الاقتصاد السياسي للاصلاح الاقتصادي في العراق / 4-7 / د.صالح ياسر

 القضية الثالثة: مضمون "اعادة هيكلة الاقتصاد العراقي" .. تنمية واستقلال ام اعادة انتاج التبعية وتأبيد الهيكل الراهن- الحدود والإمكانيات والمآل

   كما معروف فان خاصية الاقتصاد العراقي الراهن هو كونه اقتصاد متخلف وريعي واحادي الجانب. ومن هنا فان اعادة هيكلته تفترض التخلص من البنية الاحادية وبناء اقتصاد متنوع بالتركيز على قطاعات الانتاج المادي الاخرى وفي مقدمتها قطاعي الصناعة التحويلية والزراعة. ولكن لو دفعنا الصيغة الموجود في الفقرة اولا من المادة (1) من " القانون" لوجدنا انها تشير الى التالي:

(إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفقاً لمبادئ الاقتصاد الحديثة ومتطلبات التحول لاقتصاد السوق ، وضمان توسيع قاعدة الإنتاج من خلال اعتماد آليات السوق وتحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة العادلة).

   ان تفكيك النص اعلاه الى مكوناته يتيح فرز اربعة "اقانيم" هي بمثابة الاسمنت المسلح التي ترتكز عليها عملية "اعادة هيكلة الاقتصاد العراقي" وفقا لرؤية مهندسي "الاصلاح الاقتصادي الاتحادي" المقترح.

1. الاول، هو ان اعادة الهيكلة تتم وفقا لمتطلبات التحول لاقتصاد السوق.

2. الثاني، هو ان السوق موضوع الحديث ليس " سوقا " بالمعنى العام بل ملموسا وهي السوق الراسمالية.

3. الثالث، هو انه وبما ان السوق راسمالية الطابع، وان هذه الاخيرة عالمية البعد، فان "السوق العراقية" لن تكون سوى جزء من السوق الراسمالية العالمية.

4. الرابع، ان هذه السوق، سواء اكانت عالمي البعد او محلي، يشتغل وفقا لمبدا " الحرية الاقتصادية". ومن اركان هذا المبدأ تحرير التجارة واعتماد المنافسة. هذا مع العلم ان "القانون" يشير هنا الى مفهوم "المنافسة العادلة" وهذا للاسف يعبر عن عدم فهم طبيعة المنافسة السائدة اليوم، على صعيد الاقتصاد الراسمالي سواء ببعده المحلي ام ببعده العالمي، والتي ابسط ما يقال عنها بانها منافسة غير عادلة بسبب التفاوت المعروف في مستوى تطور اقتصاد بلدان "المركز" و "بلدان الاطراف" ضمن النسق الراسمالي العالمي.

مقاربة ريكاردية لـ "الاصلاح"

   ان "إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي ... من خلال اعتماد آليات السوق وتحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة" تعني ان صائغي " القانون" يستندون هنا (دون ان يعلنوا ذلك) الى فكرة الاستفادة من "الميزات النسبية" وهي أطروحة تعود أصولها إلى الاقتصادي الانكليوي دافيد ريكاردو (1772-1832) أحد أقطاب الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، لذا فإنها تحتاج الى مقاربة نقدية بدأ من الأطروحة الريكاردية ذاتها لكن لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيل كثيرة. غير أنه و مع ذلك لا بد من بعض الملاحظات السريعة.

   ابتداءً، يتعين التأكيد على حقيقة أساسية قوامها أن التنظير الريكاردي يعتبر خطوة الى الأمام في صياغة نموذج نظري منضبط يرتكن إليه في تفسير التخصص والتبادل الدولي، وتطويراً لآراء آدم سميث في هذا المجال، وتجاوزاً لها في نقاط مختلفة. وبالرغم من التقدم الذي أحرزه التنظير الريكاردي بصدد القضايا التي أثارها، إلاّ أن تحليلاته وتجريداته أثارت الكثير من الأسئلة والملاحظات الانتقادية، يمكن الإشارة الى العديد منها، كما برزت في أعمال مختلفة:

- النظرية ذات طابع ستاتيكي – جامد-، حيث تفترض هيكلاً ثابتاً لتكاليف الإنتاج في مختلف البلدان، وكذلك تفترض عدم تغيير الموارد الإنتاجية وعدم إمكانية نقل تلك الموارد بالإضافة الى عدم إمكانية تأثير التبادل على حجم وهيكل التكاليف. إن مثل هذه الافتراضات غير صحيحة وذلك لأن التخصص الدولي سيؤدي الى نمو حجم الإنتاج وفي نفس الوقت الى هبوط تكاليف الإنتاج. إن هذه النظرية لا تأخذ تأثير التغيرات في التقدم التكنولوجي في الاعتبار الكامل، إذ تتحدد دالة الإنتاج بظروف طبيعية تختلف اختلافاً كبيراً ليس من حيث تنوع المنتجات فحسب بل ومن بلد الى آخر أيضاً. وتأسيسا على ذلك فإن دالات الإنتاج أيضاً، أي الزيادات في الإنتاج الناجمة عن إدخال وحدات إضافية من الأيدي العاملة، تقدم صورة تتباين حسب المنتوج والبلد.

- إن هذه النظرية تقييّم الظروف الطبيعية بمعزل عن مستوى تطور القوى المنتجة والعلم والتكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية، وتتجاهل التقدم التكنولوجي وتطور الهياكل الارتكازية والوفورات " الداخلية " والوفورات " الخارجية " ..... الخ مما يؤثر بالأساس على دالة الإنتاج، وتناسب الكلفة. وبعبارة أخرى يمكن القول أن هذه النظرية تهمل، بصفة عامة، دينامية قوى الإنتاج الاجتماعية بمعناها الواسع وتأثيرها في إزالة الأضرار المقارنة والكشف عن " مزايا مقارنة دينامية " جديدة.

- تفترض هذه النظرية حالة التشغيل الكامل، وذلك لأن قوى السوق الحرة هي الكفيلة بإصلاح أي خلل في توازن السوق. لقد أثبتت الأحداث العالمية وخاصة الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية الكبرى خلال السنوات 1929 – 1933 والازمات والتجارب التالية لتطور التشكيلة الرأسمالية العالمية خطأ افتراض التشغيل الكامل وعدم قدرة النظام الرأسمالي على استعادة التوازن بصورة تلقائية. ولعل ما يعيشه العالم هذه الأيام من أزمة بنيوية عميقة وما تقوم به حكومات البلدان الرأسمالية المتطورة من انفاق مالي كبير وجهود محمومة للسيطرة على مسارات تلك الأزمة تبين بما لا يدع الشك ان احد أعمدة نظرية السوق الحرة قد تهدم وانه لا يمكن استعادة التوازن تلقائيا.

- لا تسعى نظرية التكاليف النسبية للإجابة على السؤال الجوهري والحاسم وهو: هل التبادل الدولي المستند على هذه النظرية هو تبادل متكافئ أم لا ؟. إن النظرية تقوم بإبراز "المزايا والمنافع النسبية" التي يتحصل عليها كل شريك فور قبوله بالتخصص وتقسيم العمل الدولي، وذلك من منطلق تبادل قيم استعماليه مختلفة من وجهة نظر الدولتين. ولهذا فإن كلا الدولتين ستربح في التبادل وحدات سلعية تتوافر على قيم استعماليه معينة أعلى مما كان عليه الحال قبل التخصص والتجارة الدولية. ويبدو أن هذه النظرية تفترض التخصص والتبادل بين بلدان متماثلة ومتقاربة من حيث مستويات التطور. ويعني ذلك أن هذه النظرية لا تجيب على السؤال التالي: هل يحدث التبادل والتخصص، بحسب هذه النظرية، بين بلدان متفاوتة التطور ؟. لنبسط السؤال: هل يمكن اعتماد نظرية التكاليف النسبية كمعيار للتخصص والتبادل الدولي في الظروف المعاصرة، حيث السمة الأساسية هي التفاوت في مستويات التطور على الصعيد العالمي ؟. إن مجمل التحليل الريكاردي لا يسمح بالإجابة على هذا السؤال، برغم الأهمية الحاسمة، على الصعيدين النظري والتطبيقي، لتلك الإجابة. ولهذا فان ما يطرحه " القانون " بشأن الاستفادة من " تحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة العادلة" في ظل التفاوتات الاقتصادية على الصعيد العالمي سيؤدي، في الواقع، الى إبقاء الاقتصاد العراقي على بنيته الراهنة بكونه اقتصادا ريعيا لأنه يتمتع بـ " ميزة نسبية " في مجال إنتاج الخامات والوقود (النفط)! وهذا يتعارض مع منطلق "الاصلاح الاقتصادي الاتحادي" الذي يؤكد على "إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي" حيث الهيكل الراهن متخلف واحادي الجانب.

- لقد كانت الصورة الريكاردية للاقتصاد العالمي وتقسيم العمل الدولي، تتضمن الافتراض القائل بأن القرارات المتعلقة بالتخصص وتوزيع مواد الإنتاج حسب المزايا النسبية، تتخذ وتنفذ على مستوى الاقتصاد الوطني بمراعاة المصالح الوطنية العامة للوضع الاقتصادي الوطني الأمثل. ومن الواضح تماماً أن هذا الافتراض وقع في تناقض حاد مع حقيقة تطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي نشأ فيه التخصص وتقسيم العمل ليس وفقاً لاحتساب التكاليف المقارنة للاقتصادات الوطنية، ولا حتى في العلاقات بين البلدان المتطورة، بهدف تحقيق "الوضع الاقتصادي الأمثل". فعوضاً عن ذلك تطور التخصص وتقسيم العمل، كقاعدة، وفق الاعتبارات المتعلقة بنشاط رأس المال الخاص، وفيما يتعلق بأول نظام عالمي لتقسيم العمل، تطور التخصص وتقسيم العمل بنتيجة النشاطات الاستثمارية الرأسمالية التي قامت بها رؤوس الأموال المصدرة من بلدان " المركز " المتقدمة والسائدة، في بلدان " الأطراف " التابعة والأقل تطوراً. ومن جانب آخر فان افتراض "المنافسة العادلة" لا يستقيم مع واقع عصرنا الراهن حيث التأثير الكبير للاحتكارات المتعدية الجنسية على التقسيم الدولي الرأسمالي المعاصر للعمل.

   وعند دفع جملة الافكار الواردة اعلاه الى نهايتها المنطقية فانه يمكن الاستنتاج بان " اعادة هيكلة الاقتصاد العراقي" تراهن على العوامل الخارجية وليس على العوامل المحلية أو على جدل العلاقة بين المجموعتين من العوامل.

   ويبدو ان المقاربة المثبتة في "القانون" متأثرة بما ما روجه ويروجه صائغو سياسات البنك والصندوق الدوليين لحزمة ما يسمى بـ : التكييف الهيكلي "، مستندين في ذلك الى جملة تجارب من بينها قراءة تجربة النمو الآسيوي، حيث استندت هذه القراءة إلى إعلاء (قوى السوق) إلى مرتبة القوة الدافعة الوحيدة للنمو الاقتصادي. بيد أن قراءة أخرى أكثر دقة للتجربة تقود إلى نتيجة مغايرة تماماً وهى أن تدخل الدولة هناك شكل القوة الدافعة الرئيسية للنمو الاقتصادي الآسيوي من الستينيات إلى التسعينيات في القرن العشرين، وخاصة في بلدان الجيل الأول، وبصفة أخص في كوريا الجنوبية وتايوان [1].

   وأهم معالم هذه القراءة ما يلي:

أولا:ً تدخل الدولة الفعال: إنه ليس تدخل الدولة في حد ذاته ما يفسر "قصة" النجاح الآسيوي في ميدان التصنيع والتنمية ولكنه تدخل الدولة "الفعال"، والذي سمح – كما يقول "ريس جنكينز"- بتبنى سياسة صناعية ناجعة تتميز بأربع سمات رئيسية هي: المرونة، والانتقائية، والتناسق والتركيز على دفع عملية التطوير والارتقاء بدلاً من مجرد الضبط أو التوجيه[2].

ثانياً: "المتطلب الأولى" الرئيسي لحدوث التدخل الفعال هو "قوة الدولة" بإزاء الجماعات الاجتماعية المختلفة، أو بالتعبير المتداول في الكتابة السياسية الراديكالية: الاستقلالية النسبية للدولة.

ثالثاً: متطلبات أولية مترتبة على ما سبق، وأهمها إعادة بناء جهاز الدولة، ليتوافق مع المهمة التنموية في ميدان التصنيع بصفة خاصة. وتتمثل إعادة البناء المذكورة في إقامة الأسس الآتية:

أ- بناء جهاز بيروقراطي قادر على تنفيذ سياسة الحكومة.

ب- توفير حد أدنى معين من التجانس والتناسق بين أجهزة الدولة المختلفة، ابتداء من إنشاء جهاز مركزي ضابط على غرار (مجلس التخطيط الاقتصادي) Economic Planning Board EPB في كوريا الجنوبية ومجلس التعاون الاقتصادي الدولي والتنمية CIECD في تايوان.

ج- توفير حد أدنى من استقلالية جهاز الدولة في مواجهة المجتمع السياسي، بدءًا من نزع "التسييس" عن الجهاز الحكومي، وبعبارة أخرى: عدم ربط هذا الجهاز باعتبارات التشكيلة الحزبية أو السياسية القائمة، سواء في تكوينه العضوي أو في توجهات النشاط.

د- توفير الأدوات اللازمة لقيام الدولة بدورها. وتمثل ذلك، في السيطرة على النظام المصرفي كمدخل حاكم لتمويل التنمية والتصنيع، وخاصة من قناة الاقتراض الأجنبي.

رابعاً: "الالتزام السياسي" بقضية التنمية: على حد تعبير "جنكينز" فإن الاستقلالية النسبية العالية للدولة، والتشكيل الداخلي المناسب لجهاز الدولة، وتدخل الدولة الفعال في الحياة الاقتصادية – إن هذه جميعاً تمثل ما يمكن أن نعتبره "الشرط الضروري" للنمو الصناعي السريع، ولكنه ليس شرطاً كافياً، إذ يضاف إليه: التزام قوى من جانب الدولة بالإنماء الاقتصادي باعتباره "رسالة مقدسة" يتعين الوفاء بها.

   إن النتيجة الرئيسية المستخلصة من ذلك أن التنمية، بل النمو، لا يمكن تحقيقه من خلال صيغة للتحالف بين الدولة التي تتحول إلى مسهل Facilitator تتولى استكشاف "رغبات رأس المال الخاص المحلى والأجنبي، وتبادر بتلبيتها بدءًا من تيسير إجراءات "الدخول" إلى سوق الاستثمار، وانتهاء بسخاء الإعفاءات الضريبية، سواء على أساس "زمني" أو على أساس "نوعى ".

 

مقاربة مالية وليس انتاجية .. (بريمر) يعود مجددا ولكن بطبعة جديدة !

   تشير المادة 4، الفقرة ثالثا من "القانون" الى " تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي والمبادئ والقواعد المنصوص عليها في هذا القانون وضمان الانسجام بين غايات واهداف استراتيجية الموازنـــــــــــة العامة الاتحادية".

   واذا ربطنا هذه الفقرة بما جاء في المادة 1 من "القانون" والتي تشير الى"إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفقاً لمبادئ الاقتصاد الحديثة ومتطلبات التحول لاقتصاد السوق ، وضمان توسيع قاعدة الإنتاج من خلال اعتماد آليات السوق وتحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة العادلة" فانه يمكن الاستنتاج ان مدخل "الاصلاح" المطلوب هو مدخل مركب:

- اعتماد اليات السوق.

- الرهان على التجارة.

   بهذا المعنى فان المدخل هو الرهان على الجانب المالي اولا وليس على الجانب الانتاجي.

   طبعا هذا المدخل ليس اصيلا بل هو امتداد لعملية بدأت منذ اواسط 2003 عندما اصدر الحاكم المدني الامريكي آنذاك (بول بريمر) مشروعه الاقتصادي. فمنذ ذلك الحين ظل الهاجس الرئيسي لصناع القرار الاقتصادي والسياسي خلال "المرحلة الانتقالية"هوالتحول نحواقتصاد السوق على غرار "النموذج" الذي جرى تطبيقه في بلدان اورباالشرقية رغم اختلاف الظروف، حيث يسود عندنا اقتصاد انتقالي، ريعي/خدماتي متخلف واحادي البنية.

    ويمكن الاتفاق مع اطروحة الدكتور مظهر محمد صالح بان الاقتصادالانتقالي في العراق الذي بدأ بالتبلوربعد العام 2003 "لم يوفر... من اسس الاقتصاد الانتقالي الكلي الى اقتصاد السوق الا مسببات الصراع المتمثلة بالتحررالمالي الواسع وخلق سوق مالية توازي تحرر منفلت في التجارة الخارجية". ومن المفيد الاشارة الى ان "تحرير"النشاط المالي وتطورسوق المال تم بمعزل عن نشاط التطورالاقتصادي العام، رافقه في الوقت نفسه اغتراب النشاط الحقيقي في اسواق الانتاج الاخرى التي تعيش حالة من الركود والبطالة وخالية من مقومات الاقتصاد الانتقالي وسياساتهِ.

   وعلى هذ االاساس، لم تولَد بلادنا اقتصاداً انتقالياً واضحاً، في وقت غابت فيه انماط من الشراكة بين السوق والدولة كي تعمل وفق اسس السوق سواء في الاستثمارام الانتاج والتنمية في مرافق البلاد الانتاجية كافة..

   وكانت النتيجة واضحة وتفقأ العين: لم ينتج الانتقال الى اقتصادالسوق الا رأسمالية ماليةتتعامل في اغتراب مالي واسع امام السوق الكلي الذي غاب الانتقال عنهُ كقوة استثماروانتاج حقيقي. هكذا بدلا من تكامل الاسواق بمستوياتها المحتلفة ووحدتها الداخلية اصبحت السوق المالية المحلية امتدادا للسوق المالية العالمية وذراعا لترحيل الثروة المالية الناقصة التكوين والضعيفة الارتباط بمفاصل الانتاج في الاقتصاد المحلي الى ثروة مالية كاملة تتكامل مع وتصب في مستودعات المال الدولية وتساهم في تقوية التراكم على الصعيد الراسمالي العالمي مقابل حرمان البلاد من تراكمها الحقيقي وبالتلي تمنع اعادة هيكلة الاقتصاد. وهكذا اصبحت آلية العمل في الاقتصاد الانتقالي المالي للعراق سببا لتفجرالصراعات بين رأسمالية الدولة المالية باعتبارها ( المالك الريعي الكبير) وبين الرأسماليةالمالية الاهلية ( المالك الصغير) المتطفل على الريع المركزي والساعي للتحكم فيه عبر "اليات ديمقراطية" !! [3].

   وبالمقابل لا يقول لنا صائغو "القانون" شيئا عن الكيفية التي تتم فيها اعادة الهيكلة من اجل زيادة الانتاجية وضمان "المنافسة العادلة". ولأن "الشيطان يكمن في التفاصيل"، سنجري "محاولة التفافية" على النص لاستدراجه من اجل الكشف عن ما لا يريد قوله !

   ونظرا لان الحديث في "القانون" يدور عن نوع من الاقتصاد محدد وملموس هو اقتصاد السوق الحر وهو بلحمه ودمه اقتصادا راسماليا، وان هذا الاخير هو اقتصاد عالمي البعد يضم في طياته اقتصاديات البلدان الراسمالية المتقدمة واقتصادات البلدان المتخلفة ضمن النسق الراسمالي العالمي، فان ذلك يعني ان اعادة هيكلة الاقتصاد العراقي "وفقاً لمبادئ اقتصاد السوق الحر والمنافسة العادلة والمشروعة" ستتم في اطار الاليات الناظمة لهذا النسق، أي من خلال التخصص وتقسيم العمل الدولي الراسمالي وفي مرحلة من ابرز معالمها عولمة الحياة الاقتصادية وهيمنة الآليات الراسمالية على تلك العولمة واخضاعها لمنطقها.

   تجنبا لاي سوء فهم او التباس، لا بد من تمرين ذهني هنا لتقريب الفكرة.

   في اطار "إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي لزيادة الإنتاجية وضمان المنافسة، وتنويع الموارد الاقتصادية وتحسين الكفاءة في إدارة الموارد الطبيعية وفقاً لمبادئ اقتصاد السوق الحر والمنافسة العادلة والمشروعة" كما جاء في "القانون" يمكن افتراض طريقين لتحقيق عملية اعادة الهيكلة بشروطها المطروحة اعلاه: اما التخصص والتعاون الاقليمي او التخصص الدولي، هذا اذا افترضنا عدم امكانية انغلاق الاقتصاد الاقتصاد.

   لنتابع كل خيار على حدة:

- التخصص والتعاون الاقليمي ما هي نتيجته؟ لنأخذ مثلا بلدان الجوار، فهذه على العموم اقتصاداتها متماثلة: ريعية أو أحادية الجانب وتحكمها نظم سياسية متباينة، وهنا يطرح السؤال المعروف: كيف يجري التخصص وما هي الصناعات التي يتخصص بها كل بلد وما هي اشكال التعاون؟ ثمة مئات الأسئلة هنا يمكن طرحها. لذا فان أي حديث عن تخصص اقليمي له معنى افتراضي ولن يتحقق على المدى القصير والمتوسط طالما بقيت تلك الاقتصادات تتمتع بذات السمات. ويعني ذلك انه في ظل هذه الظروف وبحكم الأمر الواقع سيكون من المبرر التوجه نحو خيار " الاندماج مع العالم " عبر مسارات التخصص دولي البعد.

- التخصص الدولي- الاندماج مع العالم. هنا تنطرح مشكلة المفاهيم عندما تؤدي وظيفة إيديولوجية، فمهندسو " القانون " لا يتحدثون بالملموس عن أي عالم يجري فيه الاندماج، ولكننا في الواقع ليس أمامنا سوى عالم واحد: العالم الرأسمالي المتطور. إذن سيتعين علينا الاندماج مع هذا العالم. ونظرا للتفاوت بين مستويات تطور الاقتصاد العراقي وطبيعة هذا الاقتصاد وبين مستويات تطور العالم الرأسمالي المتطور فان الاندماج هنا لا يعني سوى خضوع الاقتصاد المتخلف الى منطق الاقتصادات المتطورة وسينتج عنه تبادلا لا متكافئا ونتيجته واضحة: لن تحدث "منافسة عادلة" كما ورد في "القانون" بل سيفضي الامر الى تعميق التخلف والتبعية الاقتصادية، والابقاء على البنية الاقتصادية الراهنة.

   وإذا تعمقنا في هذه الإشكاليات جيدا أمكننا القول انه لا يمكن تحقيق التخصص، سواء اقليميا او دوليا، بناء على رغبة الدول فقط، بل يجب توفر جملة من الشروط، من أبرزها:

     وباختصار، يمكن القول أن التخصص وتقسيم العمل المتدرج الخطوات بين هذه المجموعة من البلدان بإمكانه (اقول: بامكانه) أن يصبح عاملاً مساعدا لتسريع وتائر التنمية الاقتصادية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي. ولكن بمقابل ذلك يمكن ان تظهر عوائق جدية تعقد أو تعرقل هذه السيرورات ومن بينها:

1. التبعية الاقتصادية المتزايدة للخارج. ويتجلى ذلك عند مقارنة التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية للبلدان النامية، حيث يشكل التبادل التجاري لهذه البلدان مع البلدان الرأسمالية المتطورة حوالي ثلاثة أرباع تجارتها الخارجية.

2. تماثل الهياكل الاقتصادية لهذه البلدان وتخلفها وتبعيتها. وكما معلوم فإن الهيكل الاقتصادي الراهن للعديد من البلدان المجاورة للعراق قد تشكل بنتيجة السيطرة الطويلة الأمد للبلدان الراسمالية المتطورة عليها. وبنتيجة تلك السيطرة أصبحت هذه البلدان، في إطار النظام الكولونيالي، قاعدة خامية للمتروبول. وتتضمن هذه الحقيقة تأثيرا كبيرا على مضمون واتجاهات التطور الراهن واللاحق للسيرورات التكاملية بين هذه البلدان.

3. تخلف أو ضعف تطور الهياكل الارتكازية الإنتاجية لاقتصادات البلدان المجاورة. وكما هو معروف يتطلب توحيد الأسواق المحلية في سوق إقليمية واحدة تسريع تدفق السلع من بلد الى آخر في إطار هذه السوق. وهذا يتطلب وجود هيكل ارتكازي ملائم للنقل على هيئة خطوط مواصلات، مطارات ..... الخ، يؤمن التدفق السريع للسلع. ويصطدم هذا الشرط، في البلدان المجاورة (وعموم البلدان النامية طبعا)، بوجود عقبات جدية تتمثل في ضعف هذا الهيكل أو تخلفه. وتكمن أسباب هذا الواقع في حقيقة مهمة هي انه خلال الفترة الاستعمارية جرى وبشكل متعمد التوسع في التخصص الأحادي الجانب ونقل السلع من المستعمرات الى أسواق الدول الاستعمارية، التي لم تكن تهتم بتطوير الهياكل الارتكازية وبالأخص طرق المواصلات بين البلدان المستَعمَرة.

4. ضعف التكامل الداخلي لاقتصادات هذه البلدان، وضعف قاعدتها الإنتاجية. إن غياب التكامل الداخلي هذا يجد تعبيره في ثلاث ظواهر هي:

أ. ازدواجية القطاعين الاقتصاديين، الحديث والتقليدي.

ب. تعايش اقتصاد التصدير مع اقتصاد الكفاف.

ج. تشوه البنية القطاعية وضعف العلاقة بين مختلف الفروع. إن البنية المشوهة هذه تشير الى وجود قطاعين متضادين كليا، وان فروع الاقتصاد لم تتطور معا في آن واحد بحيث ترتبط بعضها بالبعض وتكمل بعضها البعض، بل تطورت بشكل غير مناسب وعلى نحو صارخ بحيث أن بعض الفروع الاقتصادية نمت نموا مفرطاً، كأجسام غريبة معزولة عن تطور الفروع الأخرى بل وعلى حسابها لدرجة أعاقت أو منعت تطور هذه الفروع.

5. التفاوت في مستويات التطور الاقتصادي. وهذا التفاوت يخلق، في البلدان الأضعف من حيث مستويات التطور، مشاعر من الخوف في ولوج طريق التخصص مع البلدان الأخرى الأكثر تطوراً. تنطرح هنا مشكلة الاقتسام العادل بين جميع أعضاء التكتل للمنافع والخسائر الناجمة عن هذا التخصص. وتعتبر هذه المسألة ذات أهمية أساسية بالنسبة لأي من اشكال التخصص والتعاون بين الدول التي تمتلك هذا النوع من الاقتصاد.

6. ويشكل العامل السياسي، ونعني به الاختلافات الواضحة في طبيعة الأنظمة السياسية السائدة في هذه البلدان عاملا معيقا. إن انخراط بلدان ذات أنظمة اجتماعية-اقتصادية مختلفة في عمليات التخصص والتعاون بإمكانه أن يؤثر بشكل جدي على مضمون واتجاهات تلك العمليات، حيث يلعب العامل السياسي هنا دورا حاسماً.



لمزيد من التفاصيل قارن: محمد عبد الشفيع عيسى، دور " الدولة" في التجارب التنموية الاسيوية مع تركيز على المجال الاجتماعي ومنظومة الافكار: " بحوث اقتصادية عربية"، العددان 53-54/شتاء – ربيع 2012، ص 28 ولاحقا.

لمزيد من التفاصيل قارن: Rhys Jenkins, The Political Economy oF Industrialization: A comparison of Latin American and East Asian Newly Industrializing Countries, in : Development and change, SAGE, London and New Delhi, Vol. 22 (1991).  

عالج د.مظهر محمد صالح هذه القضايا بشكل واسع وعميق. لمزيد من التفاصيل قارن: د.مظهر محمد صالح، رأس المال المالي للدولة ورأس المال المالي الأهلي. متاح على الانترنيت على الرابط التالي:

http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=49096