العلمانية هل هي خطيئة؟ دعوة للحوار، تأليف د. موسى محمد آل طويرش / سلام السوداني

صدر للاستاذ الدكتور موسى محمد آل طويرش/ استاذ التاريخ في الجامعة المستنصرية- العلوم السياسية كتاب بعنوان " العلمانية هل هي خطيئة؟ دعوة للحوار". من القطع المتوسط في 132 صفحة في ستة فصول هي: تحديد المفاهيم والمصطلحات والتطور التاريخي للعلمانية، الموقف من العلمانية، والنظرة المحايدة للعلمانية (العلمانية المؤمنة)، والخطوات اللازمة لتطبيق العلمانية، والمجتمع العراقي وادارته، واثار الكتاب جدلا واسعا بين المثقفين حول العلمانية والتي اطلق عليها الباحث "العلمانية المؤمنة".
انه كتاب قيم يسلط الضوء على مفهوم العلمانية بشكل جريء وواضح حيث اشار الى ان العلمانية هي فصل الدين عن الدولة. وهذا خطأ اذ انه لا يمكن باية حال من الاحوال فصل الدين عن اي شيء في حياة الانسان والصحيح ان يكون الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية رموزها ومظاهرها كافة، اذ ان مصطلح العلمانية هنا يميز الدين بوصفه المعنى الشائع وقيما سامية، كما بيّن الدين بوصفه مظاهر ورموزاً وسلطات. ولقد ظهر مفهوم العلمانية في اول الامر لمواجهة هيمنة الكنيسة على الواقع السياسي والاجتماعي في اوربا. وجاءت كلمة علماني اي خلاف الكهنوتي والعلمانيون هم الذين يحكمون العقل ويراعون المصلحة الوطنية من دون التقيد بنصوص او طقوس دينية. ووفقاً لهذا الطرح، فالعلمانية اشتقاق من العلمية اي استخدام التخطيط والمنطق العقلي في ادارة السلطة بعيدا عن اي تأثير روحي او ديني، على اعتبار ان القوانين التي وضعت لادارة الدولة الحديثة نابعة من الحاجة الدنيوية للافراد وقد خضعت هذه القوانين إلى التحليل والتجريب والتطور خلال حقب زمنية متعاقبة افضت الى ايجاد معايير مشتركة مقبولة من الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية او القومية. وهذه المعايير هي القوانين التي تمثل مقياسا للعدالة، وهناك رأي آخر يشير الى ان العلمانية تعني الشمول، انطلاقا من ان السياسة التي تنظر الى المجتمع بكليته لا بجزئياته، وبالتالي فان نظرتها واحدة لكل المجتمع بعيدا عن تقسيماته الدينية او الاثنية وخصوصياته المتفرعة، ونظر آخرون الى العلمانية بانها خيار تتبناه الانظمة السياسية يستند الى قناعة بان الدولة ليست ملكا لفئة مهما كبرت دون اخرى وانما لجميع رعايا الدولة من دون تمييز لاصولهم وانتماءاتهم. واشار الكاتب: لقد استخدم الدين كمحور اساس في الحياة السياسية والاجتماعية لاوربا، وباسمه ارتكبت ابشع الجرائم ضد الانسانية فضلا عن ذلك اتسمت هذه المرحلة بالصراعات والتخلف وتراجع الفكر وانهيار القيم وذلك كله بفعل تسلط رجال الدين والكنيسة، اذ منعت الكنيسة اي نوع من التفكير العلمي والمنطقي الذي اعتبرته تهديدا او تحديا لنفوذها وطروحاتها القائمة على الادعاء والخرافة والتخويف بالمقدسات، لذا فقد كانت تعاقب بقسوة بالغة كل من يحاول الخروج على سلطة الكنيسة وتعاليمها وتصل العقوبة احيانا كثيرة الى الحرق، وظهرت افكار علمانية مقرونة بالفعل اي انها استندت الى حركة تدعو الى احترام الانسان وحريته وكرامته والحد من سلطة رجال الدين التي عرقلت نمو الابداع الانساني، وكان من ابرز من طرح افكاره وبدأ اعلانها وتطبيقها عمليا مارتن لوثر (1483- 1546). فقد كان في الاصل قساً تمرد على سلطة الكنيسة وتعاليمها واستنكر اي نوع من العنف ضد الناس ودعا إلى الابتعاد عن الطقوس الدينية غير المجدية ووجد ان الغفران لا يأتي عن طريق الكنيسة او رجال الدين لانه هبة من الله تؤخذ بشكل مباشر. تعزز مبدأ العلمانية في التاريخ الحديث عندما اصبحت قانونا واجب التطبيق في عدد من الدساتير في دول العالم على شاكلة الدستور الفرنسي لعام 1795 والدستور الفرنسي لعام 1905 والذي اكد على منع اي تحديد لممارسة العبادة وان الدولة لا تتبنى اي دين وانما راعية لكل الاديان، كما اشار المؤلف (عند رجوعنا الى منابع الفكر العلماني في المنطقة العربية نجده بدأ على يد رجال دين مسلمين، والغريب انهم عاشوا في مرحلة مختلفة عن مرحلتنا من حيث التطوير العلمي والتقني، مثل المعتزلة، حيث اشاروا الى ان القياس العقلي وحده هو الاساس في الحكم ومن ابرز من تحدث في فكر المعتزلة هو الامام الغزالي وقد حاكى هذا التوجه افكار رجل دين بارز في القرن التاسع عشر الا وهو محمد عبده. وينطلق محمد عبده في وصفه الواقع السياسي والاجتماعي للدول الاسلامية اذ يرى ان لا سلطة دينية على الفرد الا إيمانه النابع من العقل والاقتناع، وفي ضوء ذلك يهاجم الاستبداد السياسي والفكري. ورأى محمد عبده (ضرورة النأي بالدين عن السياسة وفصله عنها لانقاذ ثابته من تقلباتها الدنيوية الضرورية، والامر ذاته ذهب اليه عبد الرحمن الكواكبي الذي رفض الاستبداد أياً كان مصدره او مظهره دينيا كان ام سياسياً، اذ يشير الى ان الحاكم والساسة الذين يحاولون الخلط بين الدين والسياسة يريدون الدين بقصد تمكين سلطتهم على بسطاء الامة وان موقعهم هذا لا اصل له في الاسلام، كما يشير ايضا في كتابه "طبائع الاستبداد" الى اهمية اسقاط الفروق الدينية والخلافات المذهبية وان ابناء المجتمع تجمع بينهم روابط موحدة مهمة كاللغة والوطن والتاريخ والمصالح، وهذا كله خلق نوعا من عدم الثقة الدينية لكل ما هو سياسي لدى الفرد العربي وان تلبس بلباس ديني، هذا فضلا عن تمكن مثقفي الامة من محاولة الفصل بين ما هو ديني وحقيقي يمارسه المجتمع البسيط المتوافق مع القرآن والسنة وبين ما هو سياسي قد يتوافق او يخرج عنهما وهو الاغلب. لذا فاننا نرى ان كثيرا من قادة الفكر التحديثي في الوطن العربي هم اصلا رجال دين كالافغاني وعبده والكواكبي والحبوبي ومحمد رضا الشبيبي وفي الكتاب اشارة الى نشوء انظمة في العصر الحديث في الوطن العربي غير واضحة المعالم حاولت المزج بين ما هو ديني وما هو علماني بما يتوافق مع مصلحة النظام السياسي، الا انها عانت ازمات حادة، فعلى الرغم مثلا من ان النظام السياسي في مصر هو علماني الطابع الا ان الرئيس السابق انور السادات حاول استخدام الدين والجماعات الدينية المتشددة وغيرهم كسلاح لمواجهة معارضيه من الشيوعيين والقوميين، الا انه اكتشف خطورة ذلك فغير سياسته في اتجاه معاكس. وهذا الامر ينطبق على انظمة سياسية عدة. واشار الى (العلمانية المؤمنة) اي انها الادارة السياسية التي تلتزم بروح الدين وقيمه من دون ان تتبنى نصوصه وطقوسه، وبمعنى آخر هي الاسلوب العلماني في ادارة الدولة والذي يعتمد المهنية السياسية والالتزام بالقوانين الوضعية بعيدا عن سلطة وتأثير رجال الدين او عدم تبني عقيدة دينية معينة دون اخرى مع حرص السياسيين على التمسك بالقيم والاخلاق السامية التي يمثلها الدين كالصدق والامانة والوطنية والنزاهة والحرص على اداء الواجب، فضلا عن احترام جميع الاديان ورعايتها انطلاقا ليس فقط من اداء الواجب وانما ايضا من كون السياسي هو اصلا ابن المجتمع وان المنطق العلماني يشير الى ان السياسة هي مهنة حالها حال اية مهنة اخرى تتطلب حرفية وخبرة واساليب عمل ودراسة فضلا عن اجادة فن ادارة الدولة وهي الادارة الملتزمة بتوفير الخدمات والاشراف على عمل الدولة وتطبيق القانون وتوفير الحماية الامنية الداخلية والخارجية للمجتمع فضلا عن ادارة الخطط الاقتصادية اللازمة لرفاهية المجتمع وتطبيق العدالة فيه. ويشير الكاتب الى علاقة ما هو سياسي بما هو ديني تأخذنا الى عنصر مهم الا وهو ان رجل السياسة في محاولته الوصول الى اهدافه يحتاج الى اساليب مختلفة فهو قد يدعي او يراوغ او يستخدم القسوة احيانا الامر الذي يتقاطع تماما مع طبيعة رجل الدين الذي يتسم بلباسه المحدد واسلوب تعامله مع الناس وطريقة اداء واجباته. ورجل الدين عندما يتعاطى مع الاساليب السياسية المذكورة فانه يقع في اشكالية حقيقية عندها سوف يتنازل عن كثير من صفات رجل الدين الصرفة كالحياد بين مختلف القوى السياسية التي يتكون منها المجتمع والابتعاد عن النقد والتجريح لاسباب سياسية وكذلك الابتعاد عن استخدام العنف فضلا عن ذلك كله مهمة رجل الدين الاساسية في الوعظ والارشاد والنصح.
ان المبادئ العلمانية تضمن عدم ممارسة الضغط والاكراه في تبني فكرة او عقيدة في ممارسة طقوس محددة للافراد، انطلاقا من ان فكرة الاكراه والضغط في هذه المواضيع، وفي اتجاهات حياتية شخصية بحتة، قد تجبر الافراد على الالتزام بها وبالافكار والاساليب التي تتبناها الدولة ولكنه سيكون التزاما رائفا وغير حقيقي وغير نابع من القناعة، وان العلمانية ستكون السبيل المهم في ظهور الابداع الفكري والثقافي لانها سترفع القيود الدينية والطائفية والتخويف والترهيب عن ذهن الفرد. ومن ركائز النظام العلماني هو تحقيق الاندماج الاجتماعي والذي يعني العمل على تكوين شعور مشترك بين افراد المجتمع وترسيخ مفهوم الوطنية وان دور العبادة لها الحرية الكاملة في الادارة العلمانية بالعمل ضمن الاطار الوطني البعيد عن التشنج او الاثارة الطائفية او تكفير الآخر، وانما تستخدم دور العبادة لنشر المبادئ السمحاء للديانات وتوجيه الناس للالتزام بروح الدين وقيمه السامية والتحفيز على الوحدة وترسيخ المشاعر الوطنية والحث على العمل والخير والصدق وغيرها من القيم السامية التي تزهو فيها كل الديانات بعيدا عن اجترار الحوادث التاريخية التي في اكثرها تهويل ودس مآرب ومن اهم اهدافها الفرقة والضعف والتنازع.
واختتم بأن المؤسسات التعليمية الدينية الحرية الكاملة لتأسيس المدارس والجامعات الدينية التي تعمل على دراسة الخصوصيات الفكرية والفقهية وفق اجواء من الحرية الكاملة المكفولة للجميع لطرح افكارهم والدخول في حوارات عملية بناءة من اجل تعميق وادامة وتطوير طروحات كل المكونات الدينية والمذهبية. اما التعليم المدني في الدولة العلمانية فهو مهني تماما ويتحرك باطار علمي تربوي صرف لانه يمثل البذرة الاولى التي تنمي الابداع وتزرع قيم الفكر والثقافة، فضلا عن تحريك مكامن المواهب الانسانية وخلق مناخ من الحرية الفكرية والابداعية ضمن خطط علمية مدروسة تمثل السبيل الامثل للتعليم الناجح بعيدا عن اية اطر محددة قد تلغي الآخر وتهمشه.
الكتاب جدير بالدراسة والتتبع لما يحتويه من آراء وافكار جريئة حاول المؤلف اعلانها بكل وضوح.