ربع قرن على انهيار جدار برلين وتفكك المعسكر الإشتراكي : حدث صاخب وتبدلات عاصفة (-12)

قاسم حنون
تحلَ في خريف العام 2014 ذكرى انقضاء ربع قرن على انهيار جدار برلين،ذلك الحدث الزلزال الذي يؤشر تفكك النظم الاشتراكية السابقة وانحسار بديل آخر لنظام الإستغلال والهيمنة الطبقية لينفتح العالم على مصراعيه لآلة الغزو الإمبريالي،مدعما بستراتيجية المصالح الكونية للإستحواذ على مصادر الطاقة ومناطق النفوذ وماكنة دعائية ضخمة تروج لنهاية التاريخ وانسداد أفق الحلم الإنساني بقيام مجتمع العدالة والوفرة والازدهار الروحي، فيما لم يعد اقتصاد أواخر القرن محكوما بحواجز جغرافية أو سياسية أو قومية بل غدا كونيا شموليا غازيا لكل بقاع العالم في  عصرجديد هو عصر العولمة الرأسمالية المتوحشة
..
لقد كان الإصلاح الاقتصادي والسياسي حاجة ملحة أملتها ظروف التجربة السوفيتية التي اجتازت طريقا وعرا لإنشاء بديل آخر للرأسمالية، عبر الحصار الدولي وحرب التدخل ودعم قوى الثورة المضادة والتغيرات الدراماتيكية في قيادة الحزب البلشفي بعد وفاة لينين، لتواجه فيما بعد صعود النازية وانقسام العالم عشية الحرب العالمية الثانية والأضرار الفادحة التي تكبدها الإتحاد السوفيتي جراء انخراطه فيها،ثم الحاجة المتعاظمة لإعمار مادمرته الحرب وفي مسار متواز الدخول في مباراة شرسة بين النظامين العالميين تمثلت في سباق التسلح ودعم حركاتا لتحرر الوطني وبناء جبهة عالمية ضد الامبريالية..كان خروتشوف يزعم أن الاتحاد السوفيتي سيتخطى أمريكا في انتاج الغذاء وفي نظام الرعاية الاجتماعية بحلول العام 1980، إلا إن متطلبات النهوض بالاقتصاد السوفيتي واللحاق بالاقتصادات الغربية كانت من الجسامة والتعقيد تبهظ كاهل البلاد فأدى ذلك الى تخلفها على المستوى العلمي والانتاجي ولم يتم استثمار امكانات العلم والتقنية في تطوير قوى الانتاج وتحسين طرائقه وتنوعه أو توجيه الاقتصاد لتأمين الحاجات الاستهلاكية المتنامية، كان الاقتصاد يعاني في السبعينات من ثقل الب وانعدام الكفاءة والهدر على نطاق هائل والعجز عن تطبيق تقنيات جديدة والسوق السوداء والفساد..في المؤتمر العام للحزب الشيوعي 1981 أشار بريجنيف الى (انهيار في المعايير الأخلاقية وازدياد حالات الطلاق والإدمان على الكحول وتفاقم الجريمة وغياب الحافز بين العمال ولا مبالاة الب والطلب الاستهلاكي المحبط فضلا عن اغتراب الشباب)...ولقد أنجز الحزب الشيوعي العراقي إحدى الوثائق النظرية الهامة في تحليل انهيار النموذج الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي على نحو خاص بعنوان (خيارنا الاشتراكي)، فالحكمة تقتضي اعادة الاعتبار للمعرفة العلمية على حساب الخطاب الأيدلوجي بقصد اجراء مراجعة تاريخية نقدية وانجاز قطيعة ابستمولوجية مع النسق الدوغمائي الذي تحولت بموجبه الماركسية الى اديولوجيا دولة ففقدت روحها النقدية وطاقتها الخلاقة وقدرتها على التحليل واجتراح فضاءات جديدة، إذ لم تستطع مراكز البحث والمعاهد المتخصصة في الدول الاشتراكية السابقة أن تقدم تجديدات في العلوم الاجتماعية فنشأت فجوة بين الواقع المتغير والأدوات المعرفية. كان السوفييت يدركون أنهم متخلفون بزهاء جيلين عن الغرب في ميدان التكنولوجيا (رغم الطفرة العلمية التي أنجزوها في أواخر الخمسينات باطلاق سب?تنك) فضلا عن أساليب العمل المتخلفة المترتبة على بنية الاقتصاد الأوامري، ولم يعد الاتحاد السوفيتي قادرا على منافسة الغرب في سباق التسلح واستثمار منجزات العلم والتقنية في التغلب على المشاكل وتحسين طريقة الحياة، وفيما بدأت المحاولات الاصلاحية في عهد خروتشيف إلا أن ما يميزها أن النخبة آنذاك كانت تؤمن بتفوق النظام السوفيتي والاشتراكية في السجال مع الغرب دون أن تسعى للإستفادة من آليات النهوض الاقتصادي للغرب بعد الحرب الكونية الثانية بينما انصرفت للتركيز على مثالب الستالينية،حتى اذا انتهت تلك الاصلاحات الى الفشل وتراكم كثير من الأخطاء، كان الوقت قد مضى بعيدا في تآكل النموذج السوفيتي وخرابه التدريجي..أما الجماعة الاصلاحية التي تولت الأمر في منتصف الثمانينات بقيادة غورباتشوف فقد كانت تعتقد أن المشكلة هي وجود ب رافضة للإصلاحات ومغرقة بالامتيازات...

اعادة البناء والعلنية

صدر كتاب (البيروسترويكا والغلاسنوست) لمؤلفه ميخائيل غورباتشوف وترجم الى العربية في وقت مبكر، وأهم مايتسم به - رغم البروباغندا التي رافقته - بؤسه النظري ومعالجاته التبسيطية وعلو نبرته الديماغوجية وهو زاخر بالمداهنات للأيدلوجبا البرجوازية والترويج لأزمة الاشتراكية وأرجحية اقتصاد السوق، كان غورباتشوف يتحدث أول الأمر بلغة لينين ثم بمعارضة ماركس بلينين ثم بلغة مفتقرة الى أدوات نظرية،وأخيرا صرح بلغة مجردة مفضوحة النوايا بأنه إذا لم تتكلل اصلاحاته بالنجاح فإنه سيجرب خيارا آخر وهذا ما كان فعلا، ومن هنا مبعث تبنيه خطابا يقوم على أولوية القيم الانسانية وتخطي مفهوم الطبقات والصراع الطبقي ونفي وجود خلاف بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة،خطابا يقترب كثيرا بتقدير مراقبين من لغة ورؤى المحافل الماسونية خاصة عندما يقترح الحاجة الى (حكومة عالمية) تقوم بفض المنازعات بين الدول والجماعات الانسانية، وفي سياق ذلك تم التخلي عن الوجود السوفيتي في أوربا وأفغانستان وجنوب شرق آسيا وغيرها، وليس بعيدا عن هذا، الميل المتصاعد لتبخيس الاشتراكية بالتركيز على مساوئ الحقبة الستالينية ونشر وقائعها بما يشبه الفضائح لغرض الإساءة للاشتراكية اجمالا وليس تنزيها لها، وصل الأمر الى حد الانتقاص من تراث لينين وثورة اكتوبر ومنجزات الثقافة والعلم السوفيتيين وجدارة النظام السوفيتي في مقارعة النازية وصولا الى التراث العقلاني والنقدي الروسي في القرن التاسع عشر.. وهكذا أوصلت تلك المحاولة الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الى شفير الهاوية؛
ليتقدم بعد ذلك منظرو الغرب وخبراؤه الاقتصاديون بترسيمة للانتقال من الاقتصاد المركزي المخطط الى اقتصاد السوق، قوامها الفوضى والنهب والعلاج بالصدمة والرأسمالية المافيوية سيطرت في ظلها فئة من الرأسماليين الجدد على ثروات البلاد وتحويلها الى البنوك الغربية ويتحول الأثرياء الروس الى ظاهرة (مسلية)في لندن وباريس والمدن الأمريكية وجزر الهاواي والكناري...خلال سنتين فقط جنى أحد القادة الروس ثروة قدرت بأكثر من ثلاثة مليارات دولار. لقد كانت ظروف انهيار النظام الاشتراكي ومارافقها من سيناريوهات وتداعيات من أبرز التحولات الجيوسياسية والثقافية في النصف الثاني من القرن العشرين بما يضعف الاعتقاد بنشوء بديل اجتماعي وسياسي للرأسمالية وهو ماعبرت عنه أفكار منظري الرأسمالية في التسعينات وتحول بعض فصائل اليساروقياداته الى مواقع (الوسطية والاعتدال) وقد صار مألوفا أن بعضا من أعداء الشيوعية ومناصري اليمين والليبراليين الجدد هم من الشيوعيين السابقين،وقدمت روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة أمثلة (باهرة) على هذا الإرتداد المجلل بالعار لزعامات من طراز غورباتشوف ويلتسين وياكوفيلف وتشيفارنادزة وعلييف وكثيرين غيرهم، بدا الدب الروسي في تسعينات القرن المنصرم خائر القوى منهوكا تفتك به الأزمات وتتناهبه المافيا وتتسرب من أمامه ومن خلفه ثروات البلاد بمليارات الدولارات لتستقر في مصارف الولايات المتحدة وأوربا الغربية،وقد استنفد ما في جعبته من مساومات وتنازلات،لم يدرك أن قواعد اللعبة الدولية لن تمنح المغفلين والخونة فرصة الظهور المشرف على مسرح التاريخ،فقد نظر الى مراحل التاريخ التي شهدت فيها الملكية الرأسمالية والاقتصاد الحرانحسارا في مناطق جغرافية معينة ظروفا عصيبة على إنها مراحل نشاز..ومثل ماجابهت الاشتراكية مصيرا تراجيديا استنادا الى الشروط الخاصة التجارب الاشتراكية وتاريخها المحفوف بالمخاطر والتحديات،وفي تزامن مع صعود الليبرالية الجديدة في بريطانيا والولايات الجديدة في ثمانينات القرن العشرين،تعرض نموذج دولة الرفاه الاجتماعي الى تهديد بنقض المكاسب الاجتماعية والتشكيك بجدواها وضرورتها والهجوم على النموذج لاستنفاد أغراضه كدريئة للرأسمالية في مواجهة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية.لقد كان النموذج حصيلة صراع طبقي بين القوى الاجتماعية والسياسية في بلدان معينة وهو يمثل خسارة ونصرا في آن واحد للحركة العمالية والاشتراكية،خسارة لأن دولة الرفاه تمثل اعادة تنظيم للرأسمالية ولم تكن حلا طبقيا وسطيا،ونصراً لأن هناك مزايا وجوانب اقنصادية لايمكن نكرانها تتعلق بالضمان الاجتماعي وتحسين القدرة الشرائية والحفاظ على البيئة والصحة العامة والاهتمام بالثقافة بالارتباط مع التقدم المطرد لقوى الانتاج وتأمين الدخل لعموم الشعب حتى في فترات ضعف الدورة الاقتصادية.سنتوقف قليلا في هذه الدراسة عند الخلفيات والمكونات الأساسية للسياسة التي قادت الى انهيار الاتحاد السوفيتي ومن قبله تفكك المعسكر الإشتراكي وهو مطمح ظلت القوى الإمبريالية تسعى اليه بمختلف السبل وتوفير الإمكانات الهائلة وتحقيقه لأكثر من سبعة عقود.

غورباتشوف.. الظاهرة والمسار

لا يمكن فهم ظاهرة غورباتشوف في التاريخ السوفياتي إلاّ كتلاقي شروط اجتماعية وتاريخية مع شخصية تمتلك صفات معينة لتبلور حدثاً ومساراً معينين في لحظة محددة من التاريخ هذا الأمر يعيدنا الى المقاربة الماركسية الكلاسيكية حول دور الفرد في التاريخ، فلا ينبغي المجازفة ببخس العوامل الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وخصوصية المراحل التي ميزت التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي لأكثر من سبعين عاماً، فلا يكفي للمرء أن يكون طموحاً أو محتالاً أو مناوراً من طراز ممتاز ليتسلق سلم المراتب القيادية في الحزب والدولة، ثمة سيرورات معقدة وشبكة من العلائق والأختيارات وسبل الوصول التي تشف عن تعقيد اللوحة السياسية والاجتماعية. فمنذ كان شاباً لم يجتذب يوماً اهتماماً خاصاً وجرى اختياره لكي يرسل بصفته طالباً في الحقوق من مدينته الى جامعة موسكو، لم تبدُ عليه إمارات الحماس او الجسارة او الميل الى التجديد والابتكار بل كان كغيره امتثالياً نموذجياً في التكيف مع ما هو سائد. وقد انتسب الى الحزب في ظل استئناف التطهيرات الستالينية ويبدو انه كان ماهراً في إخفاء مشاريعه ونواياه، بعد حصوله على درجته الجامعية وزواجه في جامعة لومونوسوف من استاذة الفلسفة لارسا التي ستمثل بالنسبة اليه ملهماً للتغيير والانعطاف نحو مسار مختلف، جرى إرساله الى ستافروبول ليعمل في الكومسمول ومنذ عام 1962في سن الحادية والثلاثين انتقل الى جهاز الحزب ليكون أحد المسؤولين في الزراعة بعد حصوله على شهادة ثانية في التعليم العالي هي شهادة اقتصادي في الزراعة العلمية،وقد حصل على دعم كولاكوف مسؤول الحزب في ستافربول وعضو اللجنة المركزية المقرب من تشرنينكو الذي كان مساعداً مخلصاً لبريجنيف ثم سرعان ما اصبح مسؤولاً عن الزراعة في اللجنة المركزية فعضواً فيها منذ نيسان 1971. وقد اختار?كولاكوف غورباتشوف منذ عام 1966 سكرتيراً اول للحزب في مدينة ستافروبول ومنذ عام 1970 سكرتيراً للمحافظة، وربما كان ذلك عائدا الى دوره كمنظم ومحرك لّين الجانب وكان يحلّ النزاعات من دون الكثير من المشاكل، استفاد من لقاءاته مع كل من سوسلوف وبريجنيف واندرويوف في محطة كبسلوفودسك الموجودة في دائرة مسؤوليته، بدا كما لو انه أحد رجال بريجينيف، في تشرين الثاني 1978 انتقل نهائياً الى موسكو ليحل محل كولاكوف كمسؤول عن الزراعة في اللجنة المركزية بعد الوفاة الغامضة لسلفه، يبدو ان الظروف توفر الفرصة لصعود غورباتشوف. كتب أميل?فاندرفلد أحد قادة الأممية الثانية الذي كان في القطار ذاته الذي حمل تروتسكي الى بتروغراد في أوائل آيار 1917 (حتى حدوث ثورة اكتوبر لم يكن في وسعي الأعتقاد بأن من الممكن لرجل كتروتسكي ان ينظم أي شيء او يقوده. كان يجسد بالنسبة لي المثقف الصرف الذي يمضي نصف النهار في القراءة والكتابة، ونصف الليل في النقاش قرب غلاية الشاي او في المقهى، كان يبدو كعازف بيانو بوهيمي ويتميز بنوع من العصبية غير المتحكم بها الذي يطبع نموذجاً معيناً من الفنانين، وحين جرى الاحتفال به فيما بعد كمنظم للجيش الأحمر ظننت ان تلك كانت خدعة دعا?ية... " لقد استطاع غورباتشوف عبر مواهب وقابليات معينة التكيف والاستجابة لقواعد عمل وسلوك الب السوفيتية وقد اجتاز امتحاناً حاسماً خلال ازمتين خاصتين الأولى حين ابدى الجهاز الحزبي معارضته للتغيرات التي ادخلها خروتشوف وقد ساندها غورباتشوف في ستافروبول ولكنه دعم انقلاب سوسلوف  بريجنيف وهو ما اوصله الى اللجنة المركزية، والثانية حين فشلت طريقة الاستخدام الكثيف للجرارات التي أدخلها في زراعة حقول محافظته، لم يتمسك برأيه بل انحنى امام قرارات اللجنة المركزية ونفذ التعليمات الصادرة اليه من اعلى، هكذا ظهر غورباتشوف عند منعطف سلسلة من التحولات والديناميات الجارية في المجتمع السوفيتي وهي تحولات موضوعية مستقلة الى حد بعيد عن ارادته. لقد نشأ في عائلة وصفها مراقبون غربيون كجزء من الطبقة الوسطى الجديدة فهو شخص مختلف عن خروتشوف او بريجنيف او اندريوف ناهيكم عن قادة ثورة اكتوبر : لينين، سفردلوف، تروتسكي، ستالين، بوخارين.... الخ الذين ينحدرون من طبقات رأسمالية او ما قبل رأسمالية، كان جده موظفاً متوسطاً في قيادة كولخوز ووالده موظفا متوسطاً يقود جراراً وزوجته التي كان والدها صحفيا واقتصاديا، متخصصة في الفلسفة وعلم الاجتماع وتعمل ا?نته طبيبة أما هو فقد درس الحقوق ثم الاقتصاد الزراعي ولم يعرف في سني حياته نضالاً بروليتارياً او ثورة او حرباً أهلية او حرباً عالمية، انه ممثل لجيل الشيوعيين ما بعد الستالينية، وهو جيل متحرر من أعباء الماضي بما فيها ذكريات الحرب الوطنية العظمى، جيل مدفوع الى نزع الطابع المأساوي عن المشكلات، جيل مستقر في مواقفه، ولديه ميل تكنوقراطي في معالجة الأمور ومتأثر بصعود وسائل الأعلام الجديدة ولاسيما التلفزيون، وقد عززت سفرات غورباتشوف الى الخارج قناعته بأنه يجب إحداث تغيير لتجسيرالهوة بين الشرق والغرب ، وقد تجلى ذلك ?ي ممارسته السلطة اذ سوف يصبح خبيراً في العلاقات العامة، والشخصية التلفزيونية الأولى بين قادة الأتحاد السوفيتي. جيل غورباتشوف ينظر بازدراء الى الحقبة الستالينية، انه يكره تطهيراتها وفظاظاتها التعسفية والتكاليف الهائلة لنجاحاتها، وهو جيل يشعر بالحنين الخفي الى التغيير وان كان لا يجهر بذلك ومع ذلك لا ينبغي القول ان غورباتشوف يمثل الجناح التكنوقراطي التحديثي في جهاز الحزب والدولة فثمة انقسامات اخرى داخل المكونات السبعة لبيروقراطية : ب المنشآت، ب الجيش، ب K.G.B، الأجهزة الثقافية، بيرقراطية المنظمات الجماهيرية (?لنقابات،الكوسمول،اتحاد النساء..) ب الحزب، لقد كان الجهاز البوليسي مستقلاً عن جهاز الحزب في فترات التطهير الستالينية (1934، 1935، 1941، 1948) و خاضعاً لأشراف ستالين، كذلك كان استقلال الجهاز العسكري شبه معدوم وهذا ما تسبب في الانتكاسات والهزائم العسكرية الكبرى، ولكن فيما بعد استعاد الجيش استقلالاً متزايداً بقيادة جوكوف بلغ ذروته في شبه انقلاب عام 1945 استطاع عبره مالنكوف وخروتشوف الإطاحة في مدى عدة ساعات بيريا وأسوأ جلاوزة الـ (ك، جي، بي) بعد وفاة ستالين، وقد جرى اختيار اندروبوف وغورباتشوف كسكرتيرين عامين لأ?ه كانت هناك أكثرية من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية من انصار التغيير بعد نهاية عهد الجمود في ظل بريجينيف وليس لأن التكنوقراطيين فرضوا هذا الاختيار على السياسيين والأيديولوجيين و حظي هذا الإختيار بدعم سوسلوف كبير منظري الحزب او ممثل الأرثوذكسية المسيطرة. وهذا ما يتطابق مع المصالح العامة للبلاد في ظرف محدد دقيق إلآ ان رؤى وتطلعات اندريوف وردود افعاله تختلف  رغم قصر مدة تولية الزعامة  عن غورباتشوف في تعاطيه مع الأصلاح السياسي والأداري والعلاقة مع الغرب ومعالجة الاختلالات البنيوية في الاقتصاد السوفيتي والظواهر السائدة، ويبرز بعض المحللين بين العوامل الموضوعية التي تدفع نحو التغيير عملية التمدين الجارية في الاتحاد السوفيتي فقد كانت نسبة السكان في المدن 49بالمائة عام 1960 و 58بالمائة عام 1970 و 77بالمائة عام 1975 فضلآ عن ظهور انظمة علمية جديدة مثل التحقيقات السوسيولوجية ووسائل استطلاع الرأي العام والمنجزات في علم السياسة والمدارس النقدية والفكرية الحديثة وغيرها.
لقد نفذ القلق حيال تباطؤ النمو وتراجع معدلاته والتفكك البطيء للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية وخطر تضاؤل مكانة الاتحاد السوفيتي في مباراته مع الغرب الرأسمالي، نفذ القلق الى وعي النخبة السوفيتية مع ملاحظة وجود تراجع واضح في رقابة الحزب والدولة على المجتمع والدولة مما أتاح انبعاث رأي عام مستقل متحرر من الأوهام والأيديولوجيا السائدة وكان هناك خوف من تغيير في الأسفل يحفز على القيام بمبادرات واصلاحات عملية لتجاوز الركود. حتى بدت عملية الأصلاح وكأنها تتبع سياقاً ديالكتيكياً ثلاثياً. ضغط من الأسفل يحفّز المبادرات من فوق، مبادرات من فوق لتوسيع الحراك في الأسفل، حركات من تحت تسببت بالتمايز والأفعال المتناقضة في الأعلى. لقد افضت المبادرات غير المدروسة الى عجز متزايد لدى جهاز الحزب والدولة عن معرفة الوضع والتطور الاجتماعيين والتنبؤ بمسار التغييرات، ولا تشذ عن ذلك الـ (K.G.B ) رغم استنادها الى شبكة ضخمة من الخبراء والجواسيس.

في قمة السلطة

ارتقى غورباتشوف قيادة الحزب والدولة في ختــــــام متتابعة الموت التي حاقت بالزعماء السوفيت واحدا بعد الآخر في النصف الأول من الثمانينات، هو اذن خريف الب السوفيتية وزمن حصادها المر. ولعل ذلك جاء في ظل مفارقة تتمثل بصعوده عبر الـk.G.B أو بمساعدة مباشرة منها كما الأمر مع اندروبوف بما يشير الى تحالف بين التكنوقراط والمخابرات بمواجهة الحرس القديم. ان الظروف التي انتخب فيها امينا عاما حال وفاة تشييرنينكو تؤكد تدخل الـ k.G.B ، كان هناك مرشحان مضادان محتملان داخل المكتب السياسي هما رومانوف زعيم الحزب في لينينغراد الذي يمثل الى حد ما المؤسسة العسكرية الصناعية، وفيكتور غريشين زعيم الحزب في موسكو، وسرعان ما احبط ترشيح رومانوف بعد أن سرت اشاعات حول أدمان الرجل وفساده، وعشية اجتماع المكتب السياسي لانتخاب الأمين العام الجديد جرى تسليم اعضاء المكتب السياسي ملفاً ضخماً حول الفساد الواسع في قمة جهاز الحزب والبلدية في موسكو كما جرى ابراز ادمان ابن فكتور فريشين، ضمن هكذا ظروف صار انتصار غورباتشوف مضموناً سلفاً. ومن المفيد الإشارة الى أن غروميكو أقدم اعضاء المكتب السياسي هو الذي اقترح ترشيح غورباتشوف مشيداً بصفاته كصاحب شخصية ورائد ولعل عبارته" لهذا الرجل اسنان فولاذية خلف ابتسامته الجذابة " تكشف موقفه وانحيازه لترشيحه،وسيرد غورباتشوف على هذا الإطراء بالسفر خارج الاتحاد السوفيتي في يوم وفاة غروميكو دون إشادة بمناقبه وخصاله، وفي إطار الحملة ضد الفساد والتبذير أقيل احد أعوان بريجينيف وهو دين محمد كوناييف السكرتير الأول لجمهورية كازاخستان وهي الجمهورية السوفيتية الثانية من حيث المساحة والسكان وقد شغل منصبه منذ بدايات الستينات وكان منذ العام 1971 عضواً في المكتب السياسي وقد حلّ محله قيادي من أصل روسي هو غينادي كوليين، وهذا ما تسبب باندلاع اضطرابات في شوارع العاصمة الما- آتا ذهب ضحيتها عدد من القتلى يتراوح بين 14- 50 شخصاً كما حدثت سلسلة من المحاكمات انتهت واحدة منها بحكم الإعدام فضلاً عن احكام أخرى بالسجن والأشغال الشاقة وما يميز هذه القضية هو عنف القمع وفي الوقت ذاته التنديد بالنزعة القومية الكازاخية عبرت عنها كلمات غورباتشوف: (لست الآن ولن أكون يوماً امري ناجي او دوبتشك الروسي).. في المؤتمر السابع والعشرين المنعقد في شباط  آذار 1986 تجلى حضور الب على حساب ممثلي العمال والفلاحين فمن أصل 88 مداخلة في المؤتمر كانت هناك ثمان فقط الى عمال يعملون بالفعل في منشأة أي اقل من 10بالمائة وفيما ورد ذكر الديمقراطية الأشتراكية في خطب المندوبين وتقرير الأمين العام الآ انها تبدو غامضة حين تدعو الى توسيع سلطة المجالس المحلية أو الى الديمقراطية المباشرة ولكن الأمر يؤول في النهاية الى تقرير سلطة الشريحة العليا من الديمقراطية او فيما يطلق عليه النوماكلاتورا، أما ملف النزاعات الأجتماعية للطبقة العاملة السوفيتية فيبدو واضحاً عبر خطب المندوبين في المؤتمر بما فيها خطب المسؤولين الرئيسيين فهي تؤكد ان التموين بالمواد الغذائية غير منتظم وغير كاف وان الشروط السكنية غير مرضية كما هناك تغيرات خطيرة في شروط الصحة والسلامة والأمن اثناء العمل، ولا مبالاة مدراء المنشآت والقادة السياسيين المحليين حيال حاجات الجماهير ومطالبها وأشار بعض الخطباء الى انه من الشائع ان تعتبر النفقات الأجتماعية غير ذات اولوية، وفيما اشار ليغاتشيف المختص بشؤون الأيديولوجيا في المكتب السياسي الى انه يجب خلق (جو دائم من الصدق والنزاهة والحزم على صعيد المباديء الحزبية ومبدأ الحقيقة) إلآ ان المتبقين يدركون ما يتمتع به فئة من الحزبيين والبيروقراطيين من منافع مادية هائلة ازاء الفئات الأخرى من الشعب. لقد كان الفضح العلني للامتيازات المادية ملمحاً اساسياً من ملامح المداخلات العمالية في المؤتمر 27 للحزب وقد زجر غروميكو هؤلاء بعنف في مداخلته : اذا كان مبدأ النقد مبررا الآ انه ليس مسموحاً توجيه انتقادات لا أساس لها الى شيوعيين شرفاء. والحال انه تم تناول مسألة المحلات الخاصة التي يتبضع بها كبار المسؤولين وهي مفتوحة 24 ساعة في اليوم  لقد باشر غورباشوف القيام باصلاحات تدريجية ومحدودة كي لا يسبب الصدمة للحرس في الدولة والحزب وكي لا يظهر كمغامر ويتحاشى مصير خروتشوف لكن نداءاته واجراءاته تستثير الرأي العام وتزعزع الركود الذي طبع المجتمع السوفيتي ردحاً من الزمن. لقد بدأ غورباتشوف وفريقه الاصلاحي يتذبذان بين السياسة الواقعية وغير الواقعية حين تزداد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يجابهانها وهم يجدون انفسهم محشورين ازاء خيارات مستحيلة. الديمقراطية الاشتراكية ام الديمقراطية بمعناها الأعم، التعددية السياسية ام سيطرة الحزب واحتكاره قيادة الدولة والمجتمع، اصلاح البلاد ام انقاذها من الانهيار المحتوم، إنقاذ الاشتراكية ام انقاذ البلاد.. لقد حدثت سلسلة من التطورات المتعلقة في العامين الأخيرين قبل انهيار الاتحاد السوفيتي: تفجر الصراع بين القوميات الأرمن والأذريين، وصراع الأوزبكيين والأتراك، صراع القرغيزيين و الأوزبكيين - ان انبعاث الميول القومية لا تتضمن فقط تعارضاً بين قوميات وأقليات وبين الكرملين الذي تحكمه القومية الروسية العظمى، بل تنطوي على نزاعات اثنية متداخلة ومماحكات اتخذت شكل مذابح دموية... والى جانب ذلك تنامي الأتجاهات الليبرالية المناصرة لعودة الرأسمالية التي عبرت عن نفسها بشكل سافر في برامج عديدة منها برنامج الخمسمئة يوم الذي أعده شاتالين احد مستشاري غورباتشوف الذي تبنته جمهورية روسيا الأتحادية بقيادة بوريس يلتسين الذي يقوم على تحويل70بالمائة من الصناعات و90 بالمائة من تجارة المفرق الى القطاع الخاص، ثم اعقبه البرنامج الأصلاحي للخبير الأقتصادي غريغوري ايفالنسكي الذي يقال انه وضعه بالتعاون مع اساتذة في الأقتصاد من جامعة هارفارد الأمريكية، وفي خلال ذلك تنامت أفكار ودعوات عبرت عن وعي شعبي سائد تضع الأشتراكية والشيوعية والستالينية في سلة واحدة والانتقاص من تاريخ الدولة السوفيتية ورموزها.