اكتوبر والمسألة الكردية / د. كمال مظهر احمد

بذلت حتى الان بعض المساعي لبيان التأثير الذي احدثته ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 في الشعب الكردي وعلى الاخص في حركته التحررية القومية ونتائج هذا التأثير. غير ان هذا الموضوع لم يعط حتى الان ما يستحقه من اهمية ولا يزال بحاجة الى المزيد من الدراسة، لانه موضوع حيوي وهام سواء من الناحية السياسية والاجتماعية او من الناحية الدراسية التاريخية. وفي هذا المقال نحاول كشف النقاب عن بعض الجوانب الهامة لهذا الموضوع بمقدار ما في وسعنا وعلى ضوء بعض المعلومات الجديدة.
ما من مؤرخ او سياسي مطلع بوسعه ان لا يعترف ان «ثورة اكتوبر» هي اهم حدث سياسي واجتماعي في العصر الحديث وانها كانت بداية تبدل تاريخي في جميع انحاء العالم. وقد كتب بهذا الشأن غاندي وعبد الناصر ونهرو وطاغور ومئات غيرهم من رجال السياسة ومن الكتاب والشعراء.
لقد كان لانتصار ثورة اكتوبر اهمية عظيمة جدا بالنسبة الى جميع شعوب الشرق الاوسط ومنها الشعب الكردي وللحركة التحررية لهذه الشعوب بصورة خاصة.
وقد كان من العوامل المساعدة بهذا الشأن ان بوادر انتشار الفكر الاشتراكي بين قسم كبير من هذه الشعوب بدأت في الظهور قبل ثورة اكتوبر، فلم يكن القرن التاسع عشر قد انتهى بعد عندما كان المثقفون البعيدو النظر في مصر وتركيا وايران يبحثون هذا الموضوع ويدرسون مضامينه. وفي بداية القرن العشرين كان هذا الاتجاه قد انتشر الى حد ما وجلب اليه انظار بعض العلماء ورجال السياسة. وعلى سبيل المثال فإن العالم التركي المعروف محمد جاويد بيك تحدث في الجزء الثاني من كاتبه «علم الاقتصاد» عن «رأس المال» لكارل ماركس واعطى اهمية فائقة لافكاره. وفي مصر نشر سلامة موسى ولاول مرة كتيبا باللغة العربية باسم «الاشتراكية» وبعد ذلك بعامين نشر مصطفى المنصوري كتابا ضخماً عن تاريخ الاشتراكية بيعت منه 500 نسخة في سوريا ولبنان.

نشوء المنظمات الاشتراكية في المنطقة

هذه العوامل وعوامل خاصة اخرى غيرها مهدت الطريق لتأسيس بعض المنظمات الاشتراكية السرية في بعض بلدان الشرق الاوسط قبل الحرب العالمية الاولى. ففي عام 1908 اسس الدكتور محمد جمال الدين حزبا خاصا في مصر باسم (الحزب الاشتراكي المبارك) وفي ايران تأسس بمساعدة البلاشفة الروس (حزب الاجتماعيين العموميين) وكان ذلك في سنوات الثورة الدستورية 1905- 1911. ولم تمض مدة طويلة حتى تأسست في تركيا ايضا جمعية اشتراكية سرية في عام 1909 تحولت بعد ثلاث سنوات الى نواة حزب باسم (الفرقة الاشتراكية العثمانية).
واضح انه لاسباب جلية عديدة لم تظهر في كردستان قبل ثورة اكتوبر محاولات من هذا القبيل، غير ان بوادر التطور الفكري التي لاحت في تلك السنوات في بلدان الشرق الاوسط ولاسيما في تركيا وايران اللتين كانت كردستان كلها جزءا منهما من الناحية السياسية، لابد انها أثرت بشكل ما في الشعب الكردي ايضا. وقد ساهم في مثل هذه الحركات الفكرية التي كانت نواتات صغيرة لها تتاسس في كردستان عدد من المثقفين الاكراد الذين كانوا يعيشون خارج كردستان مثل الشاعر ابو القاسم لاهوتي. وفي سنوات الحرب العالمية الاولى كان لبعض الثوريين من مدينة ساوجبلاغ صلات مع المنظمات الاشتراكية الديمقراطية التي كانت تعمل في صفوف الجيش الروسي الذي كان موجودا في تلك المنطقة. وقد مهدت هذه الصلات الطريق لاقامة منظمة سياسية تقدمية سرية في هذه المدينة قبل انتصار ثورة اكتوبر وقد رفعت هذه المنظمة شعار (استقلال كردستان).
هذه الحوادث التي تتمتع باهمية تاريخية كبيرة، تسببت الى حد ما في ان يدرك عدد من الثوريين الكردستانيين مبكرا الطبيعة الحقيقية لثورة اكتوبر، ولاسيما بعد ان اظهرت قيادة الثورة باعمالها انها ليست لها اية مطامع اقليمية وتساند باخلاص وبكل ما لديها من امكانيات، الشعوب المستعمرة والمظلومة. لقد انقذت ثورة اكتوبر كردستان الى الابد من مخططات روسيا القيصرية التي كانت تأمل في الحصول على ثرواتها وتعطى اهمية فائقة لموقعها الاستراتيجي ان لم يكن لشيء فلأنها تقع على حدودها الجنوبية الاقل. ولم يكن قد مضت على انتصار ثورة اكتوبر ايام كثيرة عندما كشف لنين النقاب عن جميع المعاهدات السرية التي كانت حكومة روسيا القيصرية قد عقدتها، واعلن ان روسيا السوفييتية لم تبق لها صلة بتلك المعاهدات. وكما واضح فان واحدا من اهم المعاهدات التي كانت روسيا القيصرية قد عقدتها هي معاهدة سايكس- بيكو الرهيبة المعقودة بصورة سرية مع بريطانيا وفرنسا في عام 1916 لتقسيم القسم الاكبر من بلدان الشرق الاوسط بما فيها كردستان الشمالية والجنوبية التي خصصت لروسيا وفرنسا فقد أخذ رجال السياسة في العالم كله يتحدثون عن هذا العمل الذي اقدمت عليه روسيا السوفييتية واخذت غالبية الصحف والمجلات العالمية تحلله وتعلق عليه. ولا يزال هذا الموضوع يتكرر كلما جرى حديث عن ثورة اكتوبر والشرق.

تأثير اكتوبر على الكرد

من الواضح ان ثورة اكتوبر اثرت على الحياة السياسية والاجتماعية للشعب الكردي من نواحي اخرى عديدة ايضا. فقبل كل شيء ينبغي بيان حقيقة ان جزءا صغيرا من الشعب الكردي ساهم في هذه الثورة بل ان بعض ابنائه لعبوا ادوارا جد بارزة في انتصار الثورة في مناطق القفقاس. وقد أدت مساهمته هذه الى خلاصه الابدي. وابرز مثال لهؤلاء الاكراد الذين ساهموا في الثورة هو جنكيز ايلدرم الذي كان واحدا من اكراد اذربايجان المعروفين وكانت له يد طولى لا في انتصار الثورة في منطقة اذربايجان وحسب بل وكذلك في تصنيع هذه الجمهورية السوفييتية وتوسيع صناعاتها ايضا.
كان جنكيز ايلدرم رفيقا قريبا الى كيروف زميل لنين في النضال وقد نشرت في موسكو بعض الرسائل التاريخية المتبادلة بين ايلدرم وكيروف يذكر فيها الاول مرارا انه كردي بل أنه يبدأ احدى رسائله هذه بالقول: ان كردياً آسيويا يكتب اليك هذه الرسالة.
وحتى عام 1917 كانت الاقلية الكردية احدى الاقليات القومية البالغة التأخر في روسيا القيصرية والتي لتوها اخذت تطرق ابواب مرحلة الاقطاع. بل ويمكن القول انها لم تكن تملك من ابنائها حتى واحدا ممن درسوا في الكتاتيب. غير ان عجلة التطور اخذت تدور بعد انتصار الثورة بالنسبة للاكراد السوفييت بحيث صاروا ينجزون مهمات قرن من الزمن خلال عام واحد. كان هذا ولا شك احد النتائج التي ترتبت على السياسة الصحيحة التي انتهجتها الثورة الاشتراكية بالنسبة للمسألة القومية. ففي اصعب ايام الدولة السوفييتية واحرجها لم ينس لنين لحظة واحدة اولئك الاكراد السوفييت الذين لم يكن عددهم يتجاوز عدة الاف، وهناك شواهد تاريخية هامة عديدة على هذا، ففي السابع عشر من تشرين الثاني 1921 ارسل لينين برقية خاصة الى رئيس جمهورية اذربايجان السوفييتية نريمان نريمانوف يقول فيها: «امل ان يصبح البنك الحكومي الاذربايجاني الذي افتتح مؤخرا سندا قويا للسياسة الاقتصادية الجديدة لعمال وفلاحي الجمهورية الاذربايجانية الشقيقة. ان صرف 40 مليون روبل لجياع الفولغا وكردستان هو خير دليل على الاستعداد للسير تحت الراية الحمراء  راية اممية الكادحين- لينين(13).
وقد اعتبر نريمان نريمانوف صرف 40 مليون روبل على جياع الفولغا وكردستان بمثابة برهان جديد على اتحاد بروليتاريا القفقاس وروسيا.
ولا شك انه كان من ثمار هذه السياسة الصائبة ان نجا السوفييت الاكراد والى الابد من الاستثمار والامية والمرض وسائر العلل والمحن الاجتماعية الاخرى، واستطاعوا ان يخطوا خطوات كبيرة في ارمينيا السوفييتية لبعث وتطوير لغتهم وادبهم وتاريخهم وتقاليدهم القومية. ان الحياة التي يحياها الاكراد السوفييت باتت منذ سنين طويلة محط انظار الشعب الكردي كله وقد اثرت فيه تأثيرا بالغا. ومنذ اكثر من 30 عاما قارن الاستاذ رفيق حلمي اكثر من مرة بين الحياة الزاهرة التي يحييها الاكراد السوفييت والحياة المحرومة من الحقوق التي كان يحياها الاكراد العراقيون في ظل الانكليز والحكام الرجعيين السابقين.
وما من مجلة او جريدة تقدمية كردية لم تتحدث مرارا وتكرارا وباعتزاز عن حياة الاكراد السوفييت، ولم تتخذ منها نموذجاً صحيحا لحل المسألة القومية. وفضلا عن هذا فان العديد من الكتاب الاجانب لم ينسوا اثناء حديثهم عن الحالة البائسة للشعب الكردي في مختلف انحاء كردستان ان يتحدثوا عن هذه الحقيقة، ومنهم المؤرخ الاثوري المعروف وصديق الشعب الكردي يوسف ملك في كتابه. وبهذا الصدد ايضا يقول فاسيلي ثيكتين: «ان عدد الاكراد السوفييت لا يتجاوز مئة الف ولكنهم بالرغم من عددهم الضئيل اصبحوا مركز استقطاب لاخوتهم خارج الاتحاد السوفييتي وذلك بسبب من السياسة القومية السوفييتية. بل ان جريدة التايمس اللندنية اضطرت للاعتراف بان السوفييت هم وحدهم الذين «استطاعوا ان يحلوا المشكلة الكردية، فقد ساروا لحلها عبر الناحية الاقتصادية فقضوا على الجوع بين القبائل الكردية».
وهكذا نستطيع القول ان حياة الاكراد في ارمينيا السوفييتية هي احد العوامل المساعدة الهامة التي لعبت دورا فعالا لا في ان يدرك المثقفون الاكراد في وقت مبكر - الى حد كبير- الطبيعة الحقيقية لاول ثورة اشتراكية في العالم وحسب، بل وفي ان يتفهموا كذلك بصورة جيدة المحتوى العميق للترابط العضوي بين الافكار الاشتراكية وحل المسألة القومية. هذه وعوامل اخرى اثرت تأثيرا كبيرا على الحياة في كردستان وعلى التطورات السياسية داخل قواها الوطنية.

لينين: كونوا اسياداً في بلادكم

لقد اثرت ثورة اكتوبر على الشعب الكردي وحركته من نواحي عديدة اخرى كذلك. ففي كردستان كانت قد انتشرت اخبار العمال والفلاحين الروس الفقراء الذين كانوا قد استولوا على السلطة وتحرروا الى الابد، كما شاع بين الجميع ان القوميات التي كانت مضطهدة في روسيا القيصرية نالت حقها الكامل في ان تقرر مصائرها بانفسها. وكان السياسيون والمتعلمون الاكراد قد سمعوا ان لينين توجه في احد نداءاته الهامة بالخطاب الى مسلمي الشرق قائلا لهم: ينبغي ان تكونوا اسياد بلادكم.. ينبغي ان تبنوا حياتكم كما تريدون وكما ترغبون.. وهذا حقكم وان مصيركم في ايديكم.
هناك وثائق تاريخية هامة لا تدع مجالاً للشك في ان انباء ثورة اكتوبر ومنجزاتها قد ذاعت مبكرا بين الشعب الكردي ايضا كما ذاعت بين شعوب الشرق الاوسط الاخرى. وكما تروي المس جرترود بيل فان جميع قطاعات الشعب العراقي كانت تتحدث عن هذه المواضيع. بل ان الميجر سون يعطينا وثيقة اهم من وثيقة بيل بكثير. كان سون حاكما سياسيا في السليمانية في عام 1919 اي بعد عامين فقط من انتصار الثورة الاشتراكية، وفي رسالة سرية خاصة بعث بها الى الحاكم العام للعراق ارنولد ويلسن يذكر بأسف و: «ان الناس هنا اخذوا لسوء الحظ يتفهمون افكار البلاشفة».
كانت انباء ثورة اكتوبر تشيع بين الاكراد عن عدة طرق، اهمها ان الجنود والضباط الاكراد الذين اسروا خلال الحرب الاولى من قبل الروس ورؤساء القبائل الاكراد الذين كان الجيش القيصري اخذهم كرهائن، فك اسارهم جميعا بعد الثورة وعادوا الى ديارهم حاملين معهم العديد من اخبار ما جرى. فضلا عن ان الالوف من فقراء المناطق الايرانية والتركية المتاخمة لروسيا كانوا يعبرون الحدود بحثا عن عمل بدون ان تنقطع صلاتهم بذويهم، وكان هؤلاء يرون باعينهم التغيرات الاساسية التي كانت تحدث في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب روسيا.

الكرد تعاطفوا مع الثورة

ومن جهة اخرى فان اعداء ثورة اكتوبر ولا سيما الانكليز كانوا قد اتخذوا من كردستان قاعدة للوثوب على الجمهورية السوفييتية الفتية. وعبر كردستان كان الجواسيس يرسلون الى مناطق الحدود وما وراء القفقاس للتحريض على التمرد ضد الثورة، كان من بين هؤلاء الجواسيس المدعو نوئيل الذي كان من اكثر الانكليز خبرة في شؤون الكرد وكردستان. وقد ادخله الانكليز مبكرين الى الاراضي السوفييتية عبر كردستان بطرق خاصة، ولكنه اعتقل لدى عودته من قبل الثوار الجنكليين(24). فضلا عن ان قاعدة التموين للقوات الكبيرة التي ارسلها الانكليز بقيادة الجنرال دينستير فيل الى مناطق القفقاس، كانت في العراق وكان القسم الاكبر من المؤن المرسلة اليها يحول عن طريق كردستان. اذاً فان العدو الذي كان يحرق الارض الكردية هو نفسه الذي كان يحاول خنق الثورة الاشتراكية في مهدها، وقد كان سهلا بالنسبة للناس البسطاء ان يدركوا هذه الحقيقة الواضحة بسهولة، سيما بعد ان اخذوا يرون باعينهم كيف ان هؤلاء الجواسيس والجنود المسلحين كانوا يردون على اعقابهم مهزومين مدحورين. وقد اكد الاستاذ اسماعيل حقي شاوه يس مرارا في احاديثه مع كاتب هذا المقال حقيقة ان سكان كردستان ولاسيما السياسيين والشباب المتعلم منهم كانوا مطلعين الى حد كبير على تفاصيل الحدث الثوري الذي وقع في روسيا وطبيعته واهدافه.
كل هذه العوامل تسببت في ان ينظر معظم الاكراد نظرة العطف والتقدير الى وطن الثورة الاشتراكية الاولى. واي دليل على هذه الحقيقة اسطع من ان مسؤول السفارة السوفييتية في طهران كالميتسييف اختار اللجوء الى قبيلة - سنجاوي- الكردية في كردستان ايران، بعد الهجوم الذي دبره الانكليز والقاجاريون الرجعيون ضد سفارته وقد استقبله السنجاريون بغاية الاكرام والتقدير وحموه من ان تطاله ايدي الاعداء

لقد ادرك قادة الشرق الوطنيون في وقت مبكر اهداف ومرامي ثورة اكتوبر والدولة التي جاءت بها الثورة. لذلك فان كثيرين منهم اعتمدوا عليها منذ البداية في نضالهم الشاق المرير. وكان الزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد واحدا من اولئك القادة وقد عبر عن افكاره تجاه ثورة اكتوبر عدة مرات.
ففي العشرين من كانون الثاني 1923 وفي خضم نضاله البطولي ضد المحتلين الانكليز ارسل رسالة الى الدولة السوفييتية بواسطة القنصل السوفييتي في تبريز جاء فيها "ان كل كردي يعتبر الروس منقذي الشرق.. عندما دوى صوت الحرية الحقيقية في عام 1917 وسمع العالم ان الشعب الروسي تخلص من الظلم والطغيان، استقبلت جميع الشعوب المظلومة على وجه الارض هذا الصوت بحرارة وبدأت النضال في سبيل الحرية".
وبعد فترة وجيزة، وبعد ان قضى الانكليز على حكومة الشيخ محمود الحفيد بقوة الطائرات والدبابات، كان الاتحاد السوفييتي احدى الدول التي لجأ اليها الشيخ ضد بريطانيا وطلب منها المساعدة لوضع حد للسياسة الهوجاء التي انتهجها المحتلون الانكليز في كردستان العراق. إلا ان ما هو اهم من كل هذا هو الرسالة التاريخية التي بعث بها الشيخ في غمرة النضال الوطني للشعب الكردي بعد الحرب العالمية الثانية، الى الشهيد القاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد الديمقراطية والتي قال فيها: "اخوتي الاكراد، يا شركائي في الدم، انبهكم واتوسل اليكم ان لا تصدقوا إلا الدولة السوفييتية. فلا تنخدعوا بعد الان بفيض الوعود المعسولة والمتنوعة والدعايات المعادية للاتحاد السوفييتي، فهو وحده نصير ومنقذ جميع الشعوب.
لقد اثرت ثورة اكتوبر تاثيرا كبيرا على الحركة التحررية القومية للشعب الكردي كما اثرت على شعوب الشرق الاوسط الاخرى والتي تغير مسار نضالها ومحتواه بعد هذه الثورة تغيرا كبيرا. وفي كتابه المخصص لتاريخ العراق الحديث، اشار الى هذه الحقيقة المؤرخ الانكليزي لونكريك الذي كان ضابطا سياسيا في كركوك بعد سنوات الحرب العالمية الاولى. فقد كتب يقول: ان محتوى واساليب الافكار الاستقلالية التي كانت تنساب في بداية العشرينات الى كردستان من تخوم تركيا تغيرت كثيرا. ونَسبَ التغيير الى اعمال البلاشفة، ولكن الابلغ من هذا هو انه في عام 1921 كتب الضابط السياسي الانكليزي في خانقين في احد كتبه الرسمية: "ان نوعا من الحركات البلشفية قد ظهر في هذه المنطقة".
وقبله لفت الحاكم السياسي البريطاني العام في العراق الانظار الى حقيقة ان "مؤيدي البلشفية" تكاثروا في مدن كردستان في ايام 1920. لا شك ان هذه الوقائع كلها اقلقت الانكليز في العراق الى حد كبير، سيما وانهم كانوا يخافون كثيرا ان يفلت زمام الامور من ايديهم. واضافة الى ذلك فان خوف الانكليز الكبير كان مرده ان يؤدي انتشار افكار وتأثير البلشفة الى التقارب بين الثوار الاكراد والقوى المناضلة لشعوب الشرق الاوسط الاخرى ولا سيما الكماليين الاتراك الذين كانوا في نضال مرير ضد القوى الاستعمارية المحتلة. وقد اعترفت احدى الوثائق الرسمية للحكومة البريطانية بصورة واضحة وجلية بان الانكليز يخافون من ان يزعزع الاكراد والكماليون مواقعهم في جميع انحاء ما بين النهرين تحت تأثير البلشفية.
لقد كانت القوى الرجعية ولاسيما المستعمرون قلقة للغاية بسبب ان عطف الشعوب على وطن اكتوبر كان في ازدياد مستمر. وكان هذا بلا ريب نتيجة السياسة الصائبة التي انتهجتها الدولة السوفييتية الفتية ازاء الشعوب المستعبدة المناضلة. وبالنسبة للشعب الكردي فمنذ اليوم الاول لميلاد السلطة السوفييتية كانت هذه السلطة الى جانب حل المسألة الكردية على اساس ديمقراطي. وفي تاريخ شعبنا الحديث ادلة عديدة على هذا ولكننا نكتفي بعرض وثيقة قديمة مجهولة تعود الى ثلاث سنوات بعد انتصار الثورة.
ففي الثالث من حزيران 1920 ارسل اول وزير خارجية لروسيا السوفييتية ورفيق لينين في الكفاح (جيجرين) رسالة خاصة الى مصطفى كمال رحب فيها باسم الدولة السوفييتية بقرار الحكومة التركية حول "منح ارمينيا وكردستان تركيا حقهما في تقرير مصيرهما بنفسهما" وجاء في هذه الوثيقة: "لا شك ان الحكومة السوفييتية تفهم من هذا القرار ان استفتاء حرا سيجري في تلك المناطق، ويساهم فيه الهاربون واللاجئون الذين اضطروا في حينه لمغادرة وطنهم لاسباب خارجة عن ارادتهم، والذين ينبغي ان يعودوا الى بلادهم".
واضح ان انتصار اول ثورة اشتراكية في بلد مجاور تسبب في بروز الاهمية الاستراتيجية لكردستان ولاسيما بالنسبة لبلدان الامبريالية، اكثر من ذي قبل. وكان اعداء الاشتراكية يتلهفون الى ان يجعلوا من ارض كردستان كلها قاعدة كبيرة للانقضاض على الاتحاد السوفييتي والتآمر ضده. وقد تجلى هذا في وقت مبكر في الخطط التي تبين انها وضعت لاقامة شبكة من الطرق الاستراتيجية والتجارية في الشرق الاوسط وكان لكردستان مكان بارز في هذه الخطط. فقد كان ينبغي لقسم كبير من الطرق التي كان يتحدث عنها الضابط الانكليزي نابيير بحرارة بعد عام من انتصار ثورة اكتوبر لربط بغداد بباكو على ساحل بحر قزوين، ان تمر وفق مخططات صاحبها عبر اراضي كردستان كما ان طريق راوندوز- رايات في كردستان العراق والتي شقها الانكليز في الاعوام الاخيرة من العشرينات، لم تكن فقط لغرض "اخماد" تململ القبائل الكردية. بل ان احد الاهداف الاساسية كان تحقيق رغبة الانكليز في ربط ايران الغربية بواسطة هذه الطريق بالاسواق الراسمالية. فقد كان الانكليز جد فزعين من ان الطريق الحديدية الوحيدة التي تربط طهران بالعالم الخارجي كانت تمر عبر روسيا.
ان جهود الاستعماريين لتقوية سيطرتهم السياسية والاقتصادية على كردستان دفعت الشعب الكردي اكثر فاكثر الى تعزيز نضاله ضد الامبريالية العالمية.
وهكذا فقد كانت الشروط الضرورية لتأثير ثورة اكتوبر على الحياة السياسية والاجتماعية للشعب الكردي متوفرة. وبديهي انه ليس من قبيل المصادفة ان نار النضال التحرري الكردي قد التهبت اكثر بعد انتصار ثورة اكتوبر مباشرة كما كان الشأن بالنسبة لشعوب الشرق الاخرى. وبهذا الصدد كتب احد المستشرقين السوفييت يقول انه "لا تمر سنة او شهر او حتى اسبوع واحد بدون ان يرتفع صوت احتجاج او تقوم حركة في احدى زوايا كردستان". ان انتفاضات الشيخ سعيد بيران وسمكو شكاك والشيخ محمود عمت جميع ارجاء كردستان بعد معارك اكتوبر، ولكن احداثا اخرى غيرها وقعت ايضا ويحس المرء فيها بتأثير اكتوبر بجلاء. وعلى سبيل المثال فقد اشار عدد من المؤرخين الى ان كثيرين من الفلاحين الاكراد ساهموا في حركة الجنكليين التي وقعت في منطقة كيلان. بل ان خالو قوربان الذي كان احد المساعدين المقربين لقائد الحركة ميرزا كوجك خان كان كرديا. صحيح ان هذه الحركة بدأت عام 1912 اي قبل ثورة اكتوبر، إلا ان محتواها تعمق اكثر بكثير بعد انتصار الثورة، بحيث ان بعض قادتها استطاعوا ان يدركوا اهمية الجبهة الوطنية الموحدة مع القوى الراديكالية في المجتمع. وهكذا استطاعوا ان يقيموا في اعوام 1920- 1921 جمهورية ديمقراطية كانت قواها الرئيسية متكونة من فلاحي المنطقة وعمالها.
وبعد انتشار افكار اكتوبر ونهجها وطريقة معالجتها للمسألة القومية، فان الحركة التحررية للشعب الكردي رفعت هي الاخرى بعض الشعارات الجديدة كانت احداها واهمها على الاطلاق شعار حول حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه. كما ان دور المثقفين الاكراد ازداد عن ذي قبل، وبرزت قضية النضال المنظم كعمل ضروري وملتهب. وهذا بدوره ما عبد الطريق لظهور عدد من المنظمات السياسية في كردستان كان وزنها السياسي يرتفع عاما بعد آخر.
ومما يجلب الانتباه انه للمرة الاولى في تاريخ كردستان حملت احدى هذه المنظمات اسم الاشتراكية. وقد كتبت جريدة "كردستان" حول ظهور المنظمات السياسية في كردستان قائلة "يشهد التاريخ بان الاكراد واصلوا نضالهم دوما، ولكن لانهم لم يكونوا يملكون قبل ثورة اكتوبر العظمى منظماتهم الخاصة فانهم لم يستطيعوا احراز انتصارات كبيرة.
كان الشباب الاكراد المثقفون البعيدو النظر يريدون الاعتبار من ثورة اكتوبر، وان يدركوا طريقهم بعمق، ليستطيعوا ان يلعبوا دورهم التاريخي في حل مشكلة شعبهم المعقدة. وهناك وثيقة تاريخية هامة جدلاً لاثبات هذه الحقيقة التي ذكرناها آنفا بل وللاستدلال كذلك على ان ثورة اكتوبر اثرت في وقت جد مبكر وبصورة بارزة على الشعب الكردي. فعلى اساس توصية لينين عقد في العشرين من ايلول 1920 مؤتمر كبير في باكو باسم "مؤتمر شعوب الشرق" ساهم فيه ممثلو عشرات من شعوب الشرق، ودامت اعماله عدة ايام تدارس خلالها المؤتمرون المشاكل الرئيسية التي كانت شعوبهم تعانيها. وقد ساهم في هذا المؤتمر ثمانية اكراد.
ولا شك ان هذا العدد كبير بالنسبة لتلك الظروف، سيما اذا علمنا ان شعبا كبيرا مثل الشعب العربي لم يمثل في المؤتمر الا بثلاثة اشخاص. وكما ذكر الاستاذ اسماعيل حقي شاوه يس في كتاباته فان العديد من اكراد تركيا حاولوا الاشتراك في هذا المؤتمر، إلا ان السلطة القائمة هناك حالت دون تحقيق رغبتهم هذه. ويقول الاستاذ شاوه يس ان هذا المؤتمر هز كردستان كلها.
لقد كانت ثورة اكتوبر الاشتراكية شعلة وضاءة التهبت في شمالي كردستان، وانارت درب النضال وستظل تنيره الى الابد لشعبنا ولجميع الشعوب المضطهدة المحرومة من الحقوق.
ــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة: محمد الملا عبدالكريم
عن مجلة «برايه تي» الكردية
«الثقافة الجديدة»
تشرين الاول 1971