القادم من تمثال عبد المحسن السعدون نحو ساحة (الفردوس ) يجتاز بخطوات قليلة سينما النصر ومن ثم سينما بابل ليجد نفسه أمام بيت يرتفع قليلا عن مستوى شارع السعدون بقليل . ويطل على شارع فرعي آخر .. بهذا الركن , تولد حيوية الانطباع ومتانة الهيكل , بناء أليف ومتميز بثراء الطراز المعماري الخاص , يدعو قاصديه إلى الإحساس المرهف بأجواء المكان كمنبع لشبكة من الإيحاءات والرموز.. في أروقة وقاعات المبنى , عالم تنصهر في تشكيله شخصيات تتشح بوشاحات من الأحلام والأفكار والحماس والترقب , مزيج من الضياء والظلال يدلان على مشاعر مشتركة , وثقة في صنع الإبداع , في واقع مكتظ بالأسماء.
براعم طالعة , تنمو في مختبر الكبار، تصنع تجربتها الجديدة
وجوه مشعة بالأمل وهي أوفر قدرة على الحضور والوعي بالإحداث والاكتناز بهندسة مطالب العمل الملتزم , وجماليات الحياة ... تنهل من فيض رواد العمل الإبداعي في الأدب والصحافة . في هذا المكان ولدت (طريق الشعب) العلنية .
وسط هذا الحشد لا أتخيل غياب ذلك المشهد الضاج بالعنفوان والحيوية عن ذاكرتي أبدا ... ولن أنسى( أم جاسم ) تلك ألامرأة الكادحة التي احتلت ركنا قصيا من حديقة المبنى الواسعة وهي تطعم العاملين وضيوفهم يوميا بوجبة غذاء مجانية من ( سُفرة الطريق ) العامرة بالمحبة. لا امتياز فيها سوى أنها تحمل مذاق النوايا الطيبة.
(أم جاسم ) منظر أنساني بهيج مانح للسعادة , رغم ما تحتفظ بإسرار داخلية عميقة .. سيدة عراقية كانت تعبر عن مكنونها بالابتسام .. عادلة في التوزيع , لا فرق عندها بين أعضاء المكتب السياسي أو هيئة التحرير أو شغيلة الجريدة . إلا إن اشد حالاتها حرجا حينما تعلن بصوت عالي النبرات , بلهجتها الريفية التي تحيل ( القاف إلى غين ) وهي تقول : ( رفاغ .. نغص .. نغص!) حينما يزداد الطلب على كمية الطعام , والحاجة إلى تلبية حاجة الضيوف الذين يتوافدون على الجريدة يوميا وباستمرار ..
تتطلع ( أم جاسم ) إلى الوجوه التي تنظر إلى يديها السخيتين , ووجهها بوداعة الطفل , وشالها الأسود يحيط رأسها الصغير كغيمة ربيعية. يبدو لي المشهد ألان , وكأنه خارج الزمن .. (أم جاسم) وآخرون .. مثل غابة حلمية لا تستطيع الكلمات وصفها .. سوى القول أنها مسرات اغتيلت في زمن لا لون له .. وفي مكان ليس لأسمه حروف..
فإذا كنا نعيد استذكار أم جاسم بهذه الذكرى ونحن على موعد مع مواسم جديدة من الأسى والأحزان , فذلك يعني أنا لا نسمح لأنفسنا أن نحترف النسيان . فثمة راحلون مبدعون , يليق بهم الحب . نأوي إلى ظلال ذكراهم.