في "الثقافة الجديدة": آراء في اصلاح الاجهزة القضائية في العراق / د . صفاء الحافظ

الحزب الشيوعي العراقي
مركز الإتصالات الإعلامية ( ماتع )
لقد اعارت الحركة التقدمية في العراق، خلال تطورها المستقل، اهتماما كافيا لمعالجة العديد من القضايا العامة في بلادنا، ومن البديهي ان ينصب جل اهتمامها على بلورة برامج واضحة في المجالين السياسي والاقتصادي، ولكنها مع ذلك حاولت صياغة برامج أولية في حقول التربية والتعليم والثقافة... الخ الا ان من المؤسف لم يحظ جهاز القضاء باهتمام الكتاب التقدميين المعنيين رغم كونه من المرافق الحساسة ذات الصلة المباشرة بحريات وحقوق المواطنين، سيما وانه تم تدمير النظام الاقطاعي وامتداد سلطة القضاء الى بعض المناطق الريفية التي كانت تخضع سابقا الى العرف العشائري – الاقطاعي.
ان القضاء وهو اداة المشرع، ملزم بتطبيق القانون، والقانون، كما هو معروف، يعكس ارادة الطبقات التي تمسك بزمام السلطة. فالقاعدة القانونية إذن تصوغ العلاقات القانونية الاجتماعية طبقا لمصالح معينة, فهي كلمة الحاكمين بما تعكسه من اوضاع اقتصادية، وما تمليه من قيم، وما تنشئه من مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية، ومؤسسة القضاء هي احدى التي ينشئها القانون ويلزمها باحترام احكامه، لكن الجوهر الطبقي للقاعدة القانونية لا يمنع الجماهير الشعبية (سيما في فترات توازن القوى) من الكفاح من اجل احترام مبدأ المشروعية وتقييد سلطة الادارة ومنعها من العبث بحقوق المواطنين دون احترام لقيود قانونية موضوعية، والشعب عندما يتمسك بالمشروعية، لا يكف في الوقت نفسه، عن النضال من اجدل تغيير القوانين الفاسدة، ذات المحتوى الطبقي الرجعي، واستبدالها بقوانين تقدمية جديدة، ان الدفاع عن (مبدأ المشروعية) يعد، بحد ذاته، منطلقا نحو خطوات تشريعية تقدمية، ويشكل في الوقت نفسه حدا ادنى من الضمان الضروري.
ان مبدأ المشروعية يعني مراقبة ممارسة الحكم في حدود القواعد القانونية المعلنة، وطبقا لها، ومراقبة الافعال في ضوء الاحكام القانونية القائمة، وضمان ان هذه الاحكام تتحول فعلا الى واقع مادي.
ولا شك ان تطبيق القوانين الفاسدة، التي تحمي مصالح الاقلية المستغِلة، امر ضار، وقد يرى البعض ان خرق هذه القوانين يكون احيانا في صالح الاكثرية، لكن التجارب اثبتت ان القاعدة الفاسدة يجب ان تلغى لا ان تخرق، وان تعطيل اية قاعدة، بغير الالغاء او الاستبدال، يفضي الى محاذير مؤكدة، لان ذلك يؤدي الى انقطاع العلاقة بين العمل والقول، أو بين النظرية والتطبيق، أو بين القاعدة القانونية والنشاط العام، وهذا يمس مبدأ المشروعية في الصميم ويفتح المجال واسعا للطبقات الحاكمة لتستفيد من خرق القواعد القانونية، في مجالات معينة، للعبث بالمشروعية باستمرار.
ان الفصل بين القاعدة والفعل قد يؤدي في ظرف معين الى مكاسب للشعب، ولكنه اسلوب لا يكفل الاستمرار، ويفتح السبيل امام محاذير كثيرة، وتجربتنا منذ ثورة 14 تموز 1958 تؤيد ما نقول.
ان محاولة الغاء القوانين الرجعية لا يتم الا عبر معارك سياسية تتطلب كفاحا تشنه الجماهير، ولكن هذا الكفاح نفسه هو ضمان انتصار الإلغاء، وهو الذي يحمي القانون الجديد الذي يصبح مستقرا في ضمير الجماعة.
1. القضاء، كما معلوم يشمل الجهاز المكلف بمراقبة المشروعية، فالقضاء والمشروعية من مكتسبات الكفاح الثوري عبر قرون عديدة، وانه نتيجة العمل الجماهيري الذي تبلور في اوربا خلال القرن التاسع عشر بما يسمى (حقوق الانسان)، ولكن الصراع الاجتماعي اظهر في ما بعد ان هذه المكتسبات لم تحقق أمل الانسانية المنشودة في التحرر الكامل، وان الامر يتطلب اعادة بناء الحياة الاقتصادية نفسها، باعتبارها الأساس، بما يحقق المساواة الفعلية ويقضي على تسلط الطبقات المالكة على الشعب ويسقط دولتها، وقد دل ذلك لا على فساد المكتسبات السابقة، بل على عدم كفايتها، لذا فالامر يستدعي لا التفريط بالقضاء والمشروعية وحقوق الانسان وانما يتطلب تأكيدها على نحو واقعي، وبناءها على اسس مادية اكثر ثباتا وكفالة لحقوق الانسان.

وبهذا المعنى ينبغي النظر الى القضاء، كأي ظاهرة أخرى، نظرة متعددة الجوانب تشمل الظروف التاريخية المحددة والاطار الاقتصادي والسياسي للنظام القائم، وعلاقات القوى والطبقات المتصارعة في المجتمع. والملاحظ ان الكفاح الثوري يحاول ان يستفيد من امكانيات الشرعية القائمة، وان يستنفذ كل خيرها لمصلحته، ويسعى الى توسيعها بزيادة نفوذه على السلطة التشريعية في البلاد، ولكن ذلك يصل الى حدود يظهر بعدها استحالة اتساع النظام القائم لاكثر منها وعندئذ يتولد الانفجار والتحول الثوري نحو نظام جديد.
والملاحظ ايضا ان الصراع الاجتماعي يعبر عن نفسه في كافة مجالات النشاط وميادينه، وداخل كافة المؤسسات سيما ما يتصل بالرأي العام، بحكم طبيعة بنائه ووظيفته وجهاز القضاء، باعتباره رقيبا على الشرعية، وباعتباره تنظيما علنيا منفتحا على الرأي العام، يصبح من اهم ميادين الصراع المشروع، من اجل الحقوق المعترف بها، ومن اجل تحديد سلطات الحاكمة، وهذه هي احدى وظائفه الاجتماعية الهامة التي ينبغي الحرص على سلامة ممارستها على احسن وجه ممكن.
ان القوى الثورية تقوم باستنفاذ اساليب الصراع المشروع خلال المؤسسات القائمة، والقضاء احد ميادين الكفاح، حتى تصبح القطيعة حاسمة مع القوى الرجعية، عندما يتحول القضاء الى ترسانة لهذه القوى، يدافع عن نظامها المهدد بالسقوط باعتباره يمثل احد اركان سلطانها.
لقد استفادت الحركة الوطنية في العراق من الامكانات الشرعية المتوفرة إبان الحكم الملكي، واستخدمت القضاء في مناسبات عديدة منبرا لفضح الاجراءات التعسفية واللامشروعية الرجعية، وعبأت القوى الشعبية خلف شعاراتها الصائبة حتى تم اسقاط النظام الاستعماري شبه الاقطاعي، وخلال تلك الحقبة دافع عدد لا بأس به من الحكام عن مبدأ المشروعية واصدر قرارات قضائية كان لها صداها الحسن، ليس فقط في الوسط القضائي بل في الوسط الشعبي بصورة خاصة، صحيح ان الجهاز القضائي آنذاك كان وليد النظام القائم، وان بعض الحكام خنعوا للسلطة التنفيذية الى حد الاسفاف إلا ان القضاء العراقي سجل بعض المآثر، التي اضيفت الى رصيد الحركة الوطنية والتقدمية.
2 - قلنا ان الحركة التقدمية تنظر الى القضاء – رغم كونه اداة قسر بيد الطبقة الحاكمة، نظرة واقعية، وترى فيه الاداة الضرورية لضمان احترام مبدأ المشروعية، لكن الاجهزة القضائية - من ناحية التكتيك القانوني – قد تختلف عن متطلبات مرحلة معينة وتصبح عبئا على جميع المواطنين، وعبئا ثقيلا على الطبقات الفقيرة بصورة خاصة، ففي عصر التكنولوجيا والذرة وغزو الفضاء وبعد ان اصبحت الحياة سريعة، يقف القضاء بتنظيماته واساليبه العتيقة الموروثة في بعضها من العهد العثماني، عاجزة عن مسايرة التقدم، فاذا كان الصاروخ يلف الارض كلها خلال 80 دقيقة، والحاسبة الالكترونية تنجز عمل وزارة كاملة كوزارة المالية خلال ساعة عوضا من شهر فكيف يستسيغ الناس بقاء دعوى لا يبت فيها القضاء الجنائي باقل من عام والقضاء المدني خلال اعوام؟
الحياة سريعة والقضاء بطيء بل بطيء جدا، دون مبرر مقبول سوى التمسك باجهزة واساليب وعادات كانت مقبولة في نظام اقطاعي - او رأسمالي متخلف – ان عزوف المتنازعين عن مراجعة المحاكم له ما يبرره، فهم غالبا ما يلجأون الى المصالحة او ترك حقوقهم مهدورة دون مراجعة القضاء، مخافة التورط في اجراءات متعبة وباهظة، ولعل من الصحيح القول ان البطيء في اجراءات التقاضي يقف الى الجانب الاقوى، والايسر من المتخاصمين، لان بامكان الغني والميسور ان يجد دونما ارهاق من يتوكل عنه دون ان تنقطع سبل العيش والحياة أمامه، بينما تكون سرعة البت في النزاع من مصلحة الفقير المكدود، لينصرف الى تدبير لقمته ومتطلبات عيشه.
3 – ظاهرتان تبرزان في الانظمة السياسية المتخلفة:
أ – ضعف ثقة الجمهور بالقضاء.
ب – خرق الادارة لبعض المبادئ القانونية الاساسية.
ج – وتبرز ظاهرة ثالثة مؤسفة وخطيرة وهي ان الحصول على الاستقلال السياسي قد يقترن بزيادة تدخل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء والتجاوز على صلاحياته. لقد أثّرت هذه الظاهرة على رجال العدالة ولا سيما الحكام منهم، ودفعت بعضهم الى الانكماش ومحاولة التملص من المسؤولية.
ان الاصلاح المنشود يجب ان يشمل الاجهزة القضائية بأنواعها، ويشمل ايضا الاساليب او الاجراءات القضائية (ناهيك عن اصلاح التشريع ذاته لأنه اساس التقدم ومنطقه)، فالمواطن بحاجة الى العدالة، والعدالة بحاجة الى ادوات ضامنة.
ان الحاجة الى العدالة ينظر اليها من جانبين: من جانب الافراد، ومن جانب السلطة، فالعدالة بالنسبة للسلطة العامة هي التوفيق بين احترام حقوق المواطنين وبين تطبيق القواعد القانونية التي اقرها المشرّع والدولة، والدولة تودع هذه المهمة الى احد اجهزتها (المحاكم) ولكنها عندما تودع هذه المهمة الى المحاكم لا تقف مكتوفة اليدين، بل تقوم بممارسة الرقابة العليا على اجهزة القضاء للتأكد من قيامه بواجباته على احسن وجه.
وهنا يُطرح السؤال الآتي: ما هي حدود هذه الرقابة؟ ان محتوى الجواب يتوقف على طبيعة النظام السياسي القائم - ديمقراطي ام استبدادي - والواقع يبرز مفاهيم عديدة بهذا الصدد:
أ – المفهوم الاول يقول ان القضاء اداة بيد رئيس الدولة (ذلكم هو مفهوم ديغول للقضاء).
ب – المفهوم الثاني يقول انه مرفق عام، ولكنه مرفق ذو صفة خاصة (والفقهاء يختلفون في تفصيل ذلك والنظرية الاشتراكية أميل الى هذا المفهوم).
ج – والمفهوم الثالث يقول ان القضاء سلطة ثالثة موازية للسلطتين التشريعية والتنفيذية، (وهذا مبدأ مونتسكيو الشائع في الديمقراطيات الرأسمالية الليبرالية).
د – مفهوم رابع - بل سلوك معين – يقول باستقلال القضاء، ولكنه في الواقع يقيم اجهزة اخرى تمارس (القضاء) خارج نطاق القضاء العادي والاستثنائي، بل خارج الدولة نفسها.
قلنا ان العدالة ضرورية للدولة وضرورية للفرد: ضرورية الدولة للحفاظ على وجودها والحفاظ على مبادئها الأساسية وضرورية للفرد، للحفاظ على حقوقه ضد تجاوزات الآخرين وتجاوزات الادارة ذاتها.
والقضاء بالنسبة للفرد يجب ان يكون اداة مضمونة وسهلة:
(1) اداة مضمونة – بمعنى ان تهيئ الدولة للمواطنين حكاما وقضاة اكفاء ومستقلين قادرين على الوقوف امام العديد من الضغوط: ضغوط السلطة السياسية، ضغوط القوى الاجتماعية، ضغوط التقاليد البالية ....الخ. ويلعب التكوين النفسي والاجتماعي والايديولوجي للحاكم دورا هاما في هذا المجال كما سنرى بعد قليل.
(2) اداة سهلة – فالمواطن يخشى رفع الشكوى او تسجيل الدعوى، واذا ما اردنا ان يكون تدخل القضاء في الخصومات من الظواهر الاعتيادية الميسرة للمواطن – الذي لا يجد امامه سوى القضاء حلا لمشكلته فيجب ان يكون القضاء من الظواهر اليومية مثل ظاهرة القانون ذاتها، ان الواقع المر يدل على ان المواطن غالبا ما يرى امامه جبلا شاهقا عليه اجتيازه قبل الوصول الى (العدالة).
وعلى ضوء هذه المقدمة العامة سنقوم بعرض بعض الملاحظات والآراء حول القضاء والأجهزة القضائية في العراق. وسوف نقسم البحث الى قسمين: الاول – التنظيم القضائي، ثانيا – اشخاص القضاة، وسنحاول تبسيط البحث ليكون في متناول جميع المثقفين دون الدخول في التفاصيل القانونية التكنيكية التي لها مجالها الخاص.
اولا – التنظيم القضائي
ان التنظيم القضائي الراهن في العراق، الذي يمتد بجذوره الى عهد الاحتلال البريطاني، لم يعد يلائم تطورات المجتمع القضائي وضرورة بناء دولة تقدمية. ولا شك ان المقدرة على اعادة تنظيم القضاء واجراء تغييرات في بنيته واجراءاته ستساعد كثيرا على ضمان العدالة وتيسر مراجعة المواطنين للمحاكم ولأجهزة القضاء الاخرى.
لقد تمت خلال السنوات التي اعقبت ثورة 1958 بعض الاصلاحات التشريعية من جوانب معينة من القضاء، إلا انها اصلاحات لم تخرج عن اطار الفلسفة الفردية القديمة، لقد اكتفت الدولة بإجراء تعديلات (تكتيكية) في بعض مواد القوانين القديمة دون المساس بجوهر التنظيم القضائي وأساليب اعداد الحكام والقضاة والمحامين والموظفين.
من المعلوم ان قانون اصول المحاكمات المدنية وقانون اصول المرافعات الجزائية، في جوهرهما مستمدان من القانونين الفرنسيين اللذين يرجعان في اصولهما الى سنة 1808، هذان القانونان يتعرضان حاليا الى نقد شديد حتى في فرنسا ذاتها.
ان الاصلاحات التي اجريت على هذين القانونين في العراق هي اصلاحات جزئية وتفصيلية، بينما تستلزم ضرورات العصر الحديث اعادة النظر فيهما جذريا، بما يتفق والحياة الاجتماعية والاقتصادية الجديدة وظهور امكانات تكنيكية حديثة، ان اساليب التحقيق البدائية والبطيئة في مجال الجريمة تعرقل ليس فقط الكشف عن المجرم الحقيقي بل تؤدي الى تأخير البت في الدعوى بحيث يفوت الأثر الاجتماعي للعقاب، وفي حقل الدعاوى المدنية تطول الاجراءات وتتضخم الاضبارات وينفق الوقت وتتبدد الاموال.. الخ، في وقت يقدم العلم والتكنولوجيا وسائل حديثة مذهلة تعجل في الاجراءات ويسر ضبط كل نأمة تقال وكل وثيقة تقدم، فلماذا تملى على كاتب الضبط ببطء ممل ودون اختزال اقوال المتخاصمين في وقت تسجل فيه المسجلات اقل صدى؟ الحاكم يغوص في اوراق الدعوى، وبين النصوص التشريعية التي اصابها التعديل مرات عديدة، بينما تيسر له الاجهزة الالكترونية استخدام الاجهزة والأساليب الحديثة، وكان علينا ان نخطط للمستقبل، ان نشرع فورا بالإصلاح على وفق ظروفنا الخاصة وحسب امكاناتنا ودرجة تطورها في مجتمعنا، صحيح ان ما هو مطروح في الظرف الراهن، ليس احداث ثورة في القضاء بل اصلاح الاجهزة القضائية وتبديل الادوات والاساليب البالية المتبعة لديه، ولكن لا بد من برنامج اصلاحي يباشر تنفيذه منذ الآن.
اننا سنحاول في الصفحات الآتية تقديم بعض الاراء والملاحظات المتفرقة كمساهمة متواضعة واولية ببدء النقاش حول اصلاح الاجهزة القضائية في العراق، إننا لا نقدم برنامجا متكاملا بل نقاطا من الممكن اعادة النظر فيها وتعديلها عبر حوار حر ومفتوح:
1 – مجلس القضاء الاعلى
عندما أسس مجلس القضاء الأعلى في فرنسا 1946 كان الهدف منه اقامة جسر يوصل السلطات السياسية بالمحاكم، تحقيقا للانسجام بين نشاط اجهزة الدولة المختلفة، دون خرق لمبدأ استقلال القضاء, لقد كان المجلس مكونا آنذاك من (12) عضوا يختارهم القضاء والكتل البرلمانية، وقيل في حينه ان مستقبل القضاء الفرنسي مودع بيد هذا المجلس، لقد كان مسؤولا عن ترقيات وترفيع وانضباط ...الخ القضاة في فرنسا، وكان مسؤولا عن حفظ استقلال القضاء وصيانة اعضائه، لقد وقف مجلس القضاء الأعلى مواقف مشرفة بوجه السلطة التنفيذية ولكن التشريعات التي صدرت في عهد ديغول عام 1958 مسخت حياة المجلس وحرمته من كيانه المستقل. لقد اصبح اعضاؤه معينين من قبل السلطة التنفيذية، وخفضت صلاحياته الى الحد الادنى بحيث امسى المجلس صدى للقرارات التي تتخذ في مكاتب رئاسة الجمهورية او في وزارة العدل، وهذا ما دفع العديد من السياسيين والفقهاء الفرنسيين الى المطالبة بالعودة الى نظام عام 1946، يوم كانت الحكومة تضم جميع القوى التقدمية في فرنسا.
صحيح ان مجلس القضاء جزء من الدولة، ويرتبط بوزير العدل ورئيس الجمهورية، ولكن رئيس الجمهورية هنا (يسود ولا يحكم)، وقد قيل في فرنسا، توضيحا للأمر، ان رئيس مجلس القضاء الأعلى شخصية (مستمرة)، بينما وزير العدل شخصية (عابرة)، لذا يجب على السلطة التنفيذية ان تحترم آراء المجلس وقراراته، وقيل ايضا ان من الخطأ معارضة المجلس الأعلى للقضاء بوزير العدل، ووزير العدل بالمجلس الأعلى للقضاء، لأن لكل منهما له اختصاصاته ووظائفه.
في العراق قدمت اقتراحات عديدة لاصلاح مجلس القضاء الاعلى, منها ما يمس عضويته, ومنها ما يمس اختصاصاته. لقد اقترح بعض الزملاء مثلا تشكيل مجلس القضاء الاعلى من رئيس الجمهورية رئيسا، ووزير العدل نائبا للرئيس، ومن اعضاء هم: رئيس محكمة التمييز ونوابه ورئيس هيئة التفتيش العدلي ورئيس ديوان التدوين القانوني ونقيب المحامين ووكيل وزير العدل ورؤساء محاكم الاستئناف والمدعي العام، ومن بعض الحكام الذين يختارهم المجلس نفسه، كما اقترحوا ان يمنح المجلس الاختصاصات الآتية:
اولا – مراقبة استقلال القضاء وضمان سيادة القانون وتنفيذ مقررات واحكام المحاكم من قبل الدوائر.
ثانيا – وضع الخطوط العامة لرفع مستوى القضاء والعاملين فيه.
ثالثا – مراقبة تنفيذ ما سيتقرر الأخذ به في قضايا اختيار الحكام وإعدادهم والإشراف والمراقبة على المحاكم، ونقل الحكام وترفيعهم، وتعيين الحكام في المراكز القضائية الرئيسية.
رابعا – تثبيت ملاكات المحاكم من الحكام.
خامسا – رسم الخطوط العامة لكل ما له علاقة بالقضاء على ضوء سياسة الدولة العليا.
سادسا – تقييم ما تم انجازه من اعمال خلال المدة السابقة لاجتماعه.
سابعا – احداث او تشكيل محاكم جديدة.
وفي رأينا انه لعل من المناسب تشكيل شعبتين في مجلس القضاء الاعلى؛ احداهما تقوم بدور توجيهي لسياسة القضاء، والثانية تنظر في جميع مشاكل العدل التنظيمية.
ان من الضروري تحاشي قيام نوع من (الاقطاعيات) داخل المجلس؛ فالعضوية مؤقتة ولا تجدد فورا، ولا بد من ادخال دم جديد شاب في مجلس القضاء الاعلى، على الدولة ألا تتدخل في شؤون المجلس بصورة مباشرة، ويستطيع وزير العدل باعتباره رئيسا للمجلس حضور جلساته لعكس وجهات نظر الحكومة وآرائه الشخصية.
ان مجلس القضاء الاعلى ليس مكانا للتشريف الاجتماعي، يجلس فيه فقط الحكام القدامى الذين حكموا القضاء مدة طويلة، انه بحاجة الى عناصر شابة ذات مفاهيم اجتماعية وسياسية وقانونية اشتراكية، لذا ليس من الصحيح تحديد العضوية بعمر او بدرجة معينة، ومن اجل كسب خبرة بعض الحكام القدامى يكون بالامكان ترشيح اعضاء فخريين يمدون المجلس بآرائهم ونصائحهم.
ان مهمة مجلس القضاء الأعلى الاساسية هي اعطاء فكرة اكبر للعدالة، ورفع مكانتها في المجتمع واقامة علاقات سليمة بين المؤسسات القضائية والمؤسسات السياسية في الدولة العراقية، صحيح ان التبدلات السياسية الفجائية في العراق أثرت كثيرا على قيام هذا المجلس بمهامه، لكن آن الاوان لتثبيت اسس متينة تحترمها جميع الاطراف السياسية، لأن تحقيق العدالة وسيادة القانون من صالح كل المواطنين وكل الاحزاب والكتل السياسية.
تنظيم المحاكم
اصول المحاكمات والمرافعات - لم تعد الطرق والاساليب والاجراءات الحالية المطبقة في المحاكم ملائمة لضرورات العصر الحديث، فلا بد من ذهنية جديدة تستفيد من التقدم في مجالات العلم والمعرفة.
ان الاجراءات القضائية عندنا بطيئة وباهظة التكاليف كما اسلفنا، ورغم بطئها وارتفاع تكاليفها ما زالت بعيدة عن تحقيق العدالة بصورة أكيدة، ويقترح بعض الزملاء سلوك عدة سبل لتبسيط اجراءات التقاضي الحالية وانجاز القضايا وحسم الدعاوى بسرعة، منها:
- الاهتمام بالتبليغات القضائية وانجازها بسرعة وتوسيع صلاحيات المحكمة بهذا الصدد.
- الزام صاحب الطلب بملاحقة طلبه، وإلا تعرض للبطلان.
- جواز طلب ارجاء اليمين الى ما بعد النظر في القضية تمييزا في حالات معينة (كتقديم بينات متنازع في كفايتها).
- تنسيق مدد الاعتراض والاستئناف والتمييز وتوحيدها وتبسيطها.
- منح المحكمة صلاحية عرض الصلح، في اول جلسة لها، على المتخاصمين او ايداع الخلاف على التحكيم، وتوسيع صلاحية المحكمة والمحكمين.
- تنسيق وتوحيد مدد الاعتراض والاستئناف والتمييز في جميع فروع القانون.
- الغاء موضوع تصحيح القرار التمييزي فهو من مخلفات العهد العثماني.
- اختصار عدد السجلات المطلوبة لأن كثرتها تؤدي الى ارباك اعمال المحكمة واضاعة الوقت في شكليات لا موجب لها.
وفي رأينا ان هناك امورا كثيرة تسترعي الانتباه بهذا الشأن، فالحاكم حاليا يقوم بدراسة اوراق الدعوى من اولها الى آخرها، ولا يوجد من يساعده في الاعداد الاولي للدعوى وتنظيم وثائقها، بينما قد يكون من المفيد تكليف احد رجال القضاء (من نوع معين) بدراسة القضية مسبقا وتلخيص نقاطها قبل عرضها على الحاكم الذي يقوم بحسمها، وفي فرنسا يجري الحديث عن جهاز قضائي وسط مكون من حقوقيين جديرين، مهمته مساعدة الحكام في عملهم باتجاه اعادة النظر في اسلوب العمل لتحقيق ضغط في القضايا المعروضة، ان تجربة القطر الجزائري الشقيق في مركز القاضي المقرر والتجربة الالمانية في مركزها (القاضي المكلف بإلقاء الضوء) من التجارب الجديرة بالدراسة، ان تنظيما فعالا للدعاوى يخفف المشاكل الفنية التي تعيق الحكام عن القيام بمهمتهم الاساسية بأسرع وقت ممكن، صحيح ان ذلك يتطلب تقوية جهاز موظفي المحاكم عندنا ورفع مستواهم المهني والثقافي والقانوني ولكن الاصلاح يجب ان يكون متماسكا ومتكاملا، يجب ان يسمح للحاكم بمناقشة بعض الشؤون مع ممثلي الاطراف المتخاصمة، بل مع الاطراف ذاتها، لتقرير اتخاذ اجراءات تحضيرية (وثائق تكميلية، الاستماع الى اهل الخبرة، تقديم الشهود ...الخ)، اجراءات تفرضها ضرورات حسم الدعوى بسرعة وبهذه الصورة تجري تصفية العديد من القضايا قبل اصدا القرار، اذ ان تجربة المقررين في محكمة التمييز حريّة بالتأمل والدراسة لقد اعتبرها البعض تجربة غير مشجعة وبل غير ناجحة، ومرد ذلك، على ما اعتقد الى نظرة بعض اعضاء محكمة التمييز إليها، واعتبارها مشاركة أو معارضة لهم في الرأي والى عدم وضع قواعد منظمة لعملهم، اذ ترك الأمر لاجتهاد الحاكم الذي حوّلها الى ما يشبه كتاب الضبط.
ناحية اخرى يجب خلق جهاز يقوم بجمع وتصنيف قرارات المحاكم؛ بحيث تكون في متناول الحكام عند الضرورة، والحقيقة يجري حاليا تنظيم الادارة والمؤسسات والمعامل على اسس حديثة بينما يبقى القضاء متخلفا في هذا المجال، ان شكل اضبارة الدعوى، بحد ذاته، يثير العديد من الاعتراضات رغم كونه من الظواهر المألوفة في المحاكم، وفي الدول المتقدمة يجري استخدام اسلوب (المنظم) الذي يقوم بتقديم احصاءات ومعلومات عن الاحكام التي صدرت في قضية معينة، ان مثل هذه المعلومات لا تلزم القاضي طبعا باتخاذ قرار معين ولكنها، على كل حال، تمنع صدور قرارات متناقضة في قضيتين متشابهتين من محكمتين مختلفتين او من هيئتين في محكمة التمييز ذاتها. ان (المنظم) لا يحل المشاكل القانونية للحاكم بل هو عنصر مفيد ومساعد في العصر الحديث، وفي الدول المتقدمة هناك خوف من ان يقتل التكنيك الحديث الجهد والابداع لدى الحاكم ويدفعه الى الكسل، لكن في نقطة البدء كما في نقطة الوصول وعند تحرير واتخاذ القرارات نجد الانسان دائما، ان الانسان لا يمكن ان يعوض بشيء ... انه ذلك الحيوان الأعزل الذي يتمتع بالامتياز الرباني بان يقول نعم اولا امام مصيره، طبعا في العراق نحن لا نشكو كثرة استخدام الآلات الالكترونية، بل نشكو تخلفا فظيعا في التنظيم، وتخلفا في الاساليب حد المضايقة.
والقضية الثانية في الاصلاح القضائي هي مسألة (ديمقراطية القضاء) – ان صح التعبير – أي مجانية التقاضي، لان المجانية جزء من الديمقراطية وخرق للنظام الطبقي في هذا المجال، وبهذه المناسبة يجب وضع نظام واقعي لمعاونة طالبي العدالة من الفقراء والمعوزين بحيث يتم تقديم الخدمات القضائية بسهولة وسرعة.
درجات المحاكم – يجب اعادة النظر في درجات المحاكم القائمة حاليا، لماذا هذه الدرجة الوسيط (الاستئناف)، أليس بالإمكان الاكتفاء بدرجتين، ثانيهما التمييز مع توسيع صلاحياتها في التصحيح وإكمال النواقص، اختصارا في الوقت والمصروفات.
وحيث ان محكمة التمييز تمثل أعلى مراحل القضاء وآخرها، لذا يجب صرف اهتمام كاف لإعادة تنظيمها على اسس متينة، ان الظروف السياسية التي مرت بالبلاد ادت الى حرمان الجهاز القضائي، ومنها محكمة التمييز، من عناصر مشهود لها بالكفاءة والصلابة، كما ادت احيانا الى تسلل عناصر ضعيفة الى مراكز حساسة في الجهاز، فلا بد من دم جديد يمر من شرايينها ولا بد من جيل جديد متين، من الناحيتين القانونية والإيديولوجية، يدخل هيئاتها، ولا بد من توكيد وتوطيد مركز اعضاء محكمة التمييز وجعل امر تعيينهم بيد مجلس القضاء الأعلى، وليس بيد السلطة التنفيذية، واخضاع محكمة التمييز الى رقابة السلطة التشريعية المنتخبة من قبل الشعب ديمقراطيا، وحمايتها من تدخلات السلطة التنفيذية، وعلى المجلس التشريعي المقبل ان يعيد النظر في عضوية محكمة التمييز الحالية بما يعزز مكانة القضاء ويقوي دوره الخطير في حياة البلاد.
ونظرا لكثرة الدعاوى المعروضة على محكمة التمييز (نحو 14 ألف دعوى سنويا) اصبح التأخير في التدقيق أحيانا، والاستعجال أحيانا، من الامور الطبيعية، واللوم لا يقع على المحكمة بل على التنظيم القضائي، ولهذا السبب يرى الكثير من رجال القانون ان يصار الى تقليل عدد الدعاوى التي تصل الى محكمة التمييز عن طريق جعل الدعاوى الصلحية (والبدائية بحدود مبالغ معينة)، ودعاوى الاحوال الشخصية وقضايا التنفيذ... قابلة للتمييز امام محاكم الاستئناف، كل ضمن حدود منطقة عملها، او توسيع صلاحية المحاكم الكبرى في المحافظات ومد رقابتها بحدود معينة الى القضايا المدنية والتنفيذية ودعاوى الاحوال الشخصية.
ويقترح بعض الحكام منح المحاكم الكبرى في المحافظات صلاحيات في المجالين الحقوقي والشرعي، الى جانب صلاحياتها الجزائية، بحيث تنظر المحكمة الكبرى في المحافظة (تمييزا) في كافة القضايا الحقوقية التي تبلغ قيمتها مائة دينار فأقل، وفي القضايا الشرعية، ويعتبر قرارها قطعيا، وتنظر (استئنافا) في القضايا الحقوقية والشرعية التي تزيد قيمتها على المائة دينار، ويكون قرارها في هذه الحالة تابعا للتمييز، ان الأخذ بهذا الاقتراح يؤدي الى الاختصار في الوقت والتكاليف المادية التي يتكبدها المتقاضون، ويخفف من اعباء محكمة التمييز، التي سيقتصر دورها على التوجيه والاشراف وتدقيق قرارات المحكمة الكبرى في القضايا ذات الاهمية المعينة، ان هذه الاقتراحات وغيرها تستوجب دون شك اعادة النظر في مجمل الجهاز القضائي واعادة النظر في تشكيلاته وصلاحياته وتثبيت ملاكاته على وفق احصائياته ودوامه وعطلاته الامر الذي يتطلب دراسة خاصة متأنية.
وحدة القضاء – لم يعرف العراق نظام تعدد القضاء، فالقضاء عندنا موحد ولا يوجد قضاء إداري، بالمعنى الذي تعرفه فرنسا ومصر، الى جانب القضاء المدني. صحيح ان مجلس انضباط موظفي الدولة في ديوان التدوين القانوني يمثل شكلا من اشكال القضاء الإداري، ولكنه قضاء محدود الصلاحيات، لقد جرى الحديث عن اقامة مجلس دولة على غرار مصر، لكن الامال بقيت ضمن المشاريع، المهم ليس انشاء قضاء اداري او الابقاء على نظام القضاء الموحد، بل المسألة على ما نرى، تكمن في رفع مكانة العدالة في بلادنا عن طريق اجهزة قضائية في مستوى المسؤولية، ان ما يهدد العدالة في بلادنا اللجوء الى المحاكم الاستثنائية التي حكمت العراق مدة طويلة جدا من الزمن وقد آن الاوان للعودة الى الحياة المستقرة التي تخضع لسلطة المحاكم العادية، ان منح بعض الهيئات الادارية سلطات قضائية او حرمان القضاء من النظر في النزاع الناشئ عن تطبيق بعض القوانين، يعتبر من المظاهر السلبية في مجال تحقيق العدالة، ولا بد من اعادة الاختصاصات الى القضاء العادي ليقول كلمته في الخصومة، وهذا لا يمنع من تشكيل محاكم استثنائية خاصة، في ظروف شاذة ومعينة، ولفترة محدودة جدا لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم امن الدولة الداخلي او الخارجي فقط، على ان تلغى فور الانتهاء من مهامها، ومثل هذه المحاكم الاستثنائية يجب ان تخضع الى رقابة السلطة التشريعية التي تمثل ارادة الشعب.
وان من جملة الاقتراحات التي تطرح نفسها بهذا الصدد فكرة انشاء محكمة عليا تختص بجميع المسائل والقضايا القانونية ذات المستوى العالي، من تدقيق او تفتيش او تقنين او افتاء بدستورية قانون او قانونية نظام وتوفير جميع الظروف الموضوعية الملائمة، بعد دراسة علمية خاصة على ضوء تجارب الدول الصديقة والشقيقة.
واخيراً يكون من الضروري احترام قرارات المحاكم واحكامها وعدم فسح المجال لعرقلة تنفيذها، لأن ذلك يضعف الثقة بالقضاء وأحكامه.
التخصص القضائي – لقد زاد عدد القوانين وتنوعت التشريعات في العراق سيما بعد حركة التأميم وازدياد تدخل الدولة في المجالات الاقتصادية، خاصة بعد عام 1964، وتوسع التشريع هذا ادى الى صعوبة الالمام بكافة القوانين والأنظمة وتعديلاتها وذيولها تفصيلا، لذا يسير الاتجاه الحديث نحو تخصص الحكام بفروع معينة بعد فترة من الممارسة الشاملة في المحافظات والاقضية (تخصص بالقضاء الجنائي، أو القضاء المدني، أو القضاء الإداري، أو منازعات العمل ... الخ).
التحكيم – بسبب توسع القطاع العام وتعدد المؤسسات الاقتصادية والفنية، ظهرت خلافات كثيرة بين مشاريع الدولة ذاتها، خلافات تستلزم تطبيق قواعد قانونية ذات صفة تكنيكية اكثر من تطبيق قواعد قانونية، تستند الى اعتبارات العدالة بصورة عامة، لذا يجري اللجوء في الدول الاشتراكية وفي الدول التي توسع فيها القطاع العام، الى (التحكيم) الذي يساعد على حسم القضايا بسرعة تتطلبها طبيعة المجتمع الحديث، ان الخلافات بين مؤسسات الدولة هي منازعات بين فروع مختلفة لمشروع واحد، اي انها جميعا تعود الى صاحب عمل مشترك، لذا لا غرابة في ان يجري اللجوء الى التحكيم بدلا من اللجوء الى المحاكم في هذه الحالة، ان هذا النظام غير موجود في العراق، ومن الضروري التفكير فيه والاستفادة من تجربة القضاء الاشتراكي وقضاء مصر ما دام القطاع العام في توسع دائم في العراق.
انتخاب الحكام – النظام الاشتراكي يخضع الى نظام الانتخاب، الانتخاب المباشر من قبل المواطنين بالنسبة للدرجات الدنيا، والانتخاب غير المباشر، السلطة التشريعية، بالنسبة للمحاكم الوسطى والعليا، كما يجري انتخاب المعاونين لمساعدة الحكام الدائميين من بين ابناء الشعب ويتم انتخاب المعاونين الشعبيين في الاتحاد السوفيتي، مثلا، من قبل العمال والفلاحين مباشرة (المحاكم الشعبية الدنيا) او من قبل مجالس السوفيتات (المحاكم الاخرى) وذلك لمدة عامين، ويشكل المعاونون الشعبيون الاغلبية في المحكمة، وخلال قيامهم بمهمتهم القضائية يعفون من العمل في المعامل والدوائر، إلا ان مدة مساهمتهم في المحكمة لا تزيد عادة على الاسبوعين في السنة، ثم يأتي دور غيرهم، ان اصواتهم مساوية لصوت الحاكم الدائم، وكلهم يشتركون في فحص الوقائع وفي تطبيق القانون، ان مبررات مشاركة جماهير الشعب في القضاء نابعة من الفكر الماركسي الذي يعتقد بان القانون والدولة سوف يذبلان تدريجيا في المجتمع الشيوعي المقبل، وسوف يخضع سلوك الافراد الى رقابة الشعب نفسه دون حاجة الى محاكم وسجون... ومشاركة المعاونين الشعبيين في المحاكم اشارة الى مستقبل البشرية ومستقبل القانون، وفي الظرف الراهن تؤثر مساهمة المعاونين في تثقيف المجتمع وتقوي العلاقة بين الدولة والشعب لانهم بعد مشاركتهم في نظر الخصومات والشكاوى، يعودون الى معاملهم ومزارعهم وقد لمسوا كيف يعمل القضاء من الداخل وكيف يصدر قراراته، يعودون وهم مقتنعون بعدالة القضاء الاشتراكي، وعليه فان نظام المعاونين يساعد في اعادة تثقيف المواطنين، وهذه هي احدى المهام الرئيسية للقانون الاشتراكي.
دور المنظمات الجماهيرية في القضاء في المجتمع الاشتراكي – لا تحال كل الخلافات الى المحاكم بل يجري حل العديد من المنازعات بروح جماعية داخل المؤسسات والمعامل من قبل الشغيلة انفسهم. ففي الاتحاد السوفييتي، مثلا، تشكل لجان منازعات العمل من ممثلي الادارة ومن ممثلي العمال، وإذا لم تقتنع الاطراف بقرار اللجنة تعرض القضية على اللجنة النقابية في المشروع. واذا لم تنجح اللجنة النقابية باقناعهم بحل مقبول تحال القضية عندئذ الى المحكمة، ولكن هناك قضايا هامة يمكن عرضها مباشرة من قبل ذوي العلاقة، على المحاكم الشعبية العادية.
في المزارع الشعبية تقوم (اللجان التنفيذية) لمجلس السوفيت المحلي بفض المنازعات في الريف، بينما يقوم مجلس السوفييت نفسه بمراقبة قانونية القرار المتخذ من قبل اللجنة التنفيذية (نوع من التمييز)، ولكن تبقى المحاكم وحدها مختصة في النظر في دعاوى المواطنين الذين يدعون بأن حصصهم من الناتج الزراعي غير عادلة، نسبة الى العمل الذي قدموه.
وفي العراق اخذ المشرع بنظام (اللجان المشتركة) التي تتكون من ممثلي العمال والإدارة (أو صاحب العمل)، وتناط بها مهام تتعلق بتنظيم الانتاج في المشاريع، وتسوية المنازعات والخلافات بالطرق الودية، وتخضع قراراتها الى رقابة محكمة العمل انها تجربة هامة، وحرية بالاهتمام والدراسة والاستنتاج والدعم.
دور القضاء في تثقيف الجماهير – انطلاقا من فكرة ان (القانون مظهر من مظاهر السياسة) تؤكد النظرية الاشتراكية على دور المحاكم في انجاح سياسة الدولة. فالمحاكم لا تقوم بتفسير وتطبيق القانون حسب، بل عليها ايضا ان تساهم في تنفيذ سياسة الدولة العليا، المستمدة من مصلحة الجماهير الكادحة، بقدر ما يتعلق الامر بها، وتهيئ مستلزمات ذيول القانون (في المرحلة العليا من المجتمع الاشتراكي) وذلك بالمساهمة في تثقيف الشعب ورفع مستواه الفكري، يجب ان يكون قرار المحكمة مقنعا للطرفين - قدر الامكان – بحيث يساند الرأي العام القرار الصادر وفقا للقانون، ان المحكمة ليست مسرحا تمثل عليه الخصومات، بل هي مدرسة تساهم في تثقيف اعضاء المحكمة ورجال العدالة والمتخاصمين والجمهور (والقراء عن طريق الصحافة). وتحت عنوان (من مهام المحكمة) تنص المادة الثامنة من قانون اسس التنظيم القضائي في الاتحاد السوفييتي لسنة 1958 على ما يأتي (على المحكمة في جميع نشاطاتها، ان تثقيف المواطنين في الاتحاد السوفييتي بروح الاخلاص للوطن وقضية الشيوعية، بروح الدقة والصلابة في تطبيق القوانين السوفياتية، بروح السلوك المشرف إزاء الملكية الاشتراكية. بروح احترام الضبط في العمل، بروح الالتصاق المخلص بالواجبات ازاء الدولة والمجتمع، بروح احترام القانون وشرف وكرامة المواطنين وقواعد المجتمع الاشتراكي، وعندما تتخذ المحكمة اجراءات قمعية جنائية عليها ألا تكتفي بمعاقبة المجرم، بل عليها ان تحاول تعديل الاعوجاج وإعادة تثقيف المجرم).
المحاكم الاستثنائية – المحاكم الاستثنائية من الظواهر التي تبرز في العديد من الدول بسبب المرحلة السياسية التي يمر بها العالم، وحتى في اكثر الدول تمسكا بالمشروعية والتصاقا بالاجهزة القضائية الاعتيادية يجري الجنوح نحو انشاء محاكم استثنائية هدفها ضمان أمن نظام الحكم القائم وقمع اعدائه المتآمرين على سلامته في الداخل والخارج، وتجربة فرنسا في هذا الصدد تعرضت الى مناقشات سياسية وقانونية، سيما في عهد ديغول الذي قام بتأسيس (محكمة امن الدولة) سنة 1963، والواقع لم يناقش رجال القانون مشروعية تأسيس هذه المحكمة، فالدستور يسمح بذلك، بل ناقشوا اسلوب اقامتها واعترضوا على نشاطها، وهم يؤكدون ان النظام القضائي الفرنسي ذا التقاليد العريقة، لم يخرج من هذه التجربة بحصيلة مشرفة، ويقولون ان الجرائم ضد أمن الدولة لا تحتاج الى تكنيك جديد، ولا الى محاكم استثنائية، أليس الهدف من انشاء محاكم خاصة من قبل السلطة التنفيذية ضمان السيطرة على القضاء وايجاد حكام على المقاس؟ وهل ان اختيار ثلاثة من القضاة المدنيين واثنين من القضاة العسكريين يخلق استقلالا يفوق استقلال المحاكم العادية؟ ورجال القانون في فرنسا يقولون ان المحكمة المدنية هي اهل لمحاكمة من يخرق امن الدولة وسلامتها، انها أهل لقمع نشاطات الأعداء وفرض العقوبات الرادعة عليهم، يقول النائب والقاضي الفرنسي المعروف شازل: (ان محاكم امن الدولة خطر على الدولة نفسها لانها تشجع على قيام التعسف الذي يظهر في جميع الانظمة السياسية، والذي يناضل الجميع ضده، هناك محاكم اخرى يمكنها ان تقوم بمهام محكمة امن الدولة، مثل المحكمة العليا ومحكمة الجنايات ومحاكم القوات المسلحة، ان محكمة امن الدولة ثقيلة بالنسبة لدولة حققت توازنها وأنجزت نظامها الديمقراطي، والجرائم لا تقاوم بالمحاكم بل بتحسين ظروف الحياة الديمقراطية، ان محاكم امن الدولة ظاهرة مؤسفة لذا يجب ان تعطى مهمة معاقبة الذين يعرقلون نشاط الدولة العادي، ويهددون أمنها، الى المحاكم الشعبية التي ستنشأ في المستقبل).
ديوان التدوين القانوني – أنشئ ديوان التدوين القانوني قبل اربعين عاما تقريبا لذا جرت بعد ثورة تموز 1958 وقبلها محاولات عديدة لتطويره وتحويله الى قضاء اداري تحت اسم مجلس الدولة أو اسم مجلس شورى الدولة، ويظهر ان جميع المحاولات اصطدمت بعدم الرغبة في بسط رقابة القضاء على اعمال السلطة التنفيذية.
ان ديوان التدوين القانوني يقوم حاليا، وبالفعل بثلاث مهمات:
(1) ابداء الرأي والمشورة بشأن تفسير القوانين بصدد قضايا معينة.
(2) ممارسة القضاء في الخلافات الناجمة عن تطبيق قانون الخدمة المدنية.
(3) النظر في مسودات القوانين والأنظمة والمعاهدات.
لقد قدمت اقتراحات كثيرة لاصلاح جهاز الديوان وتوسيع صلاحياته، ولكن ما هو افضل في الظرف الراهن، تحويله الى مجلس للدولة، على غرار مجلس الدولة الفرنسي، او على الاقل على غرار مجلس الدولة المصري، ان ديوان التدوين القانوني بصلاحياته الحالية أعجز من ان يساهم في اصلاح التشريعات باتجاه تقدمي (كجهاز فني طبعا) واضعف من ان يلعب دورا هاما في مجال القضاء الاداري وفي المستقبل، وعندما يسود القطاع العام سيادة كاملة، لن يكون ضروريا قيام قضاء اداري مستقل، وستكون وحدة القضاء اساس التنظيم الفضائي في المجتمع الاشتراكي.
الادعاء العام – يشكل الادعاء العام جزءا هاما من النظام القضائي، انه يمثل الادعاء العام ويدافع عن المشروعية وسيادة القانون، لذا تهتم الانظمة الاشتراكية بهذا الجهاز اهتماما كبيرا تجعله خاضعا ليس للسلطة التنفيذية، كما هو الوضع في العديد من الدول الرأسمالية، بل للسلطة التشريعية التي تقوم بانتخاب المدعي العام وتراقب نشاطه، ان الجهة المسؤولة عن مراقبة تنفيذ القانون هي الجهة التي تشرعه وليست الجهة التي تنفذه. ان للادعاء العام في الدول الاشتراكية مهاماً اخرى أوسع منها في النظام الرأسمالي، ويستطيع المدعي العام او نائبه، الاعتراض على الكثير من القرارات الادارية والقضائية، الجنائية منها والمدنية، وعلى مختلف مراحل الدعوى.
في العراق يجب اعادة النظر في نظام الادعاء العام وتعزيز مركزه واستقلاله عن الادارة والقضاء معا وربطه بالسلطة التشريعية مباشرة لتقوم بتعيين المدعي العام لمدة طويلة نسبيا (خمس سنوات مثلا) من بين المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والصلابة والتجرد. ويقوم المدعي العام بدوره بتعيين نوابه المنتشرين في كل زوايا القطر والذين يراقبون القرارات الادارية والقضائية ويساهمون في الدفاع عن الحق العام وعن المشروعية بكل اشكالها، ويرى البعض وجوب توسيع صلاحيات الادعاء العام بحيث تصل سلطته الى درجة منحه حق التدخل في حفظ حقوق الخزينة والدفاع عنها في جميع الدعاوى الجنائية والمدنية والقضايا الانضباطية، كما يرى البعض اناطة سلطة التحقيق بالادعاء العام وحصرها به اضافة لسلطته النيابة العامة. ان الادعاء العام في العراق ينتمي الى السلطة التنفيذية، فتعيينات ممثليه ونقلهم وفصلهم تصدر من السلطة التنفيذية، وتخضع بعض تحركاتهم اثناء العمل لأوامر السلطة.
المحامون – المحامي والحاكم والمدعي العام يشكلون مجموعة واحدة تتعاون على كشف جوانب القضية المعروضة امام القضاء. وفي النظام الاشتراكي (حيث يختلف المحامي عن مركزه في النظام الرأسمالي) لا يعتبر المحامي نفسه خصما لممثل الاداء العام، كلاهما يقفان امام حاكم واحد ويساهمان معه في كشف الحقيقة. وتقرر المبادئ القانونية الاشتراكية انه اذا اقتنع المحامي بان موكله مذنب، فعليه ألا يخفي ذلك على المحكمة ولا يحاول ان يظهر الجريمة وكأنها اقل خطرا مما هي عليه، ان واجبه الحقيقي – إزاء موكله - ابراز الظروف والادلة التي تخفف من مسؤولية موكله، ولكن على المحامي الا ينسى المصلحة العامة ويتذكر باستمرار تأثير مرافعته على جمهور المستمعين. واذا ما حصل من موكله على معلومات تتعلق بالامن العام فعليه ان يوصلها الى السلطة المختصة. فالمحامي هو، قبل كل شيء، مساعد للقضاء وخادم للمشروعية الاشتراكية، تلكم هي المبادئ النظرية، واقع دور المحامي في النظام القضائي الاشتراكي بحاجة الى دراسة معمقة على ضوء تجربة نصف قرن لاستخلاص التجربة وتطويرها.
ويتوطد دور المحامي على الصعيد العملي عن طريق نقابة المحامين، ويستطيع المتقاضي ان يطلب معونة محام بواسطة النقابة التي تختار له الشخص المناسب وتحدد اجوره حسب التعرفة المقررة. وتقوم النقابة شهريا بتوزيع الموارد على المحامين حسب كمية عملهم وبموجب جدول خاص.
ان الغاء الصفة الشخصية للعلاقة بين الموكل والمحامي يقضي على الصلات الفردية ويقوي لدى المحامي روح خدمة المجتمع لا روح خدمة الموكل الذي يدفع مالا اكثر.
وتشترط القوانين الاشتراكية جميعا ان يكون المحامي مؤهلا علميا (متخرج في كلية الحقوق)، والواقع ان دور المحاماة في الدول الاشتراكية اصبح ضعيفا ولا يمكن ان يقارن بدوره في الدول الرأسمالية وذلك بسبب تقليص القطاع الخاص وتشكيل لجان التحكيم في المشاريع والمؤسسات والإدارات الحكومية المختلفة، ولكن مع ذلك يبقى دور المحامي بارزا في الدعاوى والقضايا الجزائية.
في العراق ما زال دور المحامين مهما في المحاكم. وحتى القطاع العام ودوائر الدولة تلجأ الى المحامين للترافع امام المحاكم، صحيح ان الكثير من المؤسسات الحكومية تعتمد على تشكيل مديريات حقوقية وتعين مستشارين لها إلا ان دور المحامي ما زال كبيرا في مجتمع فردي رغم التراجع الذي اصاب هذه المهنة منذ عام 1964، ان المشاكل والصعوبات التي لاقتها ولا تزال تلاقيها مهنة المحاماة قد اثارت العديد من القضايا المتعلقة بتنظيم المهنة وتدرج الصلاحيات وضمان العيش الكريم للمحامين اثناء الخدمة وبعدها وحفظ حقوقهم وكرامتهم اثناء ممارسة الواجبات الموكولة اليهم، وقد طرحت بهذا الصدد مختلف الحلول والأساليب لمعالجة ما يمكن ان نسميه ازمة المحاماة في العراق، منها الزام الحكومة وجميع المؤسسات الخاصة بتوكيل محامين في الدوائر الرئيسة وعدم فسح المجال للمتقاعدين من ذوي الرواتب العالية بمنافسة زملائهم ورفع الحد الادنى لتقاعد المحامين، وربط صندوق تقاعدهم بالخزينة العامة والعمل على زيادة موارده، وعدم ارهاقه بتكاليف نجمت عن خدمات ومدد لا علاقة لها بالمهنة الاصلية، وهنا يرى بعض الحقوقيين وجوب بث وتشجيع الروح التعاونية لدى المحامين وشد مصالحهم الى مصالح نقابتهم المحلية والمركزية على غرار ما هو معمول به في الدول الاشتراكية المتطورة، كما يطرح للمناقشة فكرة انشاء لجان للمصالحة تتولى فض النزاعات قبل اللجوء الى المحاكم لقاء اجور تدفع لهذه النقابات.
ان التكوين المسبق للمحامين ضعيف نسبيا بسبب نظام التعليم في كلية الحقوق، وقد اعيد النظر في اسلوب تدريب الطلاب وادخلت حديثا دروس عملية (تطبيقية) في نظام كلية الحقوق ـ جامعة بغداد، ستساعد على اعداد المحامين من الناحية العملية بصورة افضل.
وبهذا الصدد يرى بعض الحقوقيين وجوب اعادة النظر في نظام التعليم المتبع في كلية الحقوق بحيث:
(أ) يجري التأكيد على الجوانب العملية والواقعية وإعطائها الاهمية اللازمة على حساب الجوانب النظرية الافتراضية الصرف.
(ب) ادخال مواد دراسية جديدة على ضوء المتطلبات الواقعية بعد التبدلات التشريعية الجارية منذ سنة 1958 حتى الآن.
(ج) تشجيع روح البحث والتحقيق والمناقشة المنطقية وتنمية الجرأة على طرح الافكار القانونية وحسن الدفاع عنها وجعل الامتحان شفويا فقط في بعض المواد الاساسية مع تغيير طريقة الامتحانات الشفوية (وقت كاف، مناقشة موضوعية وليست شكلية او تعجيزية من قبل لجان الامتحان).
(د) إعادة النظر في ترتيب المواد التدريسية وحسب اهميتها العملية، فتدرس المواد العملية المهمة (المدني، العقوبات، المرافعات، التنفيذ، الطب العدلي ... الخ) في السنوات الاولى.
وبهذه المناسبة يتساءل بعض اساتذة القانون عما اذا كانت الطريقة السابقة التي اتبعت في كلية الحقوق العراقية قبل 1936، رغم قصر مدتها، وهي الطريقة التي تمر بجميع مواد القانون مرا سريعا وعمليا (اقرب للطريقة التي اتبعت بعد ذلك بفضل الاساتذة المصريين المتأثرين بالطرق الفرنسية التي اعتمدت الجانب النظري المطول لخلق ملكات قانونية لدى طلاب الحقوق في بعض جوانب ومواد القانون تمكنهم من الانطلاق بمفردهم في حياتهم العملية، ان الموضوع يحتاج الى تأمل ودراسة على ضوء النتائج والواقع بالتعاون بين كلية الحقوق ومجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل ونقابة المحامين.
دوائر التنفيذ – ترتبط دوائر التنفيذ بالمحاكم لأن الحكام هم الذين يراسلون هذه الدوائر، ومن الواضح ان الأحكام المدنية والشرعية لا قيمة لها ما لم يجر تنفيذها، ان الشكوى من التنفيذ مردها الى جملة عوامل منها ما هو شامل لكل الاجهزة القضائية، ومنها ما هو خاص بهذه الدوائر، فقد قدمت اقتراحات كثيرة لإصلاح دوائر التنفيذ منها:
- التوسع في مفهوم السندات القابلة للتنفيذ اختصارا للوقت وتخفيفا من اعباء المحاكم، بل يرى البعض قبول دوائر التنفيذ لمجرد الادعاء بمبالغ تقل عن خمسين دينارا، متى ما اقترن هذا الادعاء بإقرار صريح وتعهد بالدفع.
- ان تتولى المحاكم تنفيذ قراراتها او تراقب صحة تنفيذها مدنيا وجزائيا.
- الاخذ بمبدأ متابعة دوائر التنفيذ للأعمال التنفيذية استنادا الى اول مراجعة دون حاجة الى تكرار المراجعات،
- ايجاد الطرق المناسبة لسد المنافذ بوجه التهرب من الديون والالتزامات الواجبة الاداء عن طريق التحايل او التواطؤ او اللجوء الى الوظيفة والاستخدام.
- تحسين الاصول المالية والحسابية في دوائر التنفيذ وتطبيق احدث النظم المالية والحسابية في دوائر التنفيذ وتطبيق احدث النظم المالية والحسابية.
- جعل تمييز قرارات دوائر التنفيذ – في حدود معينة - امام محكمة الاستئناف او المحاكم الكبرى.
الاشراف والمراقبة – الاشراف والمراقبة من الوسائل الهامة في المجتمعات، بحيث اصبحا شاملين لجميع اجهزة الدولة. والمفروض في الاشراف والمراقبة على القضاء ضمان حسن سير الاجهزة القضائية على اختلاف انواعها ومعالجة النواقص في حينها، وارشاد الحكام والموظفين الى افضل السبل لرفع مستوى الاجهزة الموضوعة تحت تصرفهم.
في العراق توجد عدة اجهزة تمارس المراقبة والاشراف أهمها: جهاز التفتيش العدلي، رؤساء محاكم الاستئناف في المناطق، وزير العدل.. واقل ما يقال عن هذه الرقابة انها عمليا دون المستوى الذي توخاه المشرع. ومن اجل معالجة مظاهر الضعف في التفتيش لا بد من تقوية وتطعيم الجهاز بعناصر كفوءة شابة، وعد النظر إليه كملاذ للراحة او مقر للمغضوب عليهم، وتقسيم العراق الى اربعة مناطق تفتيشية ولكل منطقة رئيس وعدد كاف من المفتشين بحيث يجري تفتيش كل محكمة مرة واحدة في السنة على الأقل، وإرشاد الحكام والموظفين الى النواقص والأخطاء والتقصيرات ومساعدتهم على معالجتها ورفع التقارير الدورية الى الجهات العليا او التغطية عليها لأسباب عديدة – بل تشخيص النواقص وإرشاد الحكام والموظفين الى كيفية معالجتها وعدم تكرارها، وما العقاب سوى الحل الاخير، وبهذه المناسبة يرى البعض ان تنحصر الرقابة على اعمال المحاكم والجهات المخولة، سلطات قضائية، بالنظر لاهمية الجهاز القضائي على ما يأتي:
(1) رقابة قضائية فعالة مستمرة ودورية تمارسها الجهات القضائية العليا (مجلس القضاء، محكمة التمييز، محكمة الاستئناف) على جميع القرارات القضائية واحكام المحاكم لمراقبة صحتها ومدى انطباقها على الاحكام والمواد دون المساس بقيمتها القانونية وارشاد المحاكم الدنيا دون ان يؤدي ذلك الى خنق روح المبادرة والاجتهاد لدى هذه المحاكم وتنظيم التقارير السنوية على ضوء ذلك.
(2) رقابة عدلية يمارسها التفتيش العدلي بصورة متمادية ودورية على اقلام المحاكم وإدارتها وحسن سير العمل فيها وانتظامها وانضباط حكامها وموظفيها دون ان يكون للتفتيش العدلي صلاحية مناقشة القرارات او الاجتهادات الصادرة من المحاكم الا في حالة التلاعب او سوء النية.
ثانيا – رجال القضاء
في القسم الاول من هذه الدراسة ابدينا آراء متفرقة عن الاجهزة القضائية عموما، وفي القسم التالي نتعرض الى اشخاص الحكام أنفسهم، ومما يحيط بهم من مشكلات ومظاهر تستحق الاهتمام، وسوف نعرض اراءنا على شكل نقاط:
اختيار الحكام وإعدادهم
يختلف اسلوب اختيار الحكام حسب النظام القضائي المطبق في القطر المعين؛ ففي اغلب اقطار العالم يجري اختيارهم من بين اشخاص تخرجوا من كليات الحقوق لكي يكونوا حكاما محترفين، لكن الى جانب الحكام المحترفين تأخذ العديد من دول العالم بنظام المحاكم المختلطة (اي المحاكم المكونة من حكام محترفين ومن مواطنين عاديين). فهناك انظمة قضائية رأسمالية تشرك ممثلي ابناء مهنة معينة في المحاكم الى جانب الحاكم المحترف. وهناك انظمة اشتراكية التي تقوم بإشراك معاونين شعبيين منتخبين من بين المواطنين، ليساهموا بصورة مؤقتة الى جانب الحاكم الدائم.
المحاكم المختلطة – لقد جرى في فرنسا نقاش واسع حول مساهمة غير المحترفين في عضوية المحاكم، وتعرضت تجربة المحاكم المختلطة الى نقد شديد سيما من جانب الفقه الذي يهتم بالمبادئ القانونية اكثر من اهتمامه بالضرورات الاجتماعية الملموسة، يقول الفقه الفرنسي ان المحاكم المختلطة مكونة من اعضاء اغلبهم غير متخصص بدراسة وتطبيق القانون، وقد ادى عدم التخصص هذا الى صدور قرارات كثيرة خاطئة تعرضت الى النقض استئنافا، كما انه من الصعب على الاعضاء غير الدائميين التخلص من الاعتبارات الحرفية التي تسيطر عليهم، سيما عند فرض العقوبات، ونظام المحلفين المعروف في الدول الانكلوسكسونية تعرض الى نقد مشابه للنقد الذي يوجهه البعض الى نظام الاقتراع العام في المجال السياسي من حيث تعرضه الى ضغوط اجتماعية خاصة بحيث يؤثر على موضوعية القرارات وقانونيتها، يقول الناقدون ان المحلفين يتخذون احيانا قرارات سخيفة وغير منطقية، وقد لوحظ مؤخرا تهرب المواطنين في الدول الرأسمالية من المشاركة في هيئة التحليف، خاصة عند النظر في الدعاوى السياسية، وقد رد الكثيرون على هذه الانتقادات وغيرها، مؤكدين أهمية المشاركة الشعبية في عضوية المحاكم وتفوق فوائدها على النواقص التي يمكن معالجتها عن طريق اصلاح نظام المحلفين ونظام المحاكم الشعبية. وقالوا في تبرير نظام المحلفين ان القرارات الصادرة من هيئات المحلفين، تعكس في الغالب، ولحد بعيد، ضمير المجتمع والرأي العام حول القضايا المعروضة امامها، وان التقاليد المتبعة، بموجب هذا النظام، ترسخت بمرور الزمن واصبح من المتعذر الرجوع عنها او تبديلها. حتى ان البعض في العراق لم ير بأسا من الاخذ بهذا النظام في نطاق تجريبي محدود (كجرائم السرقات والقتول ذات الاهمية في المجتمع العراقي)، لا سيما في المناطق الريفية.
ويرى رجال القانون، سيما بعض القضاة الفرنسيين، ضرورة تشجيع مجالات المحاكم الشعبية مثل محاكم التجارة ومجالس المصالحة، ويرون انه من الملائم انشاء انواع جديدة من المحاكم المختلطة سيما في القطاعات القضائية التي تلجأ غالبا الى الاخصائيين وأهل الخبرة، مثال ذلك، منازعات البناء وشهادات الاختراع والقضايا العائلية، ان المحاكم المختلطة التي يشارك فيها مواطنون من غير الحكام المحترفين تساعد على تحقيق فوائد كثيرة منها تقليص الحاجة الى الاخصائيين والخبراء الذين يجري اللجوء اليهم بافراط في ايامنا هذه بسبب تعقد الحياة نفسها، ومن فوائد المحاكم المختلطة تحقيق العمل المشترك (الجماعي) لانها تجمع بين تعدد الحكام وقلة عددهم.
وإذا كان مبدأ المحاكم المختلطة مقبولا فان دراسة معمقة للموضوع تبقى ضرورية خاصة لتحديد الصفة الخاصة والمهام المحددة لكل نوع من انواع الاعضاء غير المحترفين، وعند تعيين هؤلاء الاعضاء لا بد من تنويعهم بالاهتمام بانتقائهم بدقة فائقة، ولعله من الصحيح تطبيق هذا النظام في المدن الكبرى (مثل بغداد والبصرة والموصل) حيث تتوفر امكانات حسنة تساعد على الاختيار والإعداد.
ان المحاكم في العراق تقدم اول تجربة عملية في هذا المجال لأنها مكونة من حكام محترفين ومن ممثل العمال وارباب العمل لم يمارسوا العمل القضائي سابقا وليسوا معدين حقوقيا، لذا من الضروري ادخالهم دورات اعدادية لهذا الغرض.
وبطبيعة الحال ان نجاح هذا النظام يتوقف، ليس فقط على اعداد هؤلاء الاعضاء غير المحترفين، بل يتوقف ايضا على مدى تعاون الحكام المحترفين معهم ومساعدتهم في مهمتهم، ومن الضروري الاخذ بالنظام الاشتراكي الذي لا يسمح بالإضرار بهؤلاء الاعضاء حاليا بسبب مشاركتهم في العمل القضائي (استمرار دفع الاجر) انتخاب الحكام شعبيا – تتكون المحكمة الشعبية في الاقطار الاشتراكية عموما من حاكم او حاكمين دائميين، ومن عدد من المساعدين الذين يساهمون بصورة مؤقتة. اما محاكم الدرجات العليا فكلهم من الحكام الدائميين (دائميين نسبيا).
وفي الاتحاد السوفييتي - كما اسلفنا – يجري انتخاب جميع الحكام دون استثناء، انتخابا مباشرا من قبل الشعب بالنسبة للمحاكم الشعبية الدنيا، والانتخاب من قبل مجالس السوفييت بالنسبة للمحاكم الاعلى. يجري انتخاب هؤلاء الحكام لمدة خمس سنوات وبالامكان سحبهم اذا قصروا بواجباتهم، لقد نص برنامج الحزب البولشفي الصادر سنة 1903 على انتخاب الحكام وثبته ضمن مبادئه لأن الانتخاب مظهر من مظاهر الديمقراطية وتعبير عن سيادة الشعب. ويجب ان يوضع بيد الشعب ليس تشريع القانون حسب بل تفسيره وتطبيقه ايضا، ان اكثر من ثلث الحكام الدائميين المنتخبين ليسوا من الاعضاء الحزبيين (31 بالمائة منهم من النساء).
وفي الاتحاد السوفييتي ليس من الضروري ان يكون الحاكم حقوقيا ولا يشترط في المرشح لمنصب الحاكم ان يكون حاملا لشهادة جامعية اولية خاصة، لقد كان هذا النظام ملائما لظروف ثورة اكتوبر، لأن اغلب الحقوقيين والمحامين والقضاة لم يكونوا في صف الثورة في حينه، ولكن الوضع تبدل اليوم والميل يكون غالبا نحو ذوي الكفاءات، سيما بعد توفر الكوادر الجامعية الكافية.
ان نظام انتخاب الحكام يجب ان يطرح للنقاش في العراق ويجب ألا نستبعد الفكرة بدعوى هبوط مستوى الشعب الثقافي، ولكن من الضروري ايضا ملاحظة ظروف العراق الخاصة والملائمة المبدأ الى متطلبات التطبيق، سيما وان في العراق عددا كافيا من الحقوقيين الوطنيين المتحمسين لمصالح الشعب والمخلصين لأهدافه التقدمية، ان انتخاب الحكام مباشرة من قبل المواطنين (بالنسبة للدرجات الدنيا) وبصورة غير مباشرة من قبل المجالس التشريعية الشعبية (بالنسبة للدرجات العليا) تبقى ضمن الاهداف القريبة للحركة الثورية في العراق.
اهلية الحكام – تطرح في الظرف الراهن، مسألة اهلية الحكام نفسها على الوسط القضائي، وتظهر شكاوى عديدة من انخفاض مستوى بعض الحكام المحترمين. وحيث ان الدولة هي التي تعين هؤلاء الحكام لذا لا بد من انتقائهم بدقة وإعدادهم اعدادا جيدا، فالدولة (وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى) هي المسؤولة عن مهمة فحص قابليات المرشحين وإعداد الحكام وتطوير كفاءاتهم، وهنا يرى بعض رجال القانون التركيز في هذه المرحلة على الجوانب النظرية، التي يفترض اجتياز المرشح لها عند حصوله على شهادة التخرج في الجامعة، والاتجاه الغالب في جميع الدول المتقدمة هو الاهتمام بالشباب من الحقوقيين الذين اثبتوا كفاءة عالية خلال دراستهم الجامعية، والذين اجتازوا اختبارات كشف عن قابليات خاصة تتطلبها مهنة القضاء.
وفي فرنسا، مثلا، يجري اعداد الشباب الحقوقي الذي يروم دخول القضاء مباشرة بعد تخرجه من الجامعة في مدارس خاصة، مهيأة لهذا الغرض (مثلا المركز القومي للدراسات القضائية)، وفي بلجيكا يتم اعداد مشترك للمحامين والقضاة وفق نظام خاص، ويميل الالمان نحو اسلوب مرن في اعداد القضاة بعيدا عن الاسلوب المدرسي ويأخذ بالجوانب العملية بنظر الاعتبار.
لقد وجهت نقدات عديدة لنظام اعداد القضاة عن طريق المعاهد والمدارس الخاصة لأن المرشحين لدخولها ينحدرون من الطبقات الغنية والمتوسطة، لأنهم وحدهم القادرون على الاستمرار في الدراسة وتحمل اعبائها المالية. ان نظام المدارس لا يسمح بدخول ابناء العائلات البسيطة، لذا يقترح البعض قيام الدولة بدفع رواتب بسيطة لهؤلاء المرشحين خلال دراستهم الاعدادية كي لا يبقوا عالة على اسرهم غير الموسرة مدة طويلة، وبهذا يتحقق جزء من الديمقراطية في الوسط القضائي. ان القبول بهذا الاقتراح لا يزيل كل العوائق المالية امام ابناء العائلات الفقيرة لأنهم لا يصلون الى الجامعة اصلا، ولا يتخرجون فيها (سيما ابناء العمال والفلاحين) لذا يبقون محرومين من فرصة ولوج باب القضاء المحترف، الامر الذي يؤثر تأثيرا اساسيا على التركيب الطبقي للأجهزة القضائية.
ان المدارس التي تحدثنا عنها تقوم بإعداد قضاة المستقبل وتلزم الطالب بمتابعة برنامج محدد والنجاح فيه، وكل من لا يثبت مقدرة على تولي القضاء يحال الى الوظائف المدنية بعد تخرجه في المدرسة.
الى جانب اسلوب اختيار الشباب (من خريجي كليات الحقوق ) وإدخالهم الى القضاء بعد اعداد وتدريب ملائمين، تأخذ جميع الدول تقريبا بنظام الضم المباشر الذي يعني ادخال المحامين وموظفي وزارة العدل المؤهلين في سلك القضاء مباشرة دون تدريب مسبق، ولكن يظهر ان تجربة فرنسا وبلجيكا وهولندا في هذا المجال تعرضت للنقد لأن بعض المحامين والموظفين المدنيين اثبتوا عدم جدارة في تولي المهام القضائية. لقد لوحظ ان أغلب هؤلاء الموظفين انتقل الى سلك القضاء لأسباب ذاتية، تتعلق بالحصول على الترفيع او نيل التشريف الاجتماعي. اننا لسنا ضد عناصر جيدة من رجال القانون النظريين (سيما اساتذة القانون في الجامعة)، ومن المحامين الناجحين ومن المدعين العامين وكتاب الضبط الذين اثبتوا كفاءة قانونية ملموسة، ولكن المصدر الاساسي للحكام يبقى افضل ما في الجيل الجديد من الشباب الذي جرى اعداده بصورة جيدة في كلية الحقوق، وجرى اختبارهم بعناية وعلى اسس موضوعية دون ضغوط او تأثيرات قبلية او عائلية او سياسية. لقد جرى تعديل على نظام كلية الحقوق في جامعة بغداد وادخل نظام (الدروس التطبيقية) الذي يساهم في اعداد الطالب عمليا خلال الدراسة، وسنرى نتائج هذه التجربة بعد ثلاثة أو اربعة اعوام وعندئذ نستطيع الحكم على مدى نجاحها في اعداد نوع جديد من الخريجين.
نقل وترفيع الحكام
نقل الحكام – بعد ان يتم الاختيار وفق اسلوب علمي ملائم ينسّب الحاكم للتدريب في مركز محكمة الاستئناف في المنطقة التي يعمل فيها، وبعد انتهاء فترة التدريب (ستة اشهر مثلا) يعين حاكما في احد الأقضية ليعمل منفردا.
ان مسألة نقل الحكام في العراق هي من ادق المشاكل التي تؤثر ليس فقط في كفاءة الحاكم، بل تؤثر ايضا في استقلال القضاء ايضا، وغالبا ما يستخدم النقل من قبل السلطة اداة للضغط او للإغراء غير المشروعين. ولهذا السبب يجب:
1 - تقسيم المحاكم في جميع المحافظات والاقضية والنواحي الى مناطق او مراتب حسب وضعها الاجتماعي والصحي والثقافي وبعدها عن المحافظات المهمة او عن بغداد.
2 - ان يتم نقل الحكام عادة ضمن المنطقة او المرتبة الواحدة أو من محاكم منطقة معينة او مرتبة معينة الى محاكم المنطقة او المدينة التي تسبقها، دون تجاوز منطقة ثالثة بينهما، وذلك بعد توافر الشروط القانونية للنقل،
3 - جعل النقل مرتبطا بتقسيم المحاكم الى مناطق، وتقسيم الحكام الى اصناف ومراتب في آن واحد.
4 - تحديد حد أدنى من الزمن لبقاء الحاكم في كل منطقة.
5 - جعل الندب ضمن المنطقة الاستئنافية من اختصاص محكمة الاستئناف (الهيئة)، اضافة الى اختصاص مجلس القضاء الاعلى بهذا الشأن.
وبهذه المناسبة يقترح البعض، تشجيعا للاشتغال في الاماكن النائية غير الصحية، زيادة المخصصات القضائية بصورة تتناسب والمستوى الصحي والاجتماعي للمكان ومدى ابتعاده عن بغداد ومراكز المحافظات، بحيث يكون هناك جدول بالمخصصات تتحقق فيها العدالة، أو ان يكون للحاكم المشتغل في الاماكن النائية مزايا خاصة بالإجازات السنوية أو القدم لغرض الترفيع أو الخدمة أو النقل الى بغداد.
ترفيع الحكام – رغم ما ورد في قانون السلطة القضائية من شروط، اغلبها شكلية، فان القانون يكاد يخلو من ضوابط موضوعية محددة للترفيع، حتى يكاد الامر ان يكون حسابيا في مجمل تنظيمه، مما ادى بمرور المُدد الى تسلل بعض العناصر الهزيلة الى مراكز قضائية حساسة ما لبث ان انكشف امرها، فتناولها سيف التطهير دون ان تشفع لها قرب حصولها على الترفيعات والتشكرات، وبالمقابل من المؤسف ان يحرم القضاء من بعض الكفاءات لأسباب سياسية لا علاقة لها بالحرص او النزاهة من الترفيع المنصوص عليه في القانون.
ويرى البعض ضرورة الاخذ بنظام التدرج القضائي على غرار ما هو في بعض الدول العربية.
حياد القاضي واستقلال الفضاء
لرجال العدالة مهمتان متميزتان متلازمتان (وأحيانا متناقضتان): الأولى، حماية المجتمع والنظام السياسي، والثانية ضمان حقوق الفرد والجماعات. ويقوم بعض رجال العدالة بالمهمة الاولى ( حكام التحقيق، ضباط الشرطة القضائية) وآخرون مسؤولون عن القيام بالمهمة الثانية (المحامون)، في مستوى ثالث يوجد الحكام الذين يساهمون في كلتا المهمتين متى طلب منهم اصدار قرار في تهمة أو دعوى، ان قرار الحاكم هو نهاية المطاف، وعلى قراره يتوقف تحقيق (العدالة)، هذا هو القول النظري الذي يكرره اساتذة القانون دون ملل، وتردده المجلات القانونية باستمرار، ويؤكد المشرع في نصوصه، ولكن الواقع ان جهاز القضاء جزء من دولة وحجر في نظام، والحاكم يخضع الى ضغوط ايديولوجية واجتماعية وسياسية ومادية كثيرة، انه أولا، وبطبيعة مهمته، خاضع لأوامر المشرع (من هو المشرع؟): وهو ايضا يخضع لضغوط منوعة: المتقاضي يبذل جهودا كبيرة ليس فقط في توكيل محام متنفذ بل يلجأ الى (الوساطات) يستغل العلاقات القبلية والعائلية والدينية والطائفية والسياسية والشخصية.. الخ، المطلوب من الحاكم ان يكون محايدا إزاء التأثيرات المختلفة عدا التشريع، وكلما زاد فساد المجتمع وجهاز الدولة كلما تحمل ضغوطا اكبر، وتوجد دائما خلف العدالة الظاهرية عدالة حقيقية قلما تظهر للعيان، وتوجد ايضا مفاسد حقيقية يصعب اكتشافها من قبل الناس، ورجال القضاء في جميع الدول هم ادرى بما في دارهم.
ان التناقض بين حياد الحاكم وبين الضغوط الكثيرة التي يتعرض لها يدفع الحكام الى الانزواء عن المواطنين، هذا الانزواء محل نقد مبرر لان المتقاضي يريد عرض قضية على الحاكم مباشرة، ولكن الحاكم يتحاشى الضغوط قدر امكانه سيما في المجتمعات المتخلفة، ان الحكام الجديرين حساسون إزاء الضغوط المباشرة التي تؤثر في حيادهم لذا هم يؤثرون الابتعاد عن الناس، بعضهم يظهر بمظهر الرجال الغامضين غير المفهومين واحيانا تحت ضغط الظروف غير محبوبين من الجمهور، ومن المؤكد ان القضاء في نظامنا الحالي يخلق لدى المواطن المسالم شعورا غامضا بالقلق والاطمئنان معا، الحكام غير محبوبين احيانا هل هذا صحيح الى حد ما؟ ولكنها هي اللعبة الاجتماعية التي يجب قبولها والتسليم بها ما دام نظام انتخاب الحكام غير مأخوذ به في بلادنا.
ان العمل الخفي للحاكم كبير وغير واضح للناس، واصدار حكم معين لعمل طيب، انه يحتوي على جانب اخلاقي لا يمكن وزنه كميا.
يطرح في فرنسا سؤال ذو مغزى: هل ان القضاة الذين اصدروا قرارات ذات محتوى طبقي كانوا يشعرون بالضغط؟ الواقع ان الحاكم ابن المجتمع، وتكوينه الايديولوجي مكتسب من محيطه، لقد تعلم من عائلته وهو صغير احتقار المهن الدنيا، وهو ينظر الى ابن العائلة الغنية المتنفذة، والى حامل الشهادة العالية، نظرة خاصة محاطة بهالة من الاحترام الخفي، والحاكم يقر هذا الموقف من ذاته دون ضغط خارجي، وقراره الطبقي المبني على هذا الاساس الايديولوجي عادل بالنسبة له، وهو غير عادل موضوعيا، والقضاء العراقي زاخر بأمثلة ومواقف تميز بين المتقاضين على اسس طبقية واجتماعية.
ان اغلب الحكام يخشون الضغوط السياسية والإدارية، ولكن كيف تتم حمايتهم منها؟ عادة يقدم المشرع ضمانات قانونية في مجالات الانضباط والترفيع والنقل. لكنها ضمانات غير كافية، فالحاكم الذي يعين بالواسطة وينقل بالواسطة يحتاج الى درجة عالية من متانة الخلق لكي يكون مصدرا من مصادر الحياد والعدالة في تطبيق القانون، ان النظام السياسي الحر وانتشار الديمقراطية هما كفيلان بحماية الحكام من الضغوط السياسية والإدارية.
الى جانب الضغوط المختلفة يوجد ما هو امر واقعي، فما هي الضمانات ضد الإغراء؟ الإغراء بعضوية محكمة الاستئناف او التمييز مثلا؟ يقولون في فرنسا (لقد ابعدنا العصا ولكن الدينار باق)، يقولون ان القاضي المستقل هو الذي لا يطمح الى شيء آخر، وفي النظام الفاسد يوجد نوعان من الحكام: الحكام الطموحون والحكام المنزوون، هناك حكام يطمحون في التقدم لقاء تنازلات معنوية على حساب العدالة، وحكام باقون في مراكزهم ومنسيون ينتظرون يوم احالتهم على التقاعد بهدوء، ان الحاكم بشر من لحم وأعصاب، والنظام السياسي والقضائي هو المسؤول عن حمايته من الضغوط السياسية والإدارية، اما الحاكم فهو المسؤول عن حماية نفسه من الاغراء المدمر، اما الضغوط الطبقية والإيديولوجية والفكرية فهي تخرج عن نطاق هذا المقال وتدخل ضمن دراسات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة، وعلى كل حال يجب القول بان على الادارة الابتعاد عن استخدام القضاة اداة رقابة أو اداة دعم سياسي، يجب ان تعرف الحكومة - اي حكومة - ان القضاة حكام طبيعيون مكلفون بتطبيق القانون وحماية حريات الافراد ولا يجوز، باي حال من الأحوال، قيام قضاء آخر مواز لقضاء الدولة، يجب عدم المزج بين الادارة والعدالة ووضع حدود بينهما، هذا هو واجب مجلس القضاء الاعلى بالذات.
استقلال القضاء – كلمة أخيرة حول استقلال القضاء، الذي يجري الحديث عنه في جميع الدول دون تحديد مفهومه بوضوح.
وإذا كان ضمان الشرعية في العلاقات والتصرفات يوجب على القضاء ان يكون مستقلا فان مفاد الاستقلال هنا يعني جعل الاعتبار الاول للقاعدة القانونية وتطبيق القانون وحده على الحالات الفردية المعروضة. ويخطئ من يفسر استقلال القضاء بأنه وجود فوق المجتمع أو بعيد عن الدولة، ان التعريف التقليدي له انه إحدى سلطات الدولة، بمعنى انه جزء منها، وان وظيفته تطبيق القانون، وليس القانون كلمة هابطة على المجتمع من خارجه معروضة عليه، بل هي قواعد تنظم العلاقات فيه، تصدر وتكسب شرعيتها من اعلى سلطات الدولة، من جهاز التشريع، ويتشكل مضمونها بالضرورة وفقا لمصالح القوى الاجتماعية والطبقات المسيطرة على الدولة، والقضاء جهاز يلتزم بهذه الشرعية ويطبق النظام القانوني القائم، وهو يتشكل، وظيفة ونشاطا وافرادا، بشكل هذا النظام وينطبق بصورته.
ان الشرعية مادة عمله، والعلنية هيكل بنائه وهو بتكوينه يفتقد الوسائل المادية لاستلاب سلطة غيره، الامران الاولان يجعلانه يرتبط بالرأي العام والأمر الاخير يجعله لا يستطيع الاعتماد إلا عليه عند قيامه بوظيفته، وهو بهذا يكمل سلطة التشريع ويحد من السلطة التنفيذية، وذلك وصف مجرد يتجسد في اشكال متباينة ونظم مختلفة في كل دولة من الدول حسب تطور المجتمع والعلاقات الاجتماعية.
ان ما سطرناه اعلاه ما هي إلا آراء أولية حول نقاط متفرقة غير متكاملة، تمس الاجهزة القضائية والنظام القضائي عموما في العراق، ونحن نعترف أن دراسة جديدة للمؤسسات القضائية في قطرنا تتطلب بحثا متواصلا ونقاشا هادفا يخرج عن نطاق المحاولات القديمة التي بقيت حبيسة الايديولوجية الفردية والتكنيك القانوني التقليدي.
اننا لا نشك بقدرات رجال القانون ورجال العدالة في بلادنا على استخلاص النتائج من مطالعاتهم وتجاربهم العملية وعلى وضع اسس اصلاح جذري شامل لانظمة القضاء بعيدا عن اطر الملكية الفردية وقواعد القانون المدني الرأسمالي، ان الحياة اقوى من ان يقف امامها وقفة جامد ومتخلف، والمشرع العراقي بدأ يتأثر بالموجات الاشتراكية والفلسفة الجماعية، واذا ما بقينا ندور داخل الحلقات التي رسمها لنا السابقون، فان جيلا جديدا من الحقوقيين الشباب سوف يكذبنا وسوف يجتازنا دون تردد.
ان باب النقاش مفتوح لجميع الحقوقيين، والآراء التي قدمناها خاضعة للنقد والتعديل.. انها مجرد محاولة اولى على الطريق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 381
آذار 2016