من تاريخ الشعوب ...مفارقة سياسية / ناصر حسين

اوائل ايار عام 1945 وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها بتوقيع قادة القوات الهتلرية في 9 ايار وثيقة استسلام المانيا دون قيد او شرط ومن ثم في شهر اب استسلام اليابان بعد ضرب هيروشيما وناغازاكي من قبل الطيارين الامريكان بالقنابل الذرية.
آنذاك كانت تتواجد قوات يابانية على الارض الفيتنامية وقد صدر قرار دولي باشراف قوات صينية تستقدم الى العاصمة هانوي على انسحاب القوات اليابانية.
في تلك الايام انتفضت جماهير العاصمة هانوي واعلنت الجمهورية الديمقراطية واختير القائد هوشي مينه ليتولي رئاسة الجمهورية الوليدة.
فانتقل قادة الثوار وفي المقدمة منهم الجنرال نجوين جياب الى العاصمة هانوي ورتبوا مقر عمل واقامة الرئيس هوشي مينه الذي وصل العاصمة، قادما من مقر عمله في اعماق الريف الفيتنامي.
ومع بدء انسحاب القوات اليابانية وصلت طلائع القوات الصينية الى العاصمة هانوي واخذت تتصرف وهي في طريقها الى العاصمة وكأنها قوات احتلال. وكان وقع ذلك على الفيتناميين محزنا حقا.
وبالتزامن مع دخول القوات الصينية الى هانوي، اخذت القوات البحرية الفرنسية المتواجدة في المحيط الهادئ تقترب شيئا من المياه الاقليمية الفيتنامية قبالة العاصمة هانوي، اما في الجنوب الفيتنامي فقد بدأت بالنزول الى البر الفيتنامي واصطدمت مع قوات الثوار في المناطق التي نزلت اليها.
الجنرال نجوين جياب، يشير في مؤلفه المعنون "ايام لا تنسى" وبالتفصيل الى تلك الاوضاع المستجدة امام الثوار والشعب الفيتنامي وقد كان الرئيس "العم هو" كما كانوا يسمونه في الفيتنام وهو يستمع الى الجنرال جياب ويتشاور مع القادة الاخرين، كان يمضي الساعات الطويلة من وقته في جولات ليلية في المحلات الشعبية في العاصمة يزور بيوت المواطنين ويتحدث معهم ويستمع الى احاديثهم مشاركاً اياهم حياتهم بكل ما فيها من افراح وشجون. وقد كان الجميع متفقين على ان العدو هو القوات الفرنسية والاستعمار الفرنسي الذي ينظر الى الفيتنام على انها جزء من مستعمراتها حالها حال باقي دول الهند الصينية. ولكن كما يشير الجنرال جياب كانت في هانوي حالة خلقتها القوات الصينية عندما اخذت تتصرف وكأنها قوات احتلال واحيانا تنسق مع القوى الرجعية وغيرها ضد الوضع الجديد في فيتنام الذي اوجدته انتفاضة جماهير العاصمة هانوي، هذه الحالة كانت توجد وهما لدى البعض الذي كان ينظر للقوات الفرنسية على انها ليست العدو المباشر وليست الخطر المباشر لقد كانت وجهة نظر هذا البعض تعتبر الخطر المباشر هو القوات الصينية المتواجدة على الارض الفيتنامية وفي العاصمة هانوي قبل اي مكان آخر والتي كان تعدادها يقرب من المائتي الف جندي وضابط.
وهكذا كان الموقف الموحد من خلال التشاور بين الرئيس والجنرال واعضاء القيادة ضرورة الصبر على تصرفات القوات الصينية والسعي الى التوصل معها الى اتفاق يقضي بانسحابها من فيتنام خصوصا وان المهمة التي جاءت من اجلها قد انجزت. وقد تضافرت عدة عوامل منها الانتصارات التي كانت تحققها قوات الثوار في الصين على القوات الحكومية على ان تقدم حكومة تشان كاي جك على سحب القوات الصينية من فيتنام وبذلك اصبح العدو الوحيد الذي ينبغي ان تكرس كل الجهود لمواجهته هو قوات المستعمرين الفرنسيين والتي هزمت شر هزيمة في المعركة الشهيرة ديان بيان فو.
العم هو، الحازم في المبدأ، المرن في التكتيك كما يصفه الجنرال جياب كان وهو يتحدث مع القادة عن معاهدة الاستقلال التي وقعها في باريس في تشرين 1946 كان يؤشر الى ان لا ينسى احد ان الصدام مع الفرنسيين قادم لا محالة. ذات يوم وقع بين يدي الرئيس هوشي مينه تعميم مؤرخ في العاشر من نيسان موجه الى القادة العسكريين يطلب فيه القائد الفرنسي جمع معلومات عن اماكن سكن قادة وكوادر السلطة الفيتنامية. ناوله الى الجنرال جياب وكان الاثنان متفقين في الرأي الا ان التوصيات هذه تشير الى قرب الصدام مع الفرنسيين فما الموقف؟
الرئيس هوشي مينه الذي يمتلك المعلومات الكافية وبامكانه اتخاذ القرار المناسب، لم يسمح لنفسه اصدار اي قرار قبل استشارة الجنرال جياب وباقي القادة.
العم هو يسأل الجنرال جياب عن امكانية اهالي العاصمة على الصمود بوجه الهجمة الفرنسية اذا ما بدأت داخل العاصمة فيجيبه ربما شهر.
ويسأل عن امكانية الصمود في المدن الاخرى فيجيبه الجنرال جياب تستطيع الصمود مدة اكثر بسهولة.
وعن الريف عندما سأل اتاه الجواب القاطع "نستطيع حماية الريف بكل تأكيد" يذكر الجنرال جياب في الصفحة 380 من مؤلفه "ايام لا تنسى" ان الرئيس هوشي مينه، بعد ان سأل واستمع الى الجواب عن اسئلته، فكر ملياً لفترة ثم قال يجب ان نعود الى تان تراو، وغادروا سراً وبهدوء ليصبحوا بعيدا عن متناول يد القوات الفرنسية.
وهكذا اوصلهم التشاور فيما بينهم والاستماع الى الرأي الآخر واحترامه الى التقييم الدقيق للأمور واتخاذ الموقف المناسب وادخار القوى لمحاربة القوات الفرنسية والانتصار عليها في المعركة الشهيرة "ديان بيان فو" وطردها من فيتنام تماما مثلما فعلوا مع القوات الامريكية في فيتنام الجنوبية. إيـ.... هـ بلابوش دنيا! ألم يقل هذا الشهيد شمران الياسري "ابو كاطع" في رباعيته الشهيرة "غنم الشيوخ"!
ما من مرة عدت الى مؤلف الجنرال جياب "ايام لا تنسى" إلا وتذكرت موقف الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم في احتفال العمال العراقيين في الاول من ايار 1959 وهو يضرب بكفه على المنضدة وراداً على من طالبه "باعدام الخونة" بالقول: "ان هذا من اختصاصي انا وليس من اختصاصكم انتم" فالحق الضرر بالغطاء الزجاجي للمنضدة التي امامه وسبب جرحا لكفه بحيث شاهد الجميع في حينه قطرات الدم تتساقط منها.
وبعد بضعة اشهر عندما قرر تنفيذ احكام الاعدام ببعض من المحكومين بالاعدام ونفذت فعلا فجر يوم 20/9/1959 كانت تلك الخطوة قد فقدت اهميتها السياسية ولم تعد تخيف احدا فالرجل ادار ظهره للديمقراطية واصبح شغله الشاغل مطاردة القوى الديمقراطية في البلد بحيث دخل السجون والمعتقلات في عام واحد من اعوام حكمه التي لم تكمل الخمسة اعوام واحد وعشرون الفا من الشيوعيين والديمقراطيين العراقيين مستعينا بنفس القوى التي ناصبت الثورة العداء ومنذ اليوم الاول لانطلاقتها في الرابع عشر من تموز 1958 والتي اخذت تستفيد من الوضع الناشئ ومنذ منتصف تموز 1959 لتجميع قواها وتوحيد صفوفها تحت الشعار السيىء الصيت "يا اعداء الشيوعية اتحدوا" من اجل القفز الى قيادة السلطة في اللحظة المناسبة. ولم يكتف بذلك بل ارسل قواته عام 1961 الى ربوع كردستان لتهدم قنابل دباباتها وصواريخ طائراتها بيوت الكرد فوق رؤوسهم وهو واهم اشد الوهم بأنه في ذلك السلوك انما يحمي سلطته ووحدة الوطن والشعب العراقي واستقلاله وسيادته الوطنية. وعندما احس في النصف الثاني من عام 1962 بخطورة الوضع الذي تسببت به اخطاؤه واخذ يحاول ايجاد بعض التنفيس في الوضع كان الاوان قد فات وقد افلت زمام الامور من يده وان العد العكسي لسقوط حكمه واستلام الفاشست مقاليد السلطة قد بدأ.
فهل كان مجحفا بحقه شاعرنا الكبير عريان السيد خلف عندما خاطبه بالقول:
"منك كلها منك، طب حراميها، او لعب بيها، او خبطها او شرب صافيها"
"كلنالك تحذر ناوراك الذيب تاعيت الضواري او امنت بيها"
والان من فضلكم يا سادة، دقيقة من وقتكم دققوا في هذه التجربة في هذه المفارقة السياسية، بين ما كان سائدا في العلاقة بين الرئيس الفيتنامي وباقي رفاق القيادة وبينهم وباقي الحركة الوطنية والشعب من تشاور وتبادل رأي واحترام الرأي الآخر واية انتصارات تاريخية حققوا لشعبهم وبين تجربتنا في العراق خمسينيات القرن الماضي عندما رفض الزعيم الاستماع لوجهة نظر الآخرين واستبد برأيه متصوراً وهو واهم كل الوهم انه وحده يمتلك الحقيقة فادار ظهره للديمقراطية ونكل بالجميع وماذا جلب للشعب من اضرار جسيمة وتضحيات هائلة وضحايا عزيزة من خيرة بنات وابناء الشعب العراقي، ذلك السلوك الخاطئ والبعيد تماما عما تقتضيه مصلحة الشعب العراقي.
واعود الى ما قلته اكثر من مرة من ان الخسارة التامة هو ما يجنيه رجل الدولة عندما لا يتعظ من تجارب الآخرين فيعود في عمله السياسي والاداري الى نقطة الصفر الى المربع الاول وتجريب المجرب بدلا من الانطلاق مما وصل اليه الآخرون، وهذا ما تؤكده وتنص عليه فلسفة التاريخ يا سادة.