نشيج في حضرة الشهداء*

مشتاق عبد الهادي
رحيلكم اكبر منا بنصف صلاة، لأنكم ببساطة الشجعان دوما شامخون
انتم من غرس في الأرض موتكم (هلاهلَ) واحمرارا ...
شيوعيون
غفوتم على الجمر وانتصبتم على قسوة الشفرات
(احمريون) نتناوب مع الشمس في زوالها مشاعلا وشموعا،
رمادنا جمر فمن أي الحريقين ستهرب يا.. جلاد ؟
ألتقيكم سادتي في حضرة الشهداء، لذلك سأتلو عليكم وجعي ... يا من أبى ذكركم وترابكم إلا أن يقول لي كن ...فكنت..
سأخالف القواعدَ كلها واختصر حدائق الشهداء وارزمها بباقة ألوان واحدة تشبه الجميع، قد اسميها (دهش علوان دهش).
ذاك المشاكس في عين أم ترفض بداءتها فكرة أن يموت..
كيف تموت ولم تغرس على خدها دمعة...؟
كيف تموت ولم تدوِ في ليل بهرز الفقير صرخة...؟
أم كيف تموت والموت في عمق بداءتها يعني:
جثة تشبهك وكذلك تابوت..
الكون فضاء تلقفته راحتاك منذ أن عرفت لماذا يعبئ الله بأجساد الضحايا مياه حمرا،
انه الدم يا صديقي..
الدم الذي وجدك في عمق زنزانة اكبر منه فقرر أن يكون أنت،
أنت الدم فكيف لي أن لا أتهجاك.. ؟ كيف لي أن لا أتحداك ...؟
أتحداك ولكن ... بماذا أتحداك ...؟
أتحداك بموت كنت قد أكرمته قبلي...؟
أو لماذا أتحداك ...؟
فأنا فقير بكلمات الحق وأنت غنيّ بحبال الموت..
أنت العنيد الذي قذفه رحم الوجع في غفلة من بساتين بهرز عام 1949.. أب وأم وثلاثة أولاد وخمس فتيات.. هذا محيط الحنان الذي لم تشأ الأقدار أن تكون منهم ...
أتراهم شنقوك..؟ هكذا يشهد الأمن بمراكزه الحقيرة،
ولكن كيف شنقت، وهم واجهوك بحبال اضعف من إصرارهم البليد...؟
تعبت منك وأنت بموتك أقوى من تعبي..
لذلك... عليّ أن أشهر بوجه من حاربوك تعبي
يا أيها الراحل عبر أطنان الظلام
غروبك أنبل من شروقهم
وليلك أنقى من صباحهم
وكذلك ... تاريخك اشرف من حاضرهم..
كثيرا ما كان يغيب عن منزله الفقير، فإما أن تكون غيبته بسبب الدراسة أو حتى برغبة في تنفس عبق البساتين، ذلك ما كان يجعله مندفعا نحو هاوية الحسم حالما يخبره الجيران بارتباكهم القروي أن مفارز الأمن قد طرقت بابكم.. يقلب كل معايير الاختباء حين يقتحم مقر الأمن بجبهة تستظل بسمرة الشجاعة ويقول لهم:
ـ ها أنا ذا ...
واحسرتاه
قد عذبوك وعذبتهم
أو شنقوك من خوف ومن اللاخوف شنقتهم
تستفز جرأته هذه سوط الجلاد، فيدخلونه إلى حفلة تعذيب تتفاوت في عنفها ما بين ثقيلة أو خفيفة، يخرج من تلك الحفلة محملا بالكدمات التي أبكت عيون المضمد الذي غالبا ما كان يلطم وجهه حين يعجز في البحث عن مكان يغرز فيه الحقنة التي قد تخفف ألم الالتهاب والكدمات، كل تلك السلالم كان يرتقيها ويصبو نحو أرجوحة الأبطال...
علقيها ... إنها منذ آه وألفِ دمعة تتأرجح أمامه
هذه الموبوءة بالموت
هذه التي استفزت كلَّ رقاب الأنبياء
علقيها واجعليها عطوفة على ثمالتي
اجعليها نصف آه في وطن مزقته الأقاويل و(البساطيل)
عرفته هكذا بين مُتخفٍ في خانقين أو متنقل بين دهاليز مطبعة (طريق الشعب)، تحركاته أتعبت النظام الدكتاتوري... وفي لحظة الغفلة التي أسستها روح الضعف التي تشي بكل شيء.. طالته يد النظام في بغداد ونفذ فيه حكم الإعدام عام 1981 .. لذلك ...
يا صديقي اللدود
سأطوي بتلك الدمعة الضالة أوراقا قرأتها وقرأتني
ستجدني عليك أكثر من ليمونة تحتضر
لأنك ببساطة الأنبياء تعلن: انك لا تعترف بالحاكم أو المحكمة..
إنها وحق أمك العفيفة مهزلة..
إنها حقا مهزلة..
شُنق فانفلق من حبال مشانقهم دربٌ امتد في عمق القرية الغافية على جناح خريسان، درب نضال طويل التحق به الشهداء: قيس الرحبي، حسب الله كريم آل يحيى، نجاح مهدي، فيصل خماس، فاروق الدبش، والأخوات كوثر ورجاء، وغيرهم في الحقبة الأولى... لتلتقي جميع أرواحهم على قنطرة عصافير الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي، والتحق بهم في حقبة أخرى: أبو يسار ومؤيد سامي وأبو ولاء وياسين أبو ظفار.
والى يومنا هذا، مازال ذلك الدرب الذي انفلقت منه أرواح الشهداء يمعن فينا ثورةً وشموخا ويفضح الطاغية والجلاد حين يصرخ:
لا خلاص ... هذه الدائرة محيط ينث فراغا
اترك الشكوى والشكوك
شمري عنك ربيع الدماء
وتعالي لنطرز بالدموع:
(وطن حر وشعب سعيد)
بيت خرب وفقر يزيد
حبّ وافر وقبلة عيد
نزهة حرب وقصف شديد
موت لامع وقبر جديد
سجن شامخ وقيد فريد
عسل مرّ ودرب بعيد
(وطن حر وشعب سعيد)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كلمة عوائل الشهداء قدمتها عائلة الشهيد البطل دهش علوان دهش من مدينة بهرز المناضلة في محافظة ديالى والقاها الشاعر والقاص مشتاق عبد الهادي