واقع وتحديات بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية / بسام محي

بدعوة من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني قام وفد من 20 شخصية قيادية يمثلون 16 حزبا شيوعيا ويساريا من 8 بلدان عربية بزيارة الى الصين ضمن خطة الحزب الشيوعي الصيني لاستضافة 1500 شخصية للاطلاع على بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، والتشاور حول التجربة الصينية في ظل العلاقات الدولية الجديدة على الصعد السياسية والاقتصادية والازمة المالية العالمية وسبل تطوير العلاقات الصينية مع الاحزاب الشيوعية واليسارية، والتباحث والتشاور حول تركيبة الدولة والبناء الحزبي وافاق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وكيفية مواجهة التحديات الجديدة للصين. وقد قدم الرفيق بسام محي عضو المكتب السياسي مداخلته في منتدى وانشو الذي يعقد في بكين، والذي يتناول قضايا مهمة تهم الصين والعالم بمجالات متعددة.
التجربة الصينية.. ابتكار نظري وممارسة عملية
تعتبر التجربة الصينية واحدة من التجارب التي أدهشت المجتمع الإنساني بانجازات التنمية المتسارعة خلال اكثر من ثلاثين عاما من تطبيق سياسة الاصلاح والانفتاح. وتعتبر التجربة ابتكارا جديدا، والعمل الجاد والمبادرة الجريئة والعزم في الممارسة العملية وحماية سيادة الدولة ومصالحها.
تعتمد التجربة في بناء "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" على بلد يقوده حزب شيوعي واقتصاد يقوم الى حد ما على السوق التنافسية، كما يسميه الصينيون، وفقا لوصفة دينغ سياو بينغ، " اقتصاد السوق الاشتراكي" وهو الربط بين الاشتراكية والسوق معتمدا على رفض اي تحول سياسي يستهدف تغيير السلطة السياسية ودور الدولة. وقد مرت "الظاهرة الصينية" بعدة مراحل في الاصلاحات الاقتصادية لوصفة دينغ منذ عام 1978 حتى يومنا هذا، والتحول الى سياسة السوق واستحداث علاقة تصالح وتبادل متكافئ مع النظام الاقتصادي العالمي. وقد قدمت الاصلاحات الاقتصادية على الاصلاحات السياسية بهدف الحفاظ على الاستقرار السياسي.
يعتبر صعود الصين الاقتصادي ظاهرة مهمة على صعيد بناء الدولة والنظام الاقتصادي العالمي وتحديا كبيرا امام المراكز الرأسمالية الثلاثة امريكا واوربا واليابان. إن التنمية السلمية ، او "التنمية العلمية" كما يسميها الصينيون، تتمثل في جوهرها في تحقيق التنمية الذاتية والمساهمة في صيانة السلام العالمي.
وقد شهدت الصين نموا اقتصاديا وخاصة في مجال الصادرات، وارتفاع حجم الاستثمار الصيني في الخارج، وحققت نسبة عالية من الادخار الداخلي، مع ارتفاع في متوسط النمو وصل الى 9,9 في المئة في عام 2000 ويتوقع انخفاضه في عام 2016 الى 7,7 في المئة لقد نقلت التجربة الصين الى الحداثة وهي معكوسة على مظاهر وسلوك المواطنين والحداثة مرتبطة بالديمقراطية على طريق التحولات الاجتماعية ومعالجة المشكلات القومية والثقافية كما هو الحال لقضيتي التبت والاويغور (المسلمين) والتي تحاول القوى الخارجية استغلالها باعتبارها نقطة ضعف في النظام السياسي في الصين.
جوهر الاصلاحات الاقتصادية والانفتاح
اعلنت الصين تبنيها "اقتصاد السوق الاشتراكي"، وهو الربط بين الاشتراكية والسوق ، وادخال الاستثمار الاجنبي الخاص والمشترك وآلياته الى الصين في مناطق شرق وجنوب البلاد، وباشروا في تطبيق برنامج الاستثمار والتنمية والتحول الاقتصادي ليشمل شمال وغرب الصين.
ويصف الصينيون تجربتهم في "اقتصاد السوق الاشتراكي" على انه نظام يقوم على اساس اقتصاد السوق ودولة الحزب الشيوعي، هذا الاقتصاد يؤسس على نظام الملكية العامة لوسائل الانتاج وبقيادة النظام السياسي للحزب الشيوعي والتجنب لأي تغيير سياسي في الدولة والسلطة، على الرغم من وجود 8 احزاب سياسية اخرى مشاركة في ادارة الدولة الا ان القرار السياسي يتخذ بالتشاور.
هذا النظام الاقتصادي الذي يتعايش فيه مختلف اشكال الملكية جنبا الى جنب يحاول من خلال "اقتصاد السوق الاشتراكي" ان يتخطى اساسا حدود الرأسمالية أي ان يضمن العدالة في المجتمع بالاعتماد على الكفاءة الاقتصادية، وان يكون اقتصاد السوق وسيلة لخدمة الناس في تبادل منتجات العمل، لكن تبقى القيمة هي العتلة او الحافز في التقدم الاقتصادي، وهذا يؤدي الى استقطاب اجتماعي، ويرفض الصينيون اعتبار ذلك شكلا او محفزا للصراع الطبقي لانه يتناقض مع نظرية دينغ سياو بيغ في الاصلاح والانفتاح، بل اعتبر ذلك شكلا من اشكال التسوية المجتمعية.
ومن المعروف ان النظام الاقتصادي الاساسي يتقرر بعلاقات الانتاج، وقد سادت الملكية العامة لوسائل الانتاج، وفي المرحلة الاولى للتجربة الصينية، أي بعد انتصار الثورة الصينية في عام 1949 وما أثبتته توجهات وخطط الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ والخطط الخمسية للدولة ، الى جانب القطاعات الاقتصادية الاخرى في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات. ويعتقد الشيوعيون الصينيون ان التوجه "اقتصاد السوق الاشتراكي" باعتباره آلية اقتصادية معناه هو الانتقال من الاقتصاد المخطط المركزي الى اقتصاد السوق، الذي يتم استخدامه لانجاز اهداف اشتراكية بسيطرة الدولة الصينية وحزبها الشيوعي على الانتاج والتوزيع للسلع. ويلعب السوق دورا اساسيا في الاصلاح والانفتاح على العالم ولم يختف عنه البعد التخطيطي وله قوة ادارية تفوق العديد من البلدان الرأسمالية، ويزعم البروفسور يانغ ان النظام الاقتصادي الاساسي للاشتراكية ذات الخصائص الصينية يضمن العدالة في المجتمع.
وقد تم إدخال الإصلاحات على الاقتصاد والانفتاح على الاستثمار الخارجي في الصين وتقديم التسهيلات في انجاز المشاريع وفق القوانين والضوابط المرعية في مؤسسات الدولة، وتحويل أراضي الكومونات الشعبية إلى ملكيات عائلية أو مختلطة،والسماح بالملكية الخاصة للأراضي ولوسائل الإنتاج، وإقامة مقاولات فلاحية مختلطة بين الدولة والقطاع الخاص، وتم السماح باستيراد التكنولوجيا من الخارج كالآلات، والمواد الاولية والخام والطاقة وغيرها.وجرى التخفيف من احتكار الدولة للنشاط الاقتصادي، والسماح بإنشاء مقاولات خاصة في قطاعي الصناعة والتجارة، وظهور المؤسسات المختلطة ذات الرأسمال الوطني الصيني والأجنبي، وإعادة تنظيم مقاولات الدولة بمنحها الاستقلال المالي والإداري، وتشجيع التبادل التجاري مع الخارج بعد الانخراط في منظمة التجارة العالمية، وإعطاء حوافز لجلب الاستثمارات الأجنبية إلى الصين.
هل الصين رأسمالية ام اشتراكية؟
ان قيادة الحزب الشيوعي الصيني وسلطة الدولة متمسكة بالقيم الاشتراكية على الطريقة الصينية وخاصة في المساواة وحق الفلاحين في الحصول على الارض. وان الاشتراكية تبنى لتحرير الانسانية من الاستغلال وتسخير اي تراكم لتطوير المجتمع وهذا يرتبط ايضا بقضية الديمقراطية وجدليتها مع البناء الاشتراكي. ان المشروع الحقيقي في الصين لاقتصاد السوق الاشتراكي هو اعادة بناء الهياكل الاساسية للرأسمالية ومؤسساتها مع تقليل وطأتها على الطبقات الاجتماعية وخاصة على العمال والفلاحين. وقد اثبتت التجارب السابقة ان الوصول الى الاشتراكية طريق طويل يحتاج الى خلق اشكال من الملكية الجماعية وتطويرها في عملية التطور الاجتماعي، وان تلعب الدولة دورا حاسما، ولا يعني استبعاد الاشكال الاخرى للملكية مع تحديد اسلوب عمل كل ملكية والجمع بين التراكم الرأسمالي وتفعيل قيم الاشتراكية وخاصة المساواة والرعاية الاجتماعية والخدمات وتعميق الديمقراطية.
ومن نتائج سياسة الاصلاح والانفتاح الاقتصادي في الصين يتضح النمو السريع للملكية الخاصة لوسائل الانتاج الذي ادى الى نوع من الاستقطاب الاجتماعي حيث تراجع دور القطاع العام الذي تمتلكه الدولة الى 32,1 في المئة فيما زاد القطاع الخاص الى 55 في المئة فضلا عن القطاع المختلط والفردي، والاستثمارات الاجنبية، وتفاوتت نسبة الدخول العالية والواطئة، وزاد التفاوت بين الريف والمدينة، وان 20 في المئة من السكان صاروا اكثر فقرا، وان هناك أكثر من 70 مليونا يعيشون تحت خط الفقر المحلي بأقل من 200 يوان (300 ) دولار.
ويرى الصينيون بما فيهم الشيوعيون أن المشروع الحقيقي لـ "الطبقة الحاكمة" الصينية ذو طبيعة رأسمالية، ولكنهم لا يعترفون بطبقة رأسمالية انما " فئة" لا تتدخل بالشأن السياسي للبلد ولا تتخذ قرارات حاسمة لمستقبل الدولة والمجتمع، بل لديها مزايا اقتصادية فقط، وبذلك تكون "اشتراكية السوق" مجرد طريق مختصر لبناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسساتها، ومن المؤكد ان الوضع الذي تشهده الصين منذ ثلاثة عقود ونيف هو نتاج ميول عميقة ولميزان قوى طبقي ولخط سياسي يندمج بميزان القوى ويفعل فيه.
التحديات الجديدة للنظام السياسي والحزب الشيوعي
يبلغ سكان الصين اكثر من 1,370 مليار نسمة، وما زال مستوى دخل الفرد متدنيا، رغم ارتفاعه في السنوات الاخيرة. ومازال الطريق وعرا، وتعاني الصين واقتصادها وإدارة الدولة صعوبات وأزمات منها تلوث البيئة ومشاكل التنمية غير المستدامة وعدم التوازن بين الريف والمدينة، فبعد 30 عاما دخلت الصين مرحلة حاسمة، وتواجه مهمتين الاولى ان يكون عام 2020 ، الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، عاما للوصول الى انجاز( مرحلة بناء مجتمع رغيد الحياة) ، والمهمة الاخرى ان يكون عام 2050، وهي الذكرى المئوية لتأسيس الصين الحديثة بعد الثورة، هدف بناء دولة متقدمة على المستوى المتوسط. ولذا باتت هاتان المهمتان اهداف الشعب الصيني لانجازهما عبر الاشتراكية ذات الخصائص الصينية. ويرى الصينيون ان ذلك يتلاءم مع ظروف الصين في مجال النظام السياسي ونظام اقتصاد السوق والثقافة والايديولوجيا الصينية في تحقيق بناء الامة والدولة الصينية الديمقراطية الحضارية المتنامية. وتلقى هذه المهمات والاهداف التشجيع المستمر من الفئات الاجتماعية والقوى السياسية للعمل على تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
اربعة تحديات امام الحزب
يواجه الحزب أربعة تحديات تتلخص في :
1. التخلص من التراخي والترهل على المستوى المعنوي السائد لدى اوساط مجتمعية غير قليلة بسبب طول فترة حكم الحزب، وعدم قدرة اعضائه على التعرف على مشكلات الحزب الحقيقية وضعف قناعاتهم.
2. عدم وجود القدرة والكفاءة المطلوبتين ارتباطا بطبيعة المرحلة والتحديات الجديدة لدى اعضاء وبعض كوادر الحزب.
3. ابتعاد اعضاء الحزب وكوادره عن الجماهير وظهور ميول ونزعات انعزالية عن الجماهير وعدم الاحتكاك بها ومعرفة حاجاتها الضرورية.
4. الفساد داخل الحزب او للحزبيين في داخل مؤسسات الدولة. ان لقيادة الحزب وعي ومعرفة بهذه الظاهرة وخطورتها. وتتخذ جملة من الاجراءات الحزبية في اعادة بناء الحزب وادارته بشكل صارم، ومكافحة الفساد بقوة وشدة، وتنويع اليات العمل، وتشديد الرقابة الحزبية ومحاسبة المفسدين، وقد تمت محاسبة حزبيين و (100) من مسؤولين حكوميين بمستوى وزير ومسؤول مقاطعة (محافظة).
خمس مدارس فكرية
وحول التناقض في التجربة الصينية تظهر خمس مدارس فكرية تدخل في جدل واسع لتحديد معالم وجوهر التحولات الاقتصادية والاجتماعية:
1. المدرسة الاولى ترى ان الصين اشتراكية وفي " المرحلة الابتدائية من الاشتراكية" وتسير في طريق "اشتراكية ذات خصائص صينية"، مع التمسك بقيادة الحزب الشيوعي الصيني ، وتحتاج الى اجيال اخرى.
2. المدرسة الثانية تعتقد ان الصين استعادت الرأسمالية، وان نظرية دنغ سياو بينغ تحريفية ، وهم يرفضون تجربة " اقتصاد السوق الاشتراكي" لانها تقوم على الملكية الخاصة وعلى المنافسة والاستغلال
والاستقطاب مما زاد من معاناة العمال والفلاحين وتنامي الفساد وتعمق التفاوت الاجتماعي وزيادة حدة الصراع الطبقي.
3. المدرسة الثالثة تنظر الى الصين على انها في مرحلة التراكم الاولي وتحمل عناصر الرأسمالية البيروقراطية والكومبرادور، ويرون ان في الرأسمالية الكثير من الاخطاء لكنها وفرت المرحلة الاكثر تقدما في تأريخ الانسانية، وتعبر عن عدم قناعتها لان الصين شجعت الاصلاح الاقتصادي واهملت الاصلاح السياسي، علما ان الاصلاح السياسي يوفر الحريات والشفافية.
4. المدرسة الرابعة ترى ان " عصر الاصلاح " طور مبكر للانتقال من الاشتراكية التقليدية الى الاشتراكية الديمقراطية التي بدأها ماو وستالين، وهم متأثرون بأفكار لوكاش وغرامشي، ويدعمون الاصلاحات الاقتصادية الصينية كخطوة اولى ، والخطوة الثانية العمل من اجل نظام سياسي تنافسي.
5. المدرسة الخامسة تتكون من باحثين يرون ان الصين تمر بفترة انتقال من انتصار الثورة الديمقراطية الى الاشتراكية وتعتمد رؤيتهم على فرضية ماركس في انتصار الثورة البروليتارية في عدة اقطار في آن واحد حيث التقدم الرأسمالي ومن ثم الهيمنة على السلطة وتحويل الملكية الخاصة الى الملكية العامة ومحو الفوارق الطبقية.
الخلاصة
1. بدأت الاصلاحات على المستوى الاقتصادي في التحول إلى سياسة السوق وتعظيم دور القطاع الخاص والتصالح مع النظام الاقتصادي العالمي، وجذب الاستثمارات الخارجية، والتنمية التدريجية للطبقة الرأسمالية على حساب القوى الاجتماعية الاخرى.
2. استمرار دور الدولة ومؤسساتها في العملية الانتاجية وتحديد الوجهة الاقتصادية.
3. تراجع الدور السياسي امام توسع الاصلاحات الاقتصادية.
4. زيادة الفجوة بين الفقراء والاغنياء، وبين الريف والمدينة، وزيادة نسبة التلوث البيئي.
5. ارتفاع البطالة في بعض القطاعات وتدهور الرعاية الاجتماعية.
6. تنامي طبقة الرأسماليين المحلية المرتبطة بمصالح دولية.
7. ارتفاع مديونية الصين ارتباطا بالأزمة المالية العالمية.