الشهيد سلام عادل / فتاح حمدون

كنت اسكن في الموصل مع شقيقتي المتزوجة من ابن عم والدتي كون العائلة انتقلت الى بغداد وكنت اعمل في تجارة الاقمشة. انضممت الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي عام 1952، حيث رشحت من قبل الرفيق محمد عبد اللطيف القصاب، ونلت شرف العضوية في نفس العام بفضل نشاطي وتنفيذي للمهمات الموكلة لي عندما كنت صديقاً للحزب، ومنها جلب البريد الحزبي من بغداد الى الموصل.
في عام 1954 شاركت في حملة الانتخابات البرلمانية حيث كنت ممثلا للحزب في الاتصال بمرشحي الجبهة الوطنية في الموصل ومنهم المرشح ذنون ايوب، الذي كنت انا وكيله في محلتنا (محلة خزرج) ضمن المنطقة الاولى. وقد حصل على اكثر من 80 بالمائة من الاصوات.
ومن المفارقات ان قيادة منظمتنا الحزبية في الموصل دعت الى تظاهرة لتوديع نواب الجبهة الوطنية الفائزين الى محطة القطار المتوجهة الى بغداد، وخلال تلك التظاهرة ارتفع هتاف داعياً لسقوط المجلس النيابي المزيف، في حين كان المفترض دعم الفائزين لتبني مطالبنا الوطنية.
كتبت في حينه رسالة الى اللجنة المحلية حول خطأ هذا الشعار، وكانت الخلية التي انتمي اليها مؤيدة لموقفي، وبدلا من مناقشتنا حول ذلك جاء الرد بتجميد عضويتنا في الحزب. وهذا واحد من امثلة كثيرة على سياسة المنظمة آنذاك، والتي كانت ارادوية اكثر منها واقعية.
على اثر تلك التظاهرة ونشاطنا الانتخابي زج بي مع ناشطين آخرين في موقف سجن الموصل بعد اخلاء مستشفى السجن، لابعادنا عن السجناء العاديين خشية التأثير عليهم.
وبعد محاكمتنا واطلاق سراحنا لعدم ثبوت ادلة ضدنا، حصل تغيير في سياسة الحزب، حيث اتصل بنا الرفيق حكمت كوتاني المنسب من بغداد للعمل في منظمة الموصل، واعترف بخطأ الموقف منا، كما شرح لنا السياسة الجديدة للحزب بشكل وافٍ، والتي هي سياسة واقعية وعقلانية تنبذ التطرف.
تركت الموصل الى بغداد لاني كنت مراقباً بشدة يتعذر معها القيام بنشاط حزبي، وفي بغداد ارتبطت تنظيمياً بالشهيد متي الشيخ كونه يعرفني جيدا وكان صديقاً للعائلة وجاراً لنا في الموصل. استمر ذلك لحين وصول أمر ترحيلي من الموصل الى بغداد، فارتبطت برفيق آخر وكنت ناشطاً حزبياً في الاسواق التجارية. عام 1956 طلب مني منظمي ان اسافر الى دمشق بمهمة حزبية لم يفصح لي عنها، وكل ما في الامر ان اتصل بشابة اجدها في (مطعم سقراط) بشارع بغداد في دمشق. وفعلا التقيت بها وابلغتها بكلمة السر فطلبت مني ان التقي الرفيق صفاء الحافظ بعد ان دعتني لتناول الغداء. كنت اعرف الدكتور صفاء الحافظ، فقد التقيته في المؤتمر الاول لانصار السلام وكذلك في مهرجان الشبيبة في وارشو. مساءً وحسب الموعد جاءني الدكتور صفاء الحافظ، وذهبنا سوية الى ساحة المرجة وهناك طلب مني الانتظار في الشارع، ثم عاد ومعه رفيق آخر طويل القامة يرتدي معطفاً اسود. واستقلينا نحن الثلاثة سيارة اجرة الى جبل قاسيون المطل على دمشق، وهناك في المقهى فاتحني هذا الرفيق بان الحزب يروم طبع الجريدة في دمشق وتهريبها الى العراق عن طريق القامشلي، وسألني عن مدى استعدادي للقيام بهذه المهمة، وطلب مني عدم الرد الا بعد قراءة قصة الانصار خلال الحرب العالمية الثانية لكاتبها الشيوعي فيدروف.
وفعلا اشتريت القصة وقرأتها ثم التقيت معه في نفس المقهى في اليوم التالي وقلت له انني لا اصلح لهذه المهمة بعد اليوم، فقد سبق وان قمت بمبادرة مني شخصياً وموافقة كل من الرفيقين ابو سعيد وصفاء الحافظ، بتهريب هدايا وألبومات حصلنا عليها من الوفود المشاركة في مهرجان الشبيبة والطلبة العالمي في وارشو. وعلى اثرها شددت الرقابة عليّ من قبل الامن بعدما تناقل المهربون الخبر حتى اصبح على كل لسان.
وذكرت له اني استطيع مساعدة رفيق آخر ينسبه الحزب لهذه المهمة، لكنه رفض وطلب مني تنفيذ مهمة اخرى تتمثل بلقاء رفيق آخر يعرّفه بي الرفيق صفاء الحافظ.
جاءني ذلك الرفيق مع الدكتور صفاء الحافظ، وجلب معه غالوناً من زيت الزيتون وقال ان داخل الغالون كلايش للجريدة، كما اعطاني قصة لـ آرسين لوبين مكتوب بين سطورها رسالة بالحبر السري وطلب مني شراء كتابين او ثلاثة آخرى لاخذها معي للتمويه على ان اوصلها للحزب في بغداد.
خلال تلك السفرة ولدى تجوالي في شارع بغداد التقيت بـ خلوق امين زكي ومعه شخص آخر. سألني الثاني فيما اذا بامكاني اخذ قاط (بدلة) الى بغداد لتسليمها الى القاضي كمال عمر نظمي الذي اعرفه كوننا اجتمعنا في داره في المؤتمر الاول لانصار السلام، فأجبت بالايجاب علما باني لم اسأل عن كل من التقيت بهم وكلفني بمهمة. رجعت الى بغداد بطريق البر وسلمت الغالون والقصة الى مسؤولي الحزبي كما اتصلت هاتفياً بالرفيق كمال عمر نظمي وكنت اسكن قريباً من داره، فجاءني وسألني من اعطاك هذه البدلة قلت له لم اسأل من هو فطلب مني وصف ذلك الشخص وعندما وصفته قال صار معلوم.
اثناء وجودي في التوقيف كما اسلفت تعرفت على البرزانيين صادق وعبد الله وتوطدت علاقة خاصة مع صادق، حيث كنت الاحظ فيه سعة الافق والكاريزما القيادية. وخلال الزيارات العائلية للسجن كنت ارى مسعود بينهم وكان حينئذ طفلاً.
اطلق سراح البرزانيين من قبل وزير الداخلية سعيد قزاز وابعدوا الى بغداد وسكنوا شارع الضباط قريباً من مسكني، فكنت ازورهم وازودهم بنشريات الحزب. وبعد ثورة تموز 1958 طلبوا مني ترتيب لقاء مع قيادة الحزب للتنسيق حول استقبال الملا مصطفى البرزاني. اخبرت منظمي برغبة البرزانيين للقاء احد قياديي الحزب فدلني على مكتب الرفيق عامر عبد الله في شارع المستنصر مقابل دائرة الاستيراد والتصدير. عند وصولي ودخولي المكتب واجهني الرفيق الذي التقيته في دمشق مع الدكتور صفاء الحافظ وعرفت حينها انه هو الرفيق سلام عادل، وكان حاضراً الرفيق جمال الحيدري. طرحت عليهم رغبة البرزانيين، فقال الرفيق سلام عادل: ادعوهم لدارك على الغداء وسوف يحضر الرفيق جمال الحيدري للتباحث معهم. وفعلاً دعوتهم الى داري وحضر الرفيق الحيدري مع رفيق آخر وتم الاتفاق حول التفاصيل ثم تناولوا الغذاء وانصرفوا.
استمرت علاقتي بالرفيق سلام عادل بعد ان انتقلت من الاعظمية الى عرصات الهندية وكان يتردد للقاء بعض الرفاق من المحافظات في داري بالتنسيق مع الرفيق نافع يونس. وكان آخر لقاء لي بالرفيق سلام عادل في نهاية عام 1962 في اجتماع لجنة بغداد الموسع، الذي عقد في داري في عرصات بحوشي وحضره اعضاء اللجنة. وكان قسم منهم يأتي مساء، ويقضي الليل عندنا، والقسم الآخر يأتي في اليوم التالي. وبعد حضور جميع الرفاق جاء الرفيق سلام عادل ومعه الرفيق عصام القاضي والرفيق هادي قاسم الاعظمي الذي كان مسؤول اللجنة. بدأ الاجتماع بطلب من للرفيق سلام عادل للحاضرين ان يدلوا بما يدور في خواطرهم حول الاوضاع وسياسة الحزب.
كان اول المتكلمين الشهيد الدكتور محمد الجلبي وكان صريحاً جداً في ما طرحه من انتقاد لسياسة الحزب، وقال بالحرف الواحد: " لا نعرف الى اين نحن ذاهبون". بعدها تكلم الرفيق الشهيد متي الشيخ وكان جريئاً ايضاً، ثم تناول الحديث الرفاق الآخرون، وبعد ان انتهى الجميع بدأ الرفيق سلام عادل يشرح لنا الخط الجديد للحزب، مشيراً الى وجود خلافات في المكتب السياسي، كنا لا نعرفها لكنه لم يفصح عنها، الى ان انكشف الامر بالقرارات التي اتخذت بابعاد عدد من الرفاق في المكتب السياسي. وخلال هذا الاجتماع كلف الرفيق عصام القاضي بقيادة لجنة بغداد وبإشراف سلام عادل مباشرة ونقل الرفيق هادي هاشم الى قيادة المنظمة العمالية.
في ليلة انقلاب شباط المشؤوم كنا في اجتماع للجنة تنظيم بغداد وعلمنا خلال الاجتماع بوجود حركة انقلابية وفعلاً من الصباح سمعت بالانقلاب، وكان اقرب دار لي هو دار الرفيق عدنان عبد القادر مسؤول لجنة الرصافة، ذهبت اليه وخرجت الى الشارع فالتقينا بالرفيق الدكتور حسين الوردي الذي كان عضواً في لجنة بغداد كذلك. طلبت من الرفيق عدنان ان ندعو الجماهير للتوجه الى مراكز الشرطة لاخذ سلاحها للمقاومة لكن لم يستجب احد للنداء. وفي هذه الاثناء جاء احد الرفاق من لجنة الكرادة ليخبر الرفيق حسين بوجود اسلحة في داره فذهبنا مع رفيقين آخرين الى داره واخرجنا الاسلحة من مخبئها وكان قسم منها تالفاً لسوء الخزن. تركنا التالف في داري وعدنا بالصالح منها الى مكان التظاهرة فوجدنا الرفاق قد انسحبوا الى عكد الكرد. سلمتهم الاسلحة وبقيت معهم اقاتل بسلاحي الشخصي وهو مسدس، وبالرغم من محدودية سلاحنا إلا ان الرفاق قاتلوا بشجاعة لمدة يومين وقتل في حينه اثنان منهم احدهما من الموصل والثاني كان جرحه بليغاً فتوفي بعد حين.
كان يقود المقاومة من احدى الشقق السكنية الشهيد العبلي، وبعد استشهاد الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه وسيطرة الانقلابيين على وزارة الدفاع، دعي الى اجتماع في احد الدور في عكد الكرد للاعضاء المتقدمين من اللجان المحلية ولجان الاختصاص، وطرح علينا الرفيق العبلي الذي كان متماسكاً جدا كعهدنا به، شجاعاً، حقيقة ان الوضع ليس كما نتمنى ولم تستنهض قوانا في الجيش فما الحل؟ كان ديمقراطياً في قراره، فصار الاتفاق ان ننسحب وقد خسرنا معركة لكن امامنا معارك اخرى. وفعلا انسحبنا وقد غطى انسحابنا بعض الرفاق من سكنة المنطقة.
طوال فترة وجودي في عكد الكرد كنت انزف جراء قرحة في الاثني عشري، وانا في هذه الحالة كنت افكر بطريقة للوصول الى البيت فقررت الذهاب عن طريق شارع الشيخ عمر ثم السدة واواصل السير الى عرصات بحوشي. مشيت ثم صعدت السدة وبدأ الظلام يخيم على المنطقة واذا بعريف ينادي عليّ بالتوقف ورفع يدي الى الاعلى، استجبت له فسألني الى اين ذاهب؟ قلت: سمعت بالثورة وانا بالاعظمية والآن اريد الوصول الى داري. كان مع العريف شرطي قال للعريف لنأخذه ونوقفه اجابه العريف كلا. اردت مواصلة السير على السدة غير انهما طلبا مني النزول الى جهة الطريق، وهناك شاهدت شباباً متجمهرين عند بائع الشاي فسألتهم كيف الوصول الى العرصات اجابوني اي عرصات فالدبابات تحتل السدة كلها، قلت ما الحل؟ قال احدهم تفضل معنا، مشى امامي الشباب وانا اتبعهم الى ان وصلنا صريفة طلبوا من ساكنها ويظهر انه قريب لهم ان يستضيفني تلك الليلة فرحب الرجل بي ولم يسألني اي شيء حتى عن اسمي عارفاً انني من المعادين للانقلاب.
فرش لي على الارض وسألني ان كنت قد تعشيت فاجبته نعم، كان يلومنا ويلوم عبد الكريم قاسم للحال التي وصلنا اليها. وقد عرفت من حديثه انه كان يعمل فراشاً في دار المعلمين العالية. كان متزوجاً حديثاً وعليه فقد قطع الصريفة بحاجز لانام. في الصباح جاءني بالفطور قيمر وخبز حار وشاي وجاء البعض من الصرائف القريبة ليستطلعوا عن هذا الضيف الغريب. وعندما طلبت منهم ارشادي للطريق الذي يوصلني الى السدة، قالوا ابق معنا لان السدة مراقبة من قبل الحرس القومي، الا اني رفضت وشكرتهم على حسن ضيافتهم وفعلا اصطحبني اثنان منهم الى الطريق الذي يوصلني الى السدة ثم طلبت منهما العودة. صعدت الى السدة وهناك اوقفني الحرس القومي وسألوني اين قضيت ليلتك فقد كان واضحاً اني لست من المنطقة قلت انا صاحب معمل، سمعت بقرار إلزام الموظفين والعمال العودة الى عملهم فجئت لأخبر العمال بالقرار، يبدو انهم اقتنعوا بما ادعيته فقال احدهم نحن لسنا كالمقاومة الشعبية فاذهب في طريقك.
وهكذا استقليت اول سيارة اجرة صادفتني الى البيت، لتبدأ رحلة جديدة، ارجو ان اتمكن من العودة اليها مستقبلاً.