشيئة البرلمان البريطاني في لندن، وهو في هذه الحالة سيكون برلماناً يخضع لهيمنة حزب المحافظين. وستستمر سياسة التقشف. وسيخضع ذلك لرقابة وتوجيه الاتحاد الاوروبي.
ان "معاهدة الاستقرار" التي أقرها الاتحاد الاوربي في 2012، والتي سيتعين على اسكتلندا تضمينها في دستورها المكتوب، تؤكد على ان العجز السنوي يجب ان لا يتجاووز 0,5 بالمئة، وانه اذا فاق الاقتراض البعيد المدى او الدين الوطني 60 بالمئة من صافي الدخل القومي، يجب ان يتم خفضه بنسبة 5 بالمئة سنوياً. ويقدر حجم ديون اسكتلندا حالياً بما لا يقل عن 85 بالمئة من صافي الدخل القومي.
لذا فان الاستقلال الذي يدعو اليه الحزب القومي الاسكتلندي يعني ان خفوضات الانفاق الناجمة عن اجراءات التقشف ستكون أسوأ مما هي عليه الآن. اما بالنسبة الى الملكية العامة او "دعم الدولة" للصناعة فان ذلك سيصبح في خبر كان. فقواعد الاتحاد الاوربي لا تسمح بذلك.
ومما يثير الاستغراب ان بعض اوساط اليسار في اسكتلندا اعلنت تأييدها لحملة "نعم". ومن ضمنها الحزب الاشتراكي الاسكتلندي وحزب العمال الاشتراكي و"تضامن" والمجموعة الاشتراكية الدولية. وحتى البعض في حزب العمال يؤيدون التصويت بـ"نعم"، وينتمي كثيرون من هؤلاء الى ائتلاف الاستقلال الراديكالي.
وهناك سببان وراء ذلك. أولاً، الطريقة التي وظّف بها بذكاء الحزب القومي الاسكتلندي التزامه بعقد "مؤتمر دستوري" مباشرةً بعد أول انتخابات لبرلمان اسكتلندي في 2016. وسيكون لهذا المؤتمر الحرية في إعادة النظر بكل الخيارات الدستورية لاسكتلندا مستقلة. وحسب قول اتباع "ائتلاف الاستقلال الراديكالي" فان هذا يعني ان "كل شىء سيكون متاحاً".
لكن الأمر لن يكون هكذا في الواقع. فمقترحات الحزب القومي الاسكتلندي تشير، على نحو أقل بروزاً، الى ان تركيبة "المؤتمر الدستوري" يجب ان تعكس الارادة الديمقراطية للشعب الاسكتلندي كما ستعبر عنها الانتخابات التي تسبق المؤتمر. ومن المستبعد ان يحصل اليسار الراديكالي على نسبة 5 بالمئة في تلك الانتخابات. فمن المتوقع، استناداً الى ادائه الحالي، ان يحصل على أقل من 2 بالمئة.
وفي كل الأحوال سيكون الوقت متأخراً جداً آنذاك. اذ ان عضوية اسكتلندا في الاتحاد الاوربي وحلف الاطلسي (الناتو) ومنطقة الاسترليني سيتم التفاوض بشأنها، حسب ما يقوله الحزب القومي الاسكتلندي، في الـ 15 شهراً التي تسبق انعقاد "المؤتمر الدستوري". ويشار الى ان ائتلاف الاستقلال الراديكالي نفسه يعاني انقساماً عميقاً حول الموقف من قضية الاتحاد الاوربي، وهي الأكثر أهمية.
لكن هناك سبباً ثانياً، ربما اكثر اهمية، لتأييد بعض اوساط اليسار لحملة "نعم" لاستقلال اسكتلندا. وهو سلوك حملة "لا" لاستقلال اسكتلندا. ويدعم هذه الحملة، وشعارها "معاً أفضل"، ائتلاف يضم احزاب العمال والديمقراطيين الأحرار والمحافظين، ولذا فانها غير قادرة على تقديم رؤية تحظى بجاذبية لدى اليسار.
اما اصوات اليسار التي تقف الى جانب "لا" لاستقلال اسكتلندا فهي تقتصر على حملة "لنعمل معاً"، التي يدعمها عدد من نقابات العمال ومجموعتا "الصحيفة الحمراء" و"الاشتراكية أولاً" التي يؤيدها كثيرون على يسار حزب العمال وايضاً الشيوعيون. ولا تملك هذه الحملات سوى موارد مالية محدودة وتلقى تجاهلاً من وسائل الاعلام السائدة. فصحف رئيسية مثل "صنداي هيرالد"، التي تملكها شركة "نيوزكويست/غانيت" الاميركية المتعددة الجنسيات، اعلنت تأييدها للاستقلال. وقد تكرر صحافة "امبراطور الاعلام" روبرت مردوخ تأييدها للحزب القومي الاسكتلندي كما فعلت في 2012.
ويزعم اليسار التروتسكي ان الاستقلال سيوجه ضربة الى الامبريالية. لكن العكس هو الصحيح. فلولا موقف النواب الاسكتلنديين في البرلمان البريطاني كان يمكن للتصويت التاريخي ضد التدخل البريطاني - الامريكي في سوريا ان يذهب في الاتجاه المعاكس. ومن المؤكد ان اصحاب الملايين الاسكتلنديين ومدراء صناديق التحوط الاستثمارية الذين يضخون المال الى الحزب القومي الاسكتلندي لن يفعلوا ذلك لو ان من يدعمهم مالياً في حي المال والأعمال في لندن وجدوا ان مصالحهم مهددة. ومن شأن موقف الحزب القومي الاسكتلندي، المؤيد للبقاء في منطقة الاسترليني وللاتحاد الاوربي وحلف الاطلسي، ان يضمن استمرار هذا الدعم.
ما الذي يمكن ان يغيّر الوضع؟ الشىء الوحيد الذي يمكن ان يفعل ذلك هو حملة نشيطة من قوى اليسار من اجل تغيير دستوري لصالح تحقيق العدالة الاجتماعية. وتكتسب اهمية حاسمة المطالبة بديمقراطية اقتصادية تمكّن الشغيلة من البدء بممارسة السيطرة على رأس المال. وكي تحظى هذه المطالب بمصداقية في اسكتلندا، فانها يجب ان تلقى دعم النقابات واليسار على المستوى البريطاني حيث تحظى بالتأييد القضايا الأوسع ذات الصلة بالتغيير الدستوري التقدمي.
والأهم من ذلك كله، هناك قضية الثقة بالقدرات الكامنة للسياسة الطبقية. فالنضالات الموحدة في السبعينيات، التي شملت عمال الموانىء في لندن وعمال بناء السفن في "أبر كلايد" في اسكتلندا ومهندسي برمنغهام وعمال المناجم، اعطت آنذاك مصداقية للمطالب التي تدعو الى تغيير اقتصادي تقدمي. ان قضية اسكتلندا وقضية الحركة العمالية لا يمكن ان تنفصلان.