بغداد في درجة 4 تحت الصفر المئوي! / عبدالكريم العبيدي

بين الحَر الشديد والأمطار والفيضانات والبرد، تنعقد معاناة واحدة، يتبدل المناخ بقسوة، ترتفع درجات الحرارة إلى أكثر من "50" درجة مئوي، فتتمدد معاناة الناس وتتشعب. حرارةٌ شديدةٌ تعتصر الوجوه والأجساد، انقطاع التيار الكهربائي، شبه الدائم، عواصف ترابية قاسية، أمراض الحر العديدة، شح مياه الشرب، والوفيات. ذلك هو صيف العراق، موسم لا تختلف عنه قسوة "طركاعة الشتاء": برد قارس، أمطار، فيضانات، بيوت تتهدم، سقوف "اكسباير" تتهاوى، انقطاع التيار الكهربائي، أمراض البرد، وفيات. والضحية دائما واحدة. فقراء الشعب وكادحوه وكسبته، وشرائح أخرى عديدة.
مع حلول موسم الصيف يهرع العراقيون الى ممارسة طقوسهم المألوفة، تصليح وشراء المراوح و"المبردات" وقطع غيارها البدائية: الماطور والواتربم، والقايش، والحلفه، مع شراء المزيد من "المهاف"، و"الكِلل" الناموسيات، والبحث عن ربع قالب ثلج، وتناول "الرگي والبطيخ"، والتهافت على الماء البارد والدندرمه والموطا والأزبري، و"خشمك ذانك"!
مع كل هذا، يحن العراقيون الى ذلك الصيف في ظل قسوة البرد والأمطار والفيضانات "اشجابرك على المر غير الأمر منه"، كما يردد بعضهم:"الصيف أبو الفقير"!، ذلك لأنَّ شتاءهم يبدو أكثر قسوة، فهو منولوج البرد والأمطار الغزيرة والفيضانات و"هجمان بيوت" و"النشله والكحه والبلاعيم والصخونه"، والتهافت على تناول "الشوربه" بنوعيها "عدس وماش"، مع الشلغم والشونْدر واللبلبي، مع زوّاده ومي حار، وكذلك تناول الدهينه والحلويات، والتهافت على شراء ملابس "اللنكه"، من قماصل ومعاطف ولفّافات وطرابيش وجوارب صوف!
ولكن، مع هذا، هاجم محشش عراقي مقولة "الصيف أبو الفقير"، وفضَّل الشتاء وفيضانه، معللا ذلك بقوله: "على الأقل، الشتا بيه كومة عُطل بسبب الأمطار والفيضان.. الصيف شكو بيه غير التراب والصْخام"!
"سيبيري وعندك الحْساب"!
لم يصحوا البغداديون بعد من "دوخة" الفيضان وبحيراته العظمى، حين غزا العاصمة اثر هطول الأمطار وبغزارة، ما أدى إلى غرق الشوارع الرئيسة والفرعية للمدينة بسبب عدم وجود الصيانة الدورية لمجاريها، اضافة الى قدم هذه المجاري والتي أصبحت لا تستوعب هذه الكميات من الأمطار الغازية. فضلا عن كثرة المطبات والحفر في هذه الشوارع، رغم "كومة" مشاريع وهمية أو متلكئة بسبب الفساد المالي والاداري "اللي قايمين بواجبه حراميه سوبر توب".
فجأة يأتي دور البرد، في واحدة من أقسى موجاته "السيبيرية"، في وقت مبكر، "على غفله"، لم يمنح الناس فرصة اخراج الملابس الشتوية من "الكناتير"، ولم يتم نشر البطانيات والسجاد، ولم يتم نبش المزاريب، استعدادا لهطول الأمطار!
هيئة الانواء الجوية، ذكرت، أن موجة برد ستجتاح العراق، وستؤدي الى انخفاض في درجات الحرارة الى ما دون الصفر، مشيرة الى ان الموجة ستستمر أكثر من أسبوع، وأن البلاد ستتأثر بامتداد مرتفع جوي "سيبيري" قادم من تركيا، لتتأثر عموم البلاد بموجة برد تؤدي الى انخفاض في درجات الحرارة، لتكون بحدود 4 الى 6 درجات مئوية، وأن المنطقة الشمالية والاقسام الشمالية من المنطقة الوسطى ستنخفض درجات الحرارة الصغرى فيها الى ما دون الصفر المئوي، في حين ستسجل درجات الحرارة الصغرى في بغداد 4 درجات مئوية ودرجات الحرارة العظمى 13 درجة مئوية.
تنبؤات "بردان"
المتنبئ الجوي صادق عطية توقع من جانبه مبكرا، انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر في بعض أجزاء العراق جراء تأثر البلاد بمنخفض جوي قطبي.
وكتب عطية، في صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" أن:"انخفاضا حادا سيطرأ على درجات الحرارة بعد موجة الامطار "القادمة"، مشيرا الى ضرورة "تهيئة وسائل التدفئة بعد موجة الامطار القادمة".
وأوضح أن "المنخفض القادم هو منخفض قطبي بارد يكون اتجاه نزوله من الشمال الى الجنوب، ويأتي بالعواصف الثلجية والأمطار الثلجية حسب توقعاتنا على كردستان العراق، وأيضا على تركيا وبلاد الشام، أما باقي مناطق العراق فستهطل فيها أمطار متفاوتة الشدة".
واستطرد بالقول "بما ان هذا المنخفض قطبي بارد، فان مناطق كردستان العراق والوسطى والجنوبية ستتعرض بعد عبور هذا المنخفض، تقريبا، الى موجة برد قارس، تنخفض فيها درجات الحرارة بشكل كبير جدا، ويتكون الصقيع صباحا وتنخفض درجات الحرارة الى ما دون العشر درجات فجرا على مناطق جنوب العراق، وتصل الى ما يقارب الصفر المئوي أحيانا في وسط البلاد وشمالها".
واعتبر أن "هذه أول موجة برد متوقع أن تجتاح المنطقة"، داعيا المواطنين الى "تهيئة وسائل التدفئة بشكل جدّي، بعد موجة الامطار القادمة".
البرد والجنِّي
لغويا.. "ب ر د"، فعل ثلاثي لازم. بَرُدَ، يَبْرُدُ، مصدر بُرودَةٌ. بَرُدَ الطَّقْسُ صارَ بارِداً. ومفرد بَرَدَة: ماء جامد ينزلُ من السَّحاب قِطَعًا صغيرة شِبه شفَّافة، ويُسمَّى حَبَّ الغمام وحَبَّ المُزْن. البَرَدُ: الماءُ الجَامِدُ ينزلُ من السَّحاب قِطَعًا صِغَارًا، ويُسَمَّى: حَبُّ الغمام، وحَبُّ المُزْن. وبرَّد الشيءَ: جعله باردا. وبرَّد طعامَه وشرابَه: وضعه في الثَّلاَّجة ليبرُدَ. يقال بَرَد بيَرَد ُ بَرْدًا، وبُرُودًا: هبطت درجة حرارته. فهو باردٌ، وبَرُود. وبَرَد الشيءَ بَرْدًا: جعلهُ باردًا، أو خلطه بالثلج.
ويُقسِّم البدو البردَ الى عدة أقسام، ويطلقون عليه أسماء غريبة: "المربعانيه"، وتقسم الى "الاكليل والقلب والشوله"، و"الشبط". والعقرب، ويقسم الى النعائم الدلو، والغراب والمهو وحب الغمام وحب قر وحب المزن والسقيط والعب والعضارس والإرزير والحليت والقطقط وسعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود والحميمين والأخبية والأذرع والمؤخر والشرطين والبطين".
وللبدو أسماء للثلج أيضا، "السقط، الضحك، الهلهل، العضرس، العضارس، الغراب، الجمد، الدمق، الدميك، الخشيف، الخشف، الضريب، الظلم".
العراقيون لهم أسماء للبرد أيضا:"الچلّه، وبرد العجوز، والجحيل، وزمهرير، والأزرك، وامجرِّش، وجويريد"!
أحد المتندرين عدَّد هذه الأسماء، ثم ذكر أسماء البرد اللبنانية، "برد الياسمين، وبرد الكرز، والتفاح"، ثم قال:"شوفوا، هاي الأسماء النازكه، مو أسماء جماعة ربعنه، اللي من تقراهه ٣ مرات، يطلعلك جنِّي لابس قبوط، يشبه هذا البكلبي، آخ...، لو مو الكاع محظوره"!
البرد يفتك بملايين النازحين
يعد النازحون من المحافظات التي تشهد عمليات عسكرية هم الأكثر تضرراً من هذه العاصفة، خاصة هؤلاء الذين يعيشون في مخيمات في أربيل ودهوك والسليمانية.
يقول رعد الدهلكي، رئيس لجنة الهجرة والمهجرين البرلمانية، ان عدد النازحين المسجلين رسميا في البلاد وصل إلى "3,5" مليون شخص، مؤكدا أن الحكومة لم تتخذ أية خطوات لمواجهة موجة نزوح جديدة من مدينة الرمادي غربي البلاد.
فيما ضربت العراق موجة شديدة من الصقيع في مناطق شمال ووسط وغرب البلاد، رافقها تساقط مستمر للثلوج التي غطت مساحات واسعة من محافظات إقليم كردستان التي يتواجد فيه مئات الآلاف من النازحين، الباحثين، في المخيمات والهياكل وبيوت الطين، للحصول على الدفء بشتى الطرق إن توفرت، في ظل انقطاع التيار الكهربائي المستمر وشح وقود التدفئة والفقر الشديد.
وكانت آخر إحصائية لعدد النازحين أعلنتها منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة في شهر أيلول الماضي، وبلغت 3 مليون و206 آلاف عراقي، منهم 87 في المائة نازحون من محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين.
نزوح مستمر
الدهلكي أوضح أن "الأعداد الرسمية المسجلة حتى الآن بلغت 3,5 مليون نازح في عموم البلاد، بسبب استمرار النزوح من مناطق محافظة الأنبار وصلاح الدين، وهناك أعداد أخرى غير مسجلة لدى وزارة الهجرة والمهجرين".
وأشار إلى أن "القوات الأمنية العراقية فتحت عدة منافذ لنزوح العائلات المحاصرة داخل مدينة الرمادي غربي البلاد، قبل انطلاق عملية استعادة المدينة، ولكن بالمقابل، لم تتخذ الحكومة الاتحادية حتى الآن أية إجراءات لمواجهة موجة جديدة من النزوح منها".
وتابع الدهلكي، أن "النازحين القدامى لا يزالون يعيشون ظروفا يومية صعبة بسبب عدم توفير المستلزمات الأساسية لهم".
المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في العراق (UNHCR)، أطلقت في تشرين الثاني الماضي، برنامجا لمساعدة 420 ألف نازح عراقي ولاجئ سوري في العراق، استعدادا لموسم الشتاء، وتحسبا لانخفاض شديد في درجات الحرارة.
وبدأت موجة النزوح في صيف العام الماضي عند اجتياح جماعات "داعش" الإرهابية لمناطق شاسعة في شمالي وغربي البلاد وتحولها إلى ساحة معركة بين الإرهابيين والقوات العراقية التي تسعى إلى طرد التنظيم من البلاد.
موجة صقيع تفتك بالنازحين
يقول الناشط عمر الدليمي انَّ:"تفقد النازحين أصبح مهمة إنسانية للجميع في ظل غياب تام للجهات الحكومية العراقية، ونقوم بجولات تفقدية للنازحين ليلاً ونهاراً، وقد صادفتنا حالات إنسانية قاسية للغاية في ظل موجة البرد الشديد التي ضربت البلاد حالياً".
وأضاف الدليمي أنَّ "أشد احتياجات النازحين هي الملابس الشتوية والأغطية الخاصة كالبطانيات فضلاً عن وقود التدفئة، خاصة لمن يسكن المخيمات والهياكل قيد الإنشاء، وهم في حالة صعبة وخطرة وإمكاناتنا محدودة للغاية، حيث نعتمد على تبرعات بعض الميسورين".
سامي العاني، وهو ناشط آخر، قال انَّ "موجة البرد الشديدة والصقيع الذي خلفته فضلاً عن الثلوج التي تستمر بالتساقط على المناطق الشمالية من البلاد، تهدد حياة النازحين، فهم لا يملكون أدنى المستلزمات التي تمكنهم من الاستمرار، وخاصةً أطفالهم الصغار الذين قد يفتك بهم البرد الشديد".
وبيّن العاني أنَّ "غياب الدعم الحكومي للنازحين سيتسبب بكارثة إنسانية، فكثير منهم لا يملكون ملابس شتوية لصغارهم ويعيشون في مخيمات من القماش لا تقيهم البرد مطلقاً". وطالب العاني المنظمات الإنسانية العربية والدولية بالتدخل الفوري لإنقاذ النازحين، وتقديم المساعدة لهم بشكل عاجل، محذراً من كارثة إنسانية خطرة أمام غياب دور الحكومة العراقية.
ويعيش آلافٌ من نازحي الأنبار في مخيمات الحبانية وعامرية الفلوجة وبزيبز وأبو غريب والغزالية في بغداد، ومناطق أخرى من وسط البلاد وشمالها في ظروف قاسية.
ظافر مرعي، 45 عاماً، نازحٌ في أحد مخيمات عامرية الفلوجة، قال "البرد شديد جداً، ولا نملك حتى ملابس شتوية لأطفالنا، والخيام لا تقينا موجة الصقيع ولا يوجد وقود للتدفئة وليست هناك متابعة حكومية لنا مطلقاً، فنحن منسيون لولا متابعة بعض الشباب الناشطين والميسورين".
وأضاف مرعي اننا لا نجد ما نوفر به الدفء لأطفالنا الصغار الذين سيفتك بهم البرد الشديد، ونطالب بتدخل دولي لإنقاذنا من هذه المأساة الخطرة فلا وقود تدفئة ولا حطب ولا ملابس أو بطانيات، فماذا سنفعل غير انتظار الموت برداً". وفي المناطق الشمالية من البلاد حيث يعيش مئات الآلاف من النازحين، بدأت الثلوج تتساقط بكثافة سبقتها موجة برد غير مسبوقة، وجد النازحون أنفسهم فيها على حافة الهلاك بحسب قولهم.
ويبين الناشط المدني علي العبيدي أنَّ "حكومة الإقليم تتابع أحوال النازحين هناك بشكل مستمر، وتوفر احتياجاتهم بشكل دوري ضمن لجان خاصة، غير أنَّ دور الحكومة العراقية الاتحادية منعدم اتجاههم، ووجدنا أنفسنا كناشطين أمام مسؤولية إنسانية لتفقد أحوالهم والوقوف على احتياجاتهم".
البرد والطلاق!
العواصف الثلجية هي نوع من العواصف الشتوية التي تسببها أمطار تسقط على شكل ثلج وتعرف ب "الصقيع", وتعتبر المدينة في حالة عاصفة ثلجية، اذا ما تساقط ما مقداره ربع بوصة من الثلج على سطوحها المكشوفة, حيث يغمر الصقيع كل شيء بطبقة ثقيلة ناعمة من الثلج.
الطرقات تصبح زلقة ومن الخطر السير عليها لصعوبة السيطرة على المركبات بسبب انخفاض معدل معامل الاحتكاك بين عجلات المركبة والطريق الناعم الذي تسير عليه.
الأرصفة وجوانب الطريق المخصصة لسير الناس على أرجلهم تصبح خطرة هي الأخرى لنفس السبب حيث تؤدي نعومة الصقيع الى تزحلق الناس وسقوطهم. أما صعود أي درج مغمور بالصقيع فيصبح مسألة في غاية الخطورة.
إضافة إلى خطر تزحلق البشر والمركبات على الطرقات، هناك خطر انهيار الأشجار أو الأغصان المحملة بكميات كبيرة من الصقيع على رؤوس العابرين, والتي من المحتمل عند سقوطها أن تغلق الطرقات وتقطع أسلاك الكهرباء أو الاتصالات فتسبب نوعاً آخر من الأذى حتى لمن هم داخل بيوتهم. أعمدة الكهرباء ذاتها من المحتمل أن تنهار بسبب كمية الصقيع المتكدسة فوقها مما يسبب أخطاراً جمة على حياة البشر عدا عن قطع التيار الكهربائي حتى عن بعض المناطق النائية عن مكان العاصفة لمدد قد تطول ما بين أيام الى شهر. مجرد سقوط ربع بوصة من الصقيع على الأسلاك الكهربائية كاف لأن يحمّل سلك الكهرباء ثقلاً وزنه حوالي 300 كيلو غرام فيتسبب في قطع السلك.
انقطاع التيار الكهربائي داخل مدينة متجمدة بالصقيع قادر على إحداث الكثير من الأمراض التي يسببها البرد لكثير من السكان: التعب والغثيان والدوخة والصداع, نوبات الإسهال والإنفلونزا, فقدان الوعي وفشل القلب والموت.
في المملكة الأردنية، أُطلق على العاصفة الثلجية التي ضربت مدنها اسم "هدى"، كتعبير عن هداية الناس وموعظتهم!، وقد أثار هذا الاسم سخرية المواطنين من خلال منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي من حيث تسمية المنخفضات بأسماء الإناث!
ومن طرائف "العاصفة هدى"، أن رجلا أقدم على تطليق زوجته بسبب حالة وضعها على الواتس آب 'انتي باردة يا "هدى". وتشاجر الزوجان بعد اتهام زوجته "هدى" له بأنه يقصدها بالحالة التي وضعها، ولم تقتنع.
وتسبب الشجار بضرب الزوجة ورمي الطلاق عليها، وارتفع صياحهم، الأمر الذي دفع جيران العمارة الى الفصل بينهم.
البرد واللنكه وماعون باكله امعدَّل
شهدت أماكن بيع الملابس المستعملة "اللنكه" إقبالا كبيرا بسبب انخفاض درجة الحرارة وحاجة الكثير من شرائح واسعة من المواطنين إليها.
وتجمع عشرات النسوة والعجائز والشباب أمام أكوام من الملابس يعرضها الباعة في شوارع الأسواق والعربات والمحال القديمة لانتقاء ما يناسب مقاساتهم.
مقابل هذا، تهافت الكثير من العراقيين على الصيدليات والمستشفيات والمستوصفات الحكومية لشراء الأدوية بعد إصابتهم بالتهاب اللوزتين والانفلونزا والسعال "والصخونه"!، بينما اختارت شرائح أخرى محال العطارين مفضلين"طب العرب" على الأدوية لشراء العسل والفلفل الأسود والزعتر البري واليانسون وورق الزيتون والقرنفل والحبة السوداء وعرق السوس والزنجبيل.
آخرون فضلوا "ضرب نفر باچه" يوميا، طيلة نهارات البرد "وداريهه لعمَّك الاّ طحين، وتناول "اللبلبي والشوندر والشلغم والدهينه" والحلويات الأخرى، كالبقلاوة والزلابية وزنود الست والبرمة والحلاوة الرملية والشعرية والكنافة، لما تتمتع به من سعرات حرارية عالية تساعدهم على تحمل البرد، وتقيهم أمراضه. غير أن بعض العراقيين، خصوصا ممن يعاني الإمساك بسبب البرد، ويريد "بطنه تمشي"، اختار تناول الباقلاء الخضراء والملفوف والسبانخ واللوبياء واليابسه، "و.....عليهم"!
برد أيام زمان
يستذكر الكاتب "سرور ميرزا محمود"، طقوس العراقيين الشتوية في برد أيام زمان، يقول:"من بين الوسائل التي يتخذها العراقيون دوما لملاقاة الشتاء وتقلباته، بالاستعداد له من خلال، تنظيف "الصوبات"، وتزويدها بفتيلة جديدة، وتهيئة الألبسة الصوفية وتهيئة سوائل وأطعمة معينة لتقيهم برودة الجو وتمنحهم الطاقة، فرش الأراضي بالسجاد والبسط وبطانيات فتاح باشا التي تدفئنا، كلما قست لسعة برد الليل الطويل.. و"يا ما انتشينا بها أيام زمان".
في ذلك الوقت، كانت الصوبات النفطية موجودة في غرف المعيشة والاستقبال والمطبخ وأحيانا غرف النوم، كما أن بعض البيوت الكبيرة تلجأ إلى استخدام "الفاير بليس" في غرف الجلوس والخطار وغرف النوم٬ بحيث أصبحت المدفأة عنصرا أساسيا في دفء البيوت، بينما في القرى والأرياف يقطع القرويون الأشجار، ويقومون بتخزين حطب التدفئة في المخازن لاستعمالها في حينه.
وكما هو معلوم فأن بغداد مسطحة وبيوتاتها فيها أسطح في زواياها مزاريب، فمن الضروري إزالة انسداد وتنظيف المزاريب لضمان التدفق السلس للمياه بعد المطر بعيداً عن المنزل، فالأضرار الناجمة عن المياه يمكن أن تؤدي إلى أعمال إصلاح مكلفة، ولذا فان الرجال يقومون سنويا على صيانة مزاريب المطر الخاص ببيوتاتهم لتجنب هذه الأضرار، فالمياه المتجمعة أذا بقيت تؤدي إلى الرطوبة وتصدع الأسطح وتؤثر على الغرف التي تكون تحتها.
كما تقوم كثير من النساء في هذه الأوقات بالاستعداد لهذا الفصل من خلال ترتيب المنزل وفرشه لإشاعة أجواء من الدفء فيه والتي تنعكس على علاقات أفراد الأسرة وشعورهم بالراحة في المنزل. ومع حلول فصل الشتاء يسارع الناس فيما مضى الخطى من أجل الاستعداد لاستقبال هذا الضيف الذي تهفو إليه النفوس بعد أن عاشت صيفاً حاراً ولهاباً. "الشتاء" يجيء وتحلو فيه أشياء عديدة، في الشتاء وجوه البارد ومناخه المشوق.
في الوقت ذاته تجتمع العائلة حول المدفأة وتقوم بحفلة شواء "الكستناء" وقد امتلأ الجو بالضحك والفرح. فسعادة اللقاء والتجمع ولذة الكستناء المميزة تكاد لا توصف في جمالها، وأكل التمر الأشرسي والشلغم أو اللبلبي مع الجوز في تزاوج بين الجنوب والشمال، فعندما يزورنا المطر يملأنا بهجة وفرحا. في بادئ الامر نشعر بالصمت لقدومه ولا صوت يعلو على صوته مما يضطرنا نحن الصغار الى الخروج من البيت للتمتع بزخاته، فيا له من شعور غاية في الجمال ويملأ القلب بهجة وسرورا رغم خوف العائلة من اصابتنا بالزكام.
ولكن تتخلل بعض أيام الشتاء البغدادي موجات برد وصقيع وهطول الثلج، ففي عام 1950 بلغت درجات الحراة الصغرى التي سجلت في بعض المدن العراقية ومنها بغداد 8و9 درجة مئوية تحت الصفر، ولا ننسى ذلك اليوم في منتصف الستينات الذي هطلت فيه أمطار غزيرة فأحالتها الى مدينة عائمة وسط المياه الى درجة لم تقو مجاريها وبالوعاتها على احتوائها وتصريفها فدخلت هذه المياه الى المحلات والدكاكين ودور السينما وغيرها مما اضطر الكثير من المواطنين الى ركوب العربات والربلات وظهور الحمالين للانتقال من مكان الى آخر.
ولكن تبقى أجمل الأوقات في الشتاء عندما تنظر الى مجموعة من الأطفال يلعبون تحت الأمطار المنهمرة ورائحتها، وعندما تخرج إلى نافذة المنزل تهب عليك نسمات من الهواء الطلق.
كما أننا لا ننسى عربانة الشلغم، فهي رمز من رموز الشتاء المتجول، والتي تعتبر من أكثر ما يقبل عليه الناس بصحونهم ليشتروا ويتمتعوا بأكلها داخل بيوتهم وهم يستمعون للبائع وبصوته الجهوري وبموسيقية عذبة منشداً "على حلاوته مايع".
عربات اللبلبي المسلوق والباقلاء لها متذوقها صباحا ومساءً، "مالح وطيب لبلبي.. أو يا لبلبي ويا لبلوب.. بأربعة ترس الجيوب" والباقلاء "حار بطنج، أو حار مفلفل".
ولكن، فجأة تهطل الأمطار الغزيرة المصحوبة بالرعد في الأشهر المبكرة من الشتاء خاصة في شهر تشرين الأول، وتشرين الثاني، لتعطي دلالة كبيرة على احتمال ظهور الكمأ في أواخر شهر شباط وبداية آذار، فترى الناس يقولون جاء الكمأ لنتهيأ في انتظاره.
ومن أنواع البرد الشديد "برد العجوز"، ويطلق على موجة باردة تأتي مع نهاية فصل الشتاء ومطلع فصل الربيع وعدد أيامها 7 منها 4 أواخر شباط، و 3 أوائل آذار. برد العجوز يأتي على مستوى بعض المناطق الخليجية ومنها العراق.
نكتة برد عالماشي
أكو فد واحد، تابع تصريحات "كلهه چذب" لأحد حيتان الفساد، كان لابس قاط صوف ماركه أجنبية، وحيل دافي، بينما صاحبنه كاعد ابيتهم ويرجف من البرد، هوّه وجهاله.. لم يتمالك نفسه فقال:"وين راحت عنَّك الشرجيه، ويدور فچّك، بجاه "العباس" أبو راس الحار"!