عبد الستار ربيع
«كيف يمكن ان اكون فاضلا إن لم أكن أحيا، وكيف أن أملك ضميرا طيبا إن لم أكن مدركاً لأي شيء»
كارل ماركس
لا يمكن فهم ظاهرة تكريس الانقسام والتشظي المجتمعي في بلدان الشرق والقائم (ظاهرياً) على أساس إنبعاث الهويات الفرعية المتصارعة (الدين، الطائفة، القومية، المذهب... الخ) بمعزل عن فهم طبيعة وجوهر اسلوب الانتاج الرأسمالي ونمطه الانتاجي، أي بمعنى ضرورة تأسيس الفهم على الوعي المادي للتأريخ وقراءة الاحداث والمجريات التاريخية من منظور "ماركس" ومذهبه الإنساني.
فمما لا شك فيه ان بعث الحياة في الهويات الفرعية لهذه المجتمعات قد اضحى المهمة المقدسة للمفكرين والمنظرين الاجتماعيين الذين اعتبروا ان النظام الرأسمالي يمثل النهاية المنطقية لحقيقة التاريخ، أي نهاية التاريخ وكما عبر عنها "فوكوياما" في كتابه "نهاية التاريخ" ضمن محاولات حثيثة لتأبيد الرأسمالية باعتبارها الحل الواقعي والأمثل لمعظم، بل كل المشكلات التي واجهها وسيواجهها الانسان في مساره التاريخي والحضاري. ومن خلال دراسة هذه الجهود النظرية لمفكري الرأسمالية والوقوف بتأنٍ عند اهدافها يتضح: ان الانقسامات المجتمعية الكبيرة التي بدأت تعاني منها معظم دول الشرق تقريباً، لا يتم إلا من خلال حاجة ملحة لدول الغرب الرأسمالي في استثمار التنوع الإثني والطائفي لهذه المجتمعات لغرض فرض انماط سياسية واقتصادية حاكمة تساهم في ترقيع الثوب الرأسمالي الذي يعاني من تمزقات مستمرة تجلت وتمظهرت على شكل أزمات مالية واجتماعية كادت ان تطيح بدول عديدة في منظومته والتي كانت اسباباً جوهرية تقف وراء اشتعال العديد من الحروب الكونية والمحلية، كالحربين العالميتين( الاولى والثانية)، ناهيك عن الحرب الكورية، والحرب ضد الشعب الفيتنامي، والحرب العراقية- الايرانية، اضافة الى المساهمة في خلق وتصنيع العديد من الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية، والتي كانت على الدوام بمثابة فتيل جاهز للاشتعال، تستثمره المنظومة الكلية للرأسمال العالمي في سعيها الحثيث لتأبيد نظامها وبُناه الأقتصادية والاجتماعية والفكرية، اتضحت بعض ابعاده في الاحتلال الأمريكي المباشر للعراق وأفغانستان، والاحداث المدمرة لدول ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وقبلها تمزيق اوربا الشرقية الى دويلات. وعلى حد قول ماركس: "الرأسمالية تمطر الحروب كما تمطر الغيوم المطر".
ان العمل المُغّرب والذي هو السمة بل النتيجة الواضحة والبارزة لنمط وأسلوب الانتاج الرأسمالي، والمناقض في جوهره لحياة الكائن الانساني النوعية.. هذا العمل المُغّرب هو المجال الحيوي لفكر "ماركس" في تبيان ازمة الانسان ككائن نوعي في هذا الوجود، فليس عالم الأشياء هو وحده الذي يصبح حاكماً على الانسان، بل تشترك معه الظروف الاجتماعية والسياسية التي خلقها الانسان، والتي تسيدت عليه الآن" إن هذه القوة التي يكتسبها الشيء الذي لم ننتجه بذاتنا، والذي تحول الى قوة موضوعية تخرج عن مجرى سيطرتنا، تحبط آمالنا، وتُبطل حساباتنا،لإن كل ذلك حتى الآن، أحد العوامل الرئيسية في التطور التاريخي "الإيديولوجية الألمانية ص23".
ان عودة الذات المذعورة والخائفة من سطوة القوى الخفية والتي لا تستطيع ادراكها، الى هويتها الفرعية (الاثنية والطائفية) هو احدى تجليات الاغتراب في الفرد المقهور.. انه يتخندق في جماعته الصغيرة في البيروقراطيات الكبيرة. لكنه لا يدرك ولم يدرك بعد أنه مذعور من ومتخندق مع مخلوقاته. "معروف ان مستوى متدنياً من التطور الاجتماعي يجعل الفرد ملتحماً بكُلٍّ اكبر، سيان ان كان هذا الكُل قبيلة او عائلة او جماعة او طائفة في مواجهة المجتمع الحديث. أما في المجتمع الحديث، فان الدرجة العليا من التطور تبرز اشكال الاتحاد الاجتماعي امام الفرد كوسائل لتحقيق غاياته الفردية، وتجعله متحرراً من قيود الاثنين". (فالح عبدالجبار: المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب).
ان الإنسان المُغَّرب في عالم رأس المال (هو ليس العامل فقط بل صاحب رأس المال نفسه، وبفعل عولمة الصراع امتد ليشمل شعوب الشرق التي تعاني من القهر) الذي يؤمن بأنه صار سيدا على الطبيعة، قد اصبح عبداً للاشياء والمخاوف وملحقاً عاجزا بالعالم الذي اصبح في نفس الوقت تعبيرا جامداً عن قواه الذاتية. ان الاغتراب الذي عبر عنه ماركس والذي يتم في عملية العمل، عن نتاج العمل، وعن الظروف، يرتبط، بشكل لا ينفصم، مع الاغتراب عن الذات، عن أخيه الانسان، وعن الطبيعة، "ان النتيجة المباشرة لاغتراب الانسان عن نتاج عمله، عن فعاليته الحياتية، وعن حياته النوعية، وهي اغتراب الانسان عن البشرالآخرين. فعندما يواجه ذاته، فهو يواجه، ايضا الآخرين. فما هو صحيح عن علاقة الانسان بعمله، بنتاج عمله، وبذاته، هو صحيح أيضا، عن علاقته بالآخرين، بعملهم، وبمواضيع عملهم، بشكل عام، ان الاقرار بحقيقة ان الانسان هو مغرَّب عن حياته النوعية يعني أنه مغرَّب عن الآخرين، وان كل واحد من الآخرين، هو بالمثل، مُغرَّب عن حياته النوعية.. عن الحياة الانسانية (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية ص103). ان الانسان المُغرَّب ليحافظ مُغرباً عن البشر الآخرين، بل، ايضا عن جوهر الانسانية، عند "وجوده النوعي" في كل من كيفياته الطبيعية والروحية.
فهذا الاغتراب عن الجوهر الانساني يقود الى نوع من الانانية الوجودية، نراها تضرب أطناب هذا العالم، بل تهدد وجوده بالكامل عبر سلوكيات التعصب والتخندق، الذي احال كوكبنا الى ساحة لنزاعات مشوهة. فجوهر الانسان الانساني الذي حاول "ماركس" جاهداً التعبير عنه واستجلائه في نتاجه الفلسفي الضخم، قد أمسى في مستنقع الأنانية. "وسيلة لوجوده الفردي. انه يغرَّب عن الانسان، جسده، الطبيعة الخارجية، حياته الذهنية، وحياته الانسانية" (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية ص103).
فمفهوم ماركس الذي يتلاقى هنا، مع المبدأ الكانطي، بأن الانسان يجب ان يكون دائماً، غاية في ذاته وليس ابداً وسيلة لغاية. هذا المفهوم يتوسع لدى ماركس عبر التأكيد على ان الجوهر الانساني للانسان، يجب ان لا يصبح وسيلة للوجود الفردي. واذا كانت الانسانية في انسان لا يجوز ان تصبح وسيلة لوجوده الفردي، فكيف يمكن انزالها الى مستوى تصبح فيه وسيلة للدولة، للطبقة، او الأمة.. لا بل حتى للطائفة والعرق والمذهب والعشيرة.. الخ؟
ان التشظي والتمزق المجتمعي الذي هو نتاج منطقي لحضارة رأس المال والعولمة والنظام العالمي الجديد، يجعل الانسان بلا قيم فاغترابه يقود الى افساد القيم، ففي الدولة الرأسمالية والتي تكاد تكون كونية من خلال الحاق العالم كسياج لها، يتلبس الانفصال والاستقلال كل ميدان عن ميادين الحياة، في الجانب الاقتصادي والاخلاقي، مستقلا عن الآخر. "فكل ميدان يتركز في مجال محدد للفعالية المغرَّبة، ويكون هو ذاته، مغرَّباً عن الآخر" (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية ص146).
ان ماركس يدرك الحاجات الانسانية، التي اصبحت في اطار عالم الاغتراب، وهو تنبأ فعليا، وبوضوح مدهش بنهاية هذا التطور الذي نراه اليوم. لقد كان ماركس يعتقد ان الطبقة العاملة، هي الطبقة الأكثر إغتراباً، وبالتالي فان الانعتاق من ربق الاغتراب، يتطلب بالضرورة، تحريرها. إلا انه -ماركس- لم يستطع التنبؤ بالدرجة التي سيصبح فيها الاغتراب هو قدر الغالبية الساحقة من الناس، خصوصا، ذلك القطاع المتزايد باطراد، من المجتمع الذي يتعامل مع الرموز (دينية، اجتماعية، ثقافية،.. الخ) والبشر، باكثر من تعامله مع الآلات. (مفهوم الانسان عند ماركس- إريك فروم ص73).
ان ما حاربه ماركس ليس الآلهة كما يحلو للبعض تصوره، بل حربه الحقيقية كانت مع الاوثان. وهو بهذا التشخيص الدقيق، يضع في ايدينا مفتاحاً لفهم ظاهرة التعصب ومسارها السايكولوجي، والتي هي مما لا شك فيه نموذج في افتراق الانسان عن كينونته الانسانية، وعن ابداعه الانساني، وعن ذاته.. هي مثال لانحراف الطاقة الخلاقة للانسان عن مصبها في انجاز حضارته ودوره التاريخي ككائن ملتحم مع الطبيعة والحياة. فسيكولوجية الفرد المتعصب تتضح بكونه: فارغ، ميت، منبوذ، ولكنه من اجل التعويض عن حالة الاحباط او الجفاف والموت الداخلي، يلجأ ا?ى انتقاء الوثن. ربما يكون هذا الوثن دولة. كما في شعار الدولة الاسلامية لدى داعش او حزب، فكرة، كنيسة، او .. حتى عشيرة او طائفة. أنه اي الفرد المتعصب- يجعل هذا الوثن في صورة مطلقة، ويقوم بالخضوع له بطريقة مطلقة انه من خلال ذلك، يكسب حياته معنى، إضافة الى انه يجد متعة في الخضوع للوثن المنتقى. إلا ان متعته لاتنشأ عن بهجة التواصل المُنتج، بل أنها متعة شديدة، ولكن باردة، مبنية على الموت الداخلي، او أنها إذا اراد المرء وضعها بشكل رمزي- "الجليد الملتهب".
هذا الحريق الذي تقذفه روح الارهابي المبادرة، الميتة، والذي يحيل حياة المجموعات البشرية الى محض خراب وحطام ودم وموت، ويعيث بالنسيج المجتمعي تمزيقاً هو ترجمة لحجم الاغتراب الذي وصل اليه في حضارة رأس المال ذات الابعاد الكونية. لقد كان من الصعب على كارل ماركس، ان يتنبأ بالمدى التي أصبحت فيها الاشياء والظروف التي خلقناها، بمثابة اسياد لنا، مع ذلك فانه لا يوجد شيء يثبت نبوءته، بشكل أكثر عنفاً، من الحقيقة المتمثلة في ان الجنس البشري هو، اليوم، سجين الاسلحة النووية التي خلقها والمؤسسات السياسية التي وضعها. ان الانسان الخائف يترقب، قلقاً، من اجل ان يرى اذا كان سينجو من خطر قوة الاشياء التي أوجدها، ومن خطر السلوك الأعمى للبيروقراطيات التي عينها" (مفهوم الانسان عند ماركس، اريك فروم. ص74.
ان عملية التغريب الموجهة التي تمارسها الآن الماكنة الاعلامية الضخمة لدول الراسمال العالمي وبالاخص الولايات المتحدة الامريكية، والتي تعيد صداها وصياغتها أجهزة الاعلام العربية والاقليمية والمحلية. هو عبارة عن عملية تشويه منظمة لجوهر الصراع في بلدان الشرق من خلال احالة الصراعات المدمرة التي تشهدها وتعيشها شعوب هذه البلدان الى اسباب طائفية وعرقية ودينية ومذهبية. لا بل ان الكثير من السياسيين يعزوها الى التخلف الفكري او الجهل، او الى أي قوة نفوذ لرجال الدين، وكما يرى آخرون انها اسباب الصراع- نتاج للفروق والاختلافات الفقهية والعقائدية، كما يحاول فريق آخر ان يعزوها: الى أن انتشار بعض الطقوس والمناسك الدينية هي الأسس التي تقوم عليها الطائفية التي افضت الى التعصب ثم الصراع الطائفي فالحرب والاقتتال وانتهاء بتهديد الكيان السياسي للبلاد.
ان هذا التصور ينطلق من مفهوم ورؤية مثالية للتاريخ والعالم. فهو يعتبر الصراع الاجتماعي والسياسي نتاجاً للافكار والعقائد، وليس نتاجاً لحركة الواقع، ويعرف الصراع الطائفي على أنه اساس الصراع ومنبعه وليس انعكاساً ايديولوجيا وفكرياً لنوع من الصراع الاجتماعي ربما تلعب البنى الفكرية المتبلورة دوراً في الصراعات وتوسعها وتعمقها، ولكن في خضم ضرورات اجتماعية وأسس مادية لصراع، دون ان تكون هي اساساً ومنطلقاً للصراع.
لم تكن الحرب العالمية الثانية نتاجاً العنصرية الهتلرية والعدوانية الألمانية، بل ان العنصرية النازية نفسها كانت انعكاسا للحاجة لاثبات الذات امام الخصوم الرأسماليين، وخصوصاً غريمي المانيا الكبار فرنسا وبريطانيا اللذين يفوقانها في سعة المستعمرات وتوفر رؤوس الاموال ويسعيان كذلك لإعادة اقتسام العالم.
تنطلق العنصرية الالمانية النازية من ادعاء التفوق العرقي، أي المطالبة بنصيب من الرأسمال العالمي لا يقل عن منافسي المانيا بل يتفوق عليهما، اي الى غطاء ايديولوجي لتبرير "الحق" الناجم عن التفوق العرقي الالماني المزعوم. والذي كان مجرد تطلع امبريالي امام دولتين تستعمران أكثر بلدان العالم، وكذلك كسلاح ايديولوجي بوجه الحركة الاشتراكية في المانيا وبوجه الاتحاد السوفيتي الناهض يومها. ان نفس هذا التصور ينطبق على الصراع الطائفي بدرجة او بأخرى. حيث ان العديد من الاديان والمذاهب تنتهي الى القول: ان العالم قد خُلق لأجل ?رقتهم هم بالذات، وأنهم الشعب المختار او المتفوق عرقيا او الأنقى والأرفع درجة.. الخ. وبالتالي فان الأمر في نهاية المطاف يتعلق بالسيطرة على الثروة والسلطة، وليس بالمناسك والشعائر والطقوس.
وان معظم النزاعات الطائفية في العراق قد وقعت حصرا في المراحل التي لم يكن فيها العراق دولة، اي كان تحت الغزو الاجنبي (عثماني، صفوي) او في حالة تفكك سياسي كما هو الان، ولم يقع الصراع يوماً نتيجة لمناسبة دينية مُختلف عليها او لمناسك غير متفق عليها، فهذه الخلافات ممكن ان تعيش مئات السنين وتبقى محل نقاش واجتهاد، وليست مبررا يدعو للحرب والنزاع. ان التشيع او التدين هو ليس الصراع الطائفي او النزاع المسلح المباشر، لكن التسنن والتشيع هما، شأن الصراع الطائفي نفسه ينهلان من مصادر تاريخية واجتماعية، وليسا نتاجاً لاقولات واحاديث مجموعة من الفقهاء. "ان المقولات والمفاهيم تتطور بتطور حركة المعرفة في الزمان، وتنوع النظم الفلسفية، وتكتسي مضامين اغنى، واشد تعقيداً، وتشابكاً، تقابل غنى وتعقد وتشابك الظاهرات التي تعكسها هذه المفاهيم والمقولات كلاً او جزءاً." (فالح عبدالجبار: المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب).
ان ما يجري اليوم من تكريس وفرض لمذهب كقالب سياسي للمجتمع، يعني امكان التعبئة القسرية العامة من جانب، وحجب الفروق الاجتماعية بيد الجماعات التاريخية من جانب آخر، وسد الطريق على نشوء وتبلور التيارات السياسية، وحصر التطور السياسي في الاطار الذي حددته القوى السائدة. ان بعض القوى السياسية في العراق او المتنفذة، تعمد الى استخدام نفس تلك الوسائل السياسية التي استخدمها الحكام قبل قرون. ان النظر الى الطائفية (كعنصر يسلخ الانسان من فضائه الانساني الاشمل) كمعطى نهائي مصنوع خارج حركة التاريخ، اي في اذهاب الطائفيين الذين يزجونه في المجتمع، هو تصور خاطئ، ولكنه سائد كذلك، او على الأقل واسع، وبالتالي فالاستنتاجات التي تُبنى على هذا التصور لن تقود الى أجوبة للمعضلة.
ان الخطوة الأهم هي التعرف الدقيق على الاوضاع الحية، المعاشة للفئات الاجتماعية التي تتشكل عن مجمل حركتها الطبقات والتيارات الاجتماعية، وبالتالي معرفة الضرورات التي تقود الى تنامي وهيمنة هذا الشكل السياسي او ذاك من اشكال الوعي والتصورات. وكما قال ماركس: ان اسلوب انتاج الحياة المادية هو الذي يشترط تقدم الحياة العقلية، السياسية والاجتماعية بشكل عام. حيث انه ليس وعي الناس الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل العكس، ان الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي البشر.