الكفاءة والمهنية أنجزت قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لعام 1958 / سامي عبدالكريم

كانت علاقتي مع مدرسي الاقتصاد الزراعي في كلية الزراعة معروفة ومتميزة وكنت حاضرا في اكثر المحاضرات كمستمع حيث كنت في المرحلة الاولى والمحاضرات تخص الصفوف المنتهية. كنت اشارك في النقاشات والمداخلات واكثر الاحيان اكون مشاكساً في محاولات لتحويل اتجاه النقاش نحو التجارب الاشتراكية في حل المسألة الزراعية وخاصة عند حضوري محاضرات الدكتور سعدون حمادي الذي كان يمثل الفكر القومي - البعثي في الاقتصاد.. وقد تبلور في الكلية اتجاهان في الاقتصاد الزراعي احدهما يساري يمثله الدكتور صاحب العلوان والآخر يميني (قومي - بعثي) يمثله الدكتور سعدون حمادي.
وقد تطورت علاقتي معهما لحضوري المستمر محاضراتهما ولكوني ناشطاً في اتحاد الطلبة ومسؤولا عن ادارة كافة النشاطات والندوات التي تقيمها الكلية.
كنا في عطلة رسمية، اتصل بي الرفيق حسون عزيز رمضان الذي كان حينذاك رئيساً لاتحاد الطلبة وطلب مني الذهاب غداً الساعة الرابعة لمكتب الدكتور عبدالصاحب العلوان.
وفي الموعد قادماً من المقدادية في ديالى كنت في المكتب حيث كان هناك ثلاثة طلاب من الصفوف المتقدمة، جلسنا وبدأ الحديث بعد ان استلم كل واحد منا مسودة واطاراً لمشروع قانون الاصلاح الزراعي.. وعلى الطاولة امامنا العشرات من الكراريس والمقالات والمجلات تتعلق كلها بالمسألة الزراعية وحلولها واتذكر منها دراسة عن تجربة الهند حول ولاية (كيرالا) وتجربة الاتحاد السوفياتي ومنها ايضاً تجربة بلغاريا، وحتى بحوث عن تجارب امريكا اللاتينية وبعض الدول الاوربية.
اضافة الى ذلك كانت هناك معلومات وجداول تتضمن كافة المعطيات عن اراضي العراق ومالكيها وحجم الملكيات واسماء المالكين الكبار والمساحات التي يستغلونها، اضافة لجداول حول الاراضي الديمية والمروية والانهار والمضخات والبساتين.. الخ.
كما كانت هناك اقتراحات حول حجم الملكيات المقترح ابقاؤها بيد مالكيها والعديد من الاقتراحات. وهكذا وعلى ضوء توجيهات الدكتور عبد الصاب العلوان وما جاء في اطار الدراسة والكم الهائل من المعلومات التي أمامنا. بدأنا العمل ولمدة اسبوع في الثامنة صباحا وأحيانا تستمر جلساتنا حتى الثانية بعد منتصف الليل، وكان يزورنا بين وقت وآخر الدكتور العلوان ويناقش ما توصلنا اليه ونقترح ونتفق.. ولا يفوتني ان اذكر ان اطار الدراسة المقدمة كانت تشير الى التركيز على حجم الملكيات الزراعية والحدود التي نقترح تخفيضها ولماذا؟ وباتجاه ابق?ء مساحة مناسبة وعادلة للملاكين واقتراح الاستيلاء على المساحات الفائضة عن ذلك لتوزيعها على الفلاحين وبأجور عادلة. وكذا الحال بالنسبة للبساتين والمضخات.
وعلى ضوء الاطار والمعلومات المتاحة لدينا وتقاطعها مع تجارب الدولة المشابهة لظروفنا وقوانينها، كنا نعمل ونناقش ونقترح ونتفق عليه ثم تجري مناقشة ما اتفقنا عليه مع الدكتور العلوان وهكذا ناقشنا كثيرا واتفقنا على حدود الملكيات التي ستبقى بيد الملاكين الذين كنا نسميهم (الاقطاعيين) وبمختلف انواع الاراضي من جهة الخصوبة او الديمية او المروية.. والبساتين.. والمضخات.
وقد توصلنا الى ابقاء 1500- 2500 دونم من الاراضي الديمية بيد الملاكين والاستيلاء على الزيادة و500 � 1000 دونم في الاراضي المروية و50- 100 دونم للبساتين. وعالجنا مسألة المضخات بحيث نؤمن المياه لكافة الاراضي سواء التي تبقى للملاكين او يجري الاستيلاء عليها.
كنا ورشة عمل صغيرة نشطة وكنا احيانا نبقى حتى صباح اليوم الثاني مع العلم ان ترمس الشاي ووجبات الغذاء والفاكهة كانت تصلنا في مواعيدها.
ومما زاد حماسنا والتزامنا بمسؤوليتنا، عندما علمنا بوجود لجنة أخرى تعمل على نفس المشروع ووفق الاطار المقترح الذي يرأسه سعدون حمادي المعروف باتجاهه اليميني (القومي- البعثي).
لم تخل جلساتنا من نكات عديدة اثناء شرب الشاي او عند تناول الطعام: "والله لو يدرون بينه الاقطاعيين چان بليلة سوده صفونة!!" قال حميد.
قلت لهم تصوروا الفلاح الذي يكدح وعائلته طيلة السنة في الارض ولا يجني إلا ما يسد رمقه ليبقى حياً ليعمل.. والان سيستلم ارضاً باسمه ويعمل بها انه سيخلق من جديد!!
علق علي مازحاً "يمعودين الفلاح لما تصير عنده كاع ويصير عنده چم فلس.. يكوم يدور مره ويتزوج الثانية!!
وقد اتصلت في حينه بالرفيق علي حسين رشيد (اعتقد كان مرشحاً للجنة المركزية لحزبنا الشيوعي وعرضت عليه المشروع الذي نعمل عليه واطاره. وقد استفدت كثيراً من ملاحظاته وتوجيهاته.
وهكذا في اليوم المحدد انتهينا من اعداد مسودة مشروع القانون كانت الساعة تجاوزت الثانية عشرة ظهراً.. أعدنا قراءة المسودة، فقرة، فقرة وجرى تعديل هنا وهناك وبمساهمة المشرف على الدراسة الدكتور العلوان ثم تمت طباعتها بخمس نسخ وقعنا عليها جميعاً واستلم كل منا نسخة والاصلية بقيت لدى الدكتور عبد الصاحب العلوان وانجز كل شيء بحدود الساعة السابعة مساء وودعنا الدكتور وقررنا النزول الى بغداد الى ابو نؤاس حيث احتفلنا هناك بانجازنا حتى بعد منتصف الليل.
وبعد حوالي اسبوعين دعانا الدكتور عبد الصاحب العلوان الى مكتبه كانت هناك قنان من الكوكا كولا وقطع من الكيك جلسنا وابتسم، ثم قال اهنئكم ان مسودتنا اعتمدت من قيادة الثورة وتم ايداعها الى اللجنة المختصة لاعداد القانون وقد تم رفض المسودة التي قدمها الدكتور سعدون حمادي، كانت اخبار سارة ولاول مرة تعانقنا جميعا وشد على ايادينا شاكرا جهودنا.
ومن خلال استمرار متابعتي للقانون منتظرا الاعلان عنه علمت في حينه ان اللجنة اجرت تعديلات عليه واعادة صياغته ثم نوقشت مع الوزراء والمستشارين المختصين وكان بينهم (د. ابراهيم كبة، وطلعت الشيباني، وهديب الحاج حمود). والعديد من المستشارين والمختصين.
وفي الاجتماع الاخير للجنة المكلفة بانجاز القانون حضر الاجتماع الزعيم عبدالكريم قاسم وكانت لديه بعض الملاحظات باتجاه العدالة للملاكين السابقين وشمول اكثر عدد من الفلاحين للحصول على الارض وبتعويض عادل.
وهكذا وفي خطاب موجه الى الشعب قال الزعيم عبدالكريم قاسم:
".. يسرني في هذا اليوم ان اعلن لابناء الشعب والعالم أجمع نبأ ساراً وحدثاً سيبقى اثرا خالدا في حياة جمهوريتنا الفتية وهو مولد قانون الاصلاح الزراعي.. اني اذ اعلن مولد قانون الاصلاح الزراعي، انما اسجل بفخر واعتزاز نهاية الاقطاع في العراق.."
هذا ولابد ان اشير هنا ان القانون رقم 30 لعام 1958 لم يكن يشكل حلا جذرياً لمسألة الارض في العراق ولكن رغم ذلك انتزع اكثر من (9) ملايين دونم من كبار الملاكين ومتوسطيهم وتم تاجيرها وتوزيعها مقابل بدل مناسب لآلاف الفلاحين.. وهو رغم نواقصه كان كما كتب بعد ذلك الاستاذ مكرم الطالباني انه "يمثل الحد الأدنى لما يقبل به الفلاحون والحد الاقصى لما يمكن ان تتنازل عنه سلطة البرجوازية" وذلك في كتابه "في سبيل اصلاح جذري في العراق".
وقد جوبه تطبيق القانون بعوائق كبيرة وخاصة من قبل الجهاز البيروقراطي والفساد الاداري وتأثير الاقطاعيين وكبار الملاكين ووكلائهم في اجهزة الدولة. كل ذلك ادى الى حرمان الكثير من الفلاحين وخاصة الفقراء منهم من الامتناع عن تطبيقات القانون حيث كانت الفائدة الاعم لاغنياء الفلاحين ومتوسطيهم.
ونشير الى انه خلال الاشهر الاولى من تطبيق القانون وحيث كان يتواجد في وزارة الاصلاح الزراعي العديد من الشيوعيين والتقدميين تحققت انجازات مهمة لصالح الفلاحين حيث كانت لهم بصمات واضحة في سرعة تنفيذ عمليات الاستيلاء وبالتنسيق مع الاتحاد العام للفلاحين وجمعياته المنتشرة في الارياف. ويمكن ملاحظة ذلك من الاحصائيات التي نشرت حيث بلغت المساحات المستولى عليها، منذ صدور قانون الاصلاح الزراعي عام 1958 وحتى نهاية عام 1962، نحو 5.839.300 دونم اي بمعدل 1.459.000 دونم في السنة بينما بلغت المساحات المستولى عليها من بداية ع?م 1963 وحتى نهاية عام 1966 ما مجموعه 682 الف دونم فقط اي بمعدل 227 الف دونم سنوياً فقط وتعكس هذه الارقام مدى التلكؤ في تطبيق القانون.
هذا وخلال مسيرة تنفيذ القانون تم اغتيال العديد من رؤساء الجمعيات الفلاحية النشطين في ارياف الناصرية والكوت كما اغتيل المناضل صاحب ملا خصاف في العمارة، كما تمت محاربة شرسة ضد موظفي الاصلاح الزراعي التقدميين، وقد اغتيل احدهم في منطقة الدغارة.
وفي نهاية هذه المقالة القصيرة والتي جاءت مع ذكرى حلول صدور قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لعام 1958 اشعر بالسعادة لانني اضافة لمساهمتي البسيطة في وضع الخطوط الاولى للقانون ساهمت وبكل جدية ونكران ذات ونضال دؤوب من اجل تطبيق وتنفيذ القانون لمصلحة الفلاحين وخاصة الفقراء منهم.. حيث ساهمت بالتعاقد مع الفلاحين على الاراضي المستولى عليها في بغداد (اليوسفية واللطيفية والزعفرانية) واياماً عديدة كنت وبعض الموظفين ننام عند الفلاحين لننهض صباحاً لمباشرة التعاقد. وكذا الحال في محافظة ديالى- قضاء المقدادية وواسط وخاصة في?الصويرة (كصيبة والشحيمية)، وفي العزيزية والزبيدية وغيرها، ولي فيها ذكريات عزيزة واصدقاء اعزاء من الفلاحين. التقيت معهم بعد حدوث التغيير في العراق عام 2003 وعشنا ذكريات تلك الايام الجميلة.