بعض ملامح تخلف الاقتصاد العراقي وسُبل النهوض به / د. مجيد مسعود

ان السـمة الواضحة لحالة الاقتصاد الوطني في الوقت الراهن هي عدم تعبئة وعدم استخدام كل عوامل الانتاج المتاحة في اقتصادنا المرتكز على زراعة متخلفة وحرف مبعثرة وصناعة خارج حقول النفط شبه مـُعطلة. ويظل المورد الفاعل يتجســد في صناعة اســتخراج النفط وتصدير غالبيته خاماً للخارج.
ومن ناحية علاقات الانتاج فما زالت تتشـــابك العلاقات الانتاجية شــبه الرأسمالية في الريف والمدن، مع العلاقات الرأسمالية المتطورة لا ســيما في حقول النفط (والغاز)، مما يـُضفي الســمة الـريعية الغالبة للاقتصاد الوطني.
أن تحســـين مستوى معيشة الجماهير الواســعة يتطلبب ايجاد أفضل العلاقات المـُعبرة عن مصالح الشــعب والتي تـُســـاعد على تنمية البلاد، لاسـيما :
• العلاقات مع الشــركات النفطية العاملة في العراق.
• العلاقات بين أرباب العمل والعُمال في المدن والـريف.
• الـعلاقات الـتـجارية مع الخارج للحدّ من عدم تـكافئـها.
• الـعلاقات غير المنسـجمة بين الســلطة التنفيذية والسـلطة التـشـريعية، وبينهما من جانب وبين غالبية المواطنين من جانب آخر.
أن تحسين هذه العلاقة استناداً لمبدأ المواطنة وخيار الديمقراطية والحوار والاعتراف بكل اطياف الشعب العراقي، هو المفتاح لتحسين بقية الـعلاقات الســابق ذكرها.
أن حل الأزمة التركيبية في اقتصادنا الوطني، وسـببها الأساس يتمثل في هيمنة صناعة اسـتخراج النفط وتصديره خاماً للخارج، يرتبط باسـتراتيجية تنموية تدمج هذه الصناعة النفطية بالاقتصاد الوطني. أي بتوظيف الجزء الأكبر من ريع النفط لتنمية البـُنى التحتية والزراعة والصناعة التحويلية والارتقاء بالموارد البشـرية وزيادة الانتاجية المجتمعية بكل الأنشــطة الانتاجية والخدمات الفعالة المكملة لها. والبداية لابد من تنفيذ التعداد العام للسـكان والمنشـآت، وتشـريع قانون النفط والغاز والقوانين الأخرى ذات الأهمية.
إن مستوى معيشة الجماهير يرتبط بحجم الدخل الوطني ونوعية المنتجات وبطريقة توزيع هذا الدخل الوطني بين المواطنين. وهذا الإشباع لحاجات الجماهير له طبعاً حدوده الموضوعية التي يفرضها التناسب المعبر عن العلاقة المتبادلة بين حصة التراكم وحصة الاستهلاك، من هذا الدخل الوطني، ومن هذه الحدود الموضوعية أيضاً ينبغي أن تصاغ المهمات في خطط التنمية، لاسيما لقطاعي الزراعة والصناعة.
واستناداً إلى ما تقدم نلحظ بأن تنمية الاقتصاد الوطني العراقي تتطلب قبل كل شيء:
- القضاء على بقايا العلاقات الإنتاجية الاستغلالية واجتثاث جذورها المتعارف عليها كتقاليد موروثه في الريف بأسرع ما يمكن، وبتحفيز الفلاحين ومساهمة الواعين منهم بصورة منظمة. والحد من كل الوكلاء والمرابين الذين يخفون بهذا الشكل أو ذاك بقايا العلاقات الاستغلالية.
- تعميق إجراءات الاصلاح الزراعي، بالتوزيع الشامل للأراضي الزراعية، إلى من يعمل عليها مجاناً، وحرمان المتغيبين عنها، وعمل ما يلزم من أجل استغلال هذه الأراضي بكفاءة أعلى من السابق.
- التنظيم الطوعي – مع الشرح المقنع – لعمل الفلاحين والعمال الزراعيين، في أفضل الأطر التنظيمية وأكثرها ملائمة للفلاحين واستساغة من قبلهم واعتماد الأساليب المتدرجة من أبسطها لتقديم الخدمات المشتركة، وإلى أرقاها، أي التعاونيات الإنتاجية الجماعية ومزارع الدولة.
- إلغاء جميع القوانين والإجراءات التي تعيق عملية التنمية الاقتصادية وإتاحة الحرية للمنتجين المباشرين، للتأثير على الإنتاج وتسييره.
- ويجب أن يهيمن قطاع الدولة على الفروع الرئيسية، أو ما يسمى بمفاتيح الاقتصاد الوطني، ويلعب دوره القيادي في عملية التنمية، وفي مجال الزراعة، هذا يعني أن لا تحل الدولة محل الفلاحين، وإنما أن تقوم بما يلي:
- توجيه الفلاحين ومساعدتهم على التحول من الإنتاح الحرفي الصغير المبعثر إلى الإنتاج الكبير، وإعطائهم المثال في مزارع الدولة. التي ينبغي أن تكون خير مدرسة للفلاحين على عطاء الإنتاج الأفضل والأقل كلفة والأكثر جودة.
- الاهتمام بجماهير الفلاحين وبقية الكادحين من المنتجين وأسرهم، وذلك بتوفير الضرورات الحياتية، كمياه الشرب الصحية، والعناية الصحية بوجه عام والسكن اللائق ومكافحة الأوبئة المنتشرة في الريف ومكافحة الأمية وتخليصهم من كل ما يعوق تقدمهم وزيادة إنتاجيتهم.
- القضاء على المستنقعات وتحويل الأهوار إلى مصادر لإغناء الريف وتربية الثروة السمكية وتنمية المواقع السياحية. وتشييد السدود لتخزين المياه الفائضة وعند هطول الأمطارفي فصل الربيع.
- العناية بالتربة وتنقيتها من الأملاح المترسبة فيها، وعمل كل ما يلزم لزيادة خصوبتها، وزراعتها وفق الدورة الزراعية وعدم تركها بوراً.
- تأمين المياه الضرورية للإرواء، وتصريف المياه الزائدة بالبزل المنظم.
- والتدرج بإدخال المكننة في الريف، وباستخدام البذور المحسنة، والسلالات الحيوانية المحسنة مع العناية البيطيرية بها.
- استخدام المبيدات للحشرات المضرة، والأسمدة المخصبة للأرض.
- التشجيع المستمر للمنتجات الصناعية مثل القطن وقصب السكر وبنجر السكر التي تأكد زرعها بنجاح في الريف العراقي.
- تشجيع التخصيص وفق المناطق المناخية وحزام الزراعة المطرية في الشمال والإرواء الصناعي في الوسط والجنوب، مع مراعاة العادات والتقاليد الزراعية للفلاحين، والحاجة الاقتصادية.
- التوسع في التشجير وحماية الغابات الموجودة وتنميتها باستمرار، وبشكل خاص الاهتمام بالنخيل وتكثيره والاستفادة من ثماره.
- العناية بالثروة الحيوانية وتوفير حاجاتها من العلف المصنع، لاسيما من بعض أنواع التمور، وتربية الأسماك والنحل للحصول على العسل.
- تنمية الصناعات الريفية التي تهتم بتصنيع بعض المنتجات الزراعية النباتية منها والحيوانية، والموارد الأخرى المتوفرة في الريف.
- توفير المخازن الضرورية لحفظ المنتجات الزراعية، لاسيما في المواسم.
- العناية بطرق المواصلات وتحسين الموجود منها لربط الريف بالمدن.
- إقامة المراكز الحكومية لإرشاد الفلاحين في كل ما يتعلق بالإنتاج والتسويق.
إن هذه المهام والإجراءات وغيرها لابد أن تقوم بها السلطة الحكومية المركزية بصورة متكاملة وفق منهج مدروس لتنمية الريف وإيقاف الهجرة إلى المدينة، حيث لا تنمية حقيقية بدون تنمية الريف.
وتنمية القطاع الصناعي، من خلال التأكيد على مكانته وأهميته في مجمل الاقتصاد الوطني العراقي. مع تبيان بأن التصنيع إنما يعني مساراً اجتماعياً لتنمية القوى المنتجة، مصحوباً بتغير في تقسيم العمل الاجتماعي، وله تأثير على علاقات الإنتاج وعلى البناء الفوقي في المجتمع، وزيادة الانتاجية المؤشر الأهم للتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
إن تصنيف الوظائف الاجتماعية المصاحبة لعملية التصنيع، يمكن أن تمر بمرحلتين: نمو عدد الشغيلة (في المرحلة الأولى من التصنيع) ونمو المتطلبات المختلفة للجوانب التخصصية للعمال الصناعيين وبقية الشغيلة العاملة في القطاع الصناعي (في المرحلة الثانية). وذلك لأن كل تصنيع يتحقق بنطاق واسع نسبياً، يحمل معه تغيراً في التركيب الوظيفي للمجتمع، سوية مع ازدياد الحاجة للتخصص النوعي.
وهكذا فالتصنيع يقود إلى تغيرات في الوظائف الاجتماعية (ليس للوظائف المرتبطة مباشرة بالعمليات الإنتاجية وحسب) على الصعيد الأفقي وكذلك على الصعيد العمودي لتسلسل الوظائف، وبالوقت ذاته يترك التصنيع آثاره البليغة على التنمية الزراعية. والخطوات الأولى للتصنيع الشامل في العراق، إنما تتحقق من بداية دمج النفط بالاقتصاد الوطني، وفي المقدمات الصناعة النفطية الثقيلة، مثل الصناعات البتروكيماوية ومصفى الدورة والمشابهة له على سبيل المثال، وبالتالي توفير الطاقة الرخيصة نسبياً لعملية التنمية عموماً.
وهذا طبعاً لا يعني إهمال الفروع الأخرى، لأننا لا نريد أن نعمق ما سميناه بالأزمة التركيبية في الاقتصاد العراقي، وإنما بإيجاد أفضل النسب المبررة علمياً بين فروع الاقتصاد الوطني الرئيسية، في حقول الانتاج والخدمات الفعالة المكملة لها.
إن تحقيق مثل هذا التصنيع الذي يعطي أهمية كبيرة للصناعات الأساسية يستلزم الاتجاه:
- إلى مزيد من التعاون والمشاريع الصناعية المشتركة مع الأقطار العربية الشقيقة، بالتدرج نحو التكامل الاقتصادي مستقبلاً.
- وإلى مزيد من التعاون مع البلدان الصديقة التي بإمكانها أن تمدنا بخبرتها وبما تستطيع من قدرات تقنية حديثة.
إن التصنيع المتكامل والشامل في العراق، يتطلب التوجيه من الآن في الطريق التي يمكن أن تحقق ما يلي:
- الاستخدام الأمثل للطاقات الإنتاجية القائمة فعلاً في العراق بقدراتها الحالية، وبتوسيع الممكن منها، لكي تكون أكثر فعالية وكفاءة لمجمل الاقتصاد الوطني. وهنا لابد أن تأخذ بعين الاعتبار التناسب بين الإنتاج والطلب المحلي زائداً الطلب الخارجي المضمون بعقود بيع قدر الإمكان.
- بناء المشاريع الصناعية الجديدة ضمن خطط التنمية الاقتصادية، وذلك بعد دراسات وافية ولجدواها الاقتصادية لكل متطلبات إقامتها من حيث الخبرات اللازمة لتشغيلها، والمواد الأولية الضرورية لها، مع المحافظة على نظافة البيئة.
ومع التطور الاقتصادي لابد أن تزداد حصة التراكم لأغراض تغطية الاستثمارات الجديدة. وبهذا الموضوع ترتبط مسائل اختيارات التكنيك الملائم، وتحديد معيار الفعالية الاقتصادية للمؤسسات الصناعية . مع التأكيد على ان استثمارات الدولة في القطاع الصناعي هي التي تلعب العامل المقرر في تسريع التنمية الصناعية، في إطار إعادة الإنتاج الموسع وبالطرق الحديثة لضمان إنتاجية عمل اجتماعي مرتفعة نسبياً.
وبالرغم من الإمكانيات الملائمة في العراق لتطور القطاع الزراعي، إلا أن المعوّل مازال وسيظل على التصنيع الشامل الذي سيكون له الدور المقرر لتنمية الاقتصاد الوطني بأسره. وفي التصنيع تكمن إمكانية حل مشاكل تزايد السكان واستحداث التغيرات في تركيب الاختصاصات للقوى العاملة العراقية، وكذلك لتنمية الثقافة والتقدم التقني والعلمي بوجه عام. والتصنيع هو الذي يزيد من وزن الطبقة العاملة في تركيب المجتمع العراقي، وبالتالي يمكن أن يوفر الظروف الموضوعية لتغيرات عميقة في حياتنا الاجتماعية.
إن قطاع الدولة بإمكانياته التمويلية والتنظيمية والقانونية قادر على أن يكون – موضوعياً – العمود الفقري لجسم التنمية الاقتصادية في العراق. ومع تغير طبيعة السلطة باتجاه أكثر ميلاً لتمثيل مصالح المنتجين المباشرين، ستكون هذه التنمية الاقتصادية مستهدفة لحل مشاكل الجماهير الواسعة، وتأمين متطلبات رفع مستوى معيشتها المتكامل الجوانب.