- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأربعاء, 20 كانون2/يناير 2016 20:05

الحياة البغدادية تنكمش في عمومياتها وتنوعها "القديم"، ولكنها تصر على تشغيل ماكنتها "المناطقية" بقوانين الممكن والمتاح والمتوفر، لتبدو وكأنها وقائع عاصفة لجيش يتقهقر من خط قتالي الى آخر، لذلك بات الكثير من العراقيين يلوذون بذكرياتهم وماضيهم، وغدت جملة "الزمن الجميل" شائعة ومتداولة في كل مكان، وتعني تلك الحياة "القديمة"، الحياة "الغاربة" التي تستدعي لمن يتذكرها أن يتحسر أو يذرف الدموع، ولِمَ لا؟، والقادم الى العراق يندهش ويستغرب ويكثر من أسئلته وهو يسمع ويرى الكثير من المتغيرات الغريبة على نسيج المجتمع العراقي، الغريبة على عاداتهم وقيمهم وماضيهم، الذي يختزل حتما بجملة "الزمن الجميل"!
غريب عجيب
نعم، فالحرامي بات يُطلق عليه "سبع"، والذي يسرق يقال عنه "يستفاد"، والمرتشي يكال له المديح ويقال عنه "ايسوي شغل"، ومن يدفع رشوة "ايدسترهه"، فالرشوة "دهن زردوم" ولها أصناف جديدة، منها، رشوة خروف وتسمى "ناطوح"، ورشوة سمك "سابوح"، واذا رفضها النزيه فهو "امطفي"، لأن الظالم ذيب، ومن يخاف الله "كلبه رجيج"، والعادل "زوج"، والكذاب لبق ومتكلم، و"اللوكي: "خوش ولد مريح"، ومن لا يجامل على حساب الحق "قافل"، وكل من جمع ثروة من الحرام فهو "طاك"، ومن "يتخشخش": "ايجيب نقش"، بينما من يطبق القانون العسكري بعدالة فهو "امجيش"، والملتزم بالقانون: "كمش"، في حين غدا المؤدب والخجول: "امطفي وطابك على صفحة"، بينما المتكبر "هيبه"، لأن المتواضع: "خنجه"، واللا مبالي: "سبورت"، في حين غدا فعل "غشه": "ضربه بوري"، والـ "نـكـري" هو الشخص "الحرامي" الخفيف الحركة، المتمكن من صنعته، الذي يسرق أشياء بسيطة، في عصر الـ "ورِّق"!
ولكن كيف؟، يقول مازن محمد ـ طالب ماجستير:"ليس سعيا وراء كتاب غينيس، ولكن العراق بالفعل هو بلد الأرقام القياسية، وهو بلد الفنتازيات والتحولات السريالية الذي يحتاج إلى غينيس عراقي يولد على أرضه ليحصي سلسلة الأعاجيب والغرائب اليومية".
وليس غريبا ـ يضيف مازن ـ ان تشيع مثل هذه المفردات في الشارع العراقي بعد ذلك الكم 'القياسي' من النكبات والانتكاسات المتلاحقة التي انتجت حاضنة لانتشارها في السنوات التي اعقبت احداث نيسان 2003. فالعراق، على ما نظن هو البلد الأول الذي تشتبك على أرضه مفارقات التاريخ والجغرافيا والأفكار والعقائد، وهو أقدم بلد في العالم حضاريا، في حين أخرجت إحدى أهم آثاره، وهي آثار بابل من لائحة الأماكن الأثرية في العالم من قبل منظمة اليونسكو، حين سعى "صدام" إلى حشر نفسه في طابق الجنائن المعلقة مقلدا حمورابي!
ويتابع مازن:" والعراق مازال البلد الوحيد في العالم الذي تتوافر فيه جميع عناصر النهوض الحضاري، في حين لم يدمج حتى الآن عناصر ذلك النهوض في معادلة حضارية معاصرة، وهو البلد الذي انتج اعتى الدكتاتوريات وارتكبت في زنازين سجونه أبشع الجرائم لتصنع أعلى معدل في المقابر الجماعية، واحتل بامتياز المرتبة الأولى في تقارير منظمة حماية الصحافيين، بكونه البقعة الأخطر عالميا للعمل الصحفي، وهو البلد الأول الذي طرد جميع الخبراء الأجانب ولم يبق على أرضه سوى فرق الموت واللصوص وحيتان الفساد.. إنه البلد رقم واحد في غنى فرص الاستثمار للشركات العالمية كما قال "بول بريمر" في مؤتمر الدول المانحة الذي عقد في منتصف ولايته للعراق على ما أتذكر، ولكنه يبقى البلد الوحيد الذي لم يستفد تاريخيا من ثرواته".
والحق، يضيف مازن "ان العراق الذي أنجز أول كتاب في التاريخ، وأعني به "ملحمة جلجامش" يبدو الآن منشغلا بالحفاظ على حياته وابتكار مفردات مظاهر التراجع والعنف ليس غير.
مازن يرى أيضا:" ان العراقيين هم من أكثر شعوب العالم حاجة للأمل، وأكثرهم قدرة على صياغته، وهم القادرون، من دون أن يعوا أحيانا، على مزج اليأس مع الرغبة والتعايش معها بانتظار أفق لحلم يبدو صعب المنال.
مصطلحات الباب الشرقي
في منطقة الباب الشرقي وسط العاصمة بغداد، تبدو عيون المارة أكثر حذرا، فكثيرا ما انفجرت عبوات ناسفة وسيارات مفخخة، وكثيرا ما فجر ارهابي نفسه في ذلك المكان المكتظ بعمال 'المسطر'، وباعة الملابس المستعملة المعروفة بالبالة، إضافة إلى زحام السيارات والمتبضعين.
ومن داخل هذا الصخب قد تثيرك حتما جملة غريبة يطلقها أحد العمال الصغار المتسربين من المدارس، فتقف للاستفسار منه، ولكنك ستفاجأ بأنه يحمل قاموسا من مصطلحات العنف الجديدة.
'اسامة زيطه' ـ 15 سنة، لمحته يباعد بين يديه وهو يخاطب صاحبه قائلا: "حواسم، طكوك خالي طكوك، هسه ايعلسوك"، وحين طلبت منه أن يفسر هذه المفردات وغيرها، انغمر بسيل منها قائلا: "الصكاك اخطر من العلاس، فهو الذي يصك عليك ـ أي يقتلك فجاة بلا سابق إنذار. واحيانا يخطفك من داخل بيتك بشكل مفاجئ.. الورقة: تعني ورقة التهديد اي الإنذار الذي يوجه إليك، وغالبا ما يكتب في ورقة صغيرة تجدها ملقاة قرب باب بيتك أو ملصقة بسيارتك. وعندها سيكون أمامك خياران، إما ان 'تبسلهه' وإما ان تنفذ ما يطلبونه منك في تهديدهم، أي منحهم عدة دفاتر. والدفتر يعني "الشدّة، وهي مفردة تطلق على مبلغ نقدي قدره عشرة آلاف دولار، وقد اعتاد الخاطفون ان يطلبوا عشرات الدفاتر من أسرة المخطوف ثم يخفضون طلبهم تماشيا مع قدرة عائلة المخطوف على دفع الفدية"!
أحيانا، يضيف اسامة، "نطلق مفردة السياف على الشخص الذي يعمل على قطع أرزاق الناس لتشبيهه بالسياف الذي يقطع رقاب المختطفين".
ولكن تبقى أكثر جملة شائعة رددها اسامة اثناء استقباله عددا من اصحابه هي "شكو ماكو" وهي جملة استفهامية يتداولها العراقيون كثيرا فيما بينهم لاختزال استفساراتهم كافة، وتعني كيف حالك وحال عيالك وحال المنطقة التي تسكنها وكل ما يتعلق بالأمن والامان...
أباتشي
امتنع الكثير من الطلبة عن الإدلاء بآرائهم حول المفردات التي غزت حياتهم، ويبدو ان 'إقبال عبدالله' ـ طالبة جامعية ـ بدت أكثر مرونة بتقبلها لهذا النوع 'الغريب' من الحوار. وبعد تردد واضح اجابت: 'اعتقد ان 'المس كول' أو "المسكو" ـ نغمة اتصال مقطوع ـ هي اول مفردة غزت حياتي وحياة العراقيين جميعا. فقد بات همزة الاطمئنان الوحيدة بيني وبين اسرتي، ومازلت امارسه بين ساعة واخرى. وحين اسمع رنين نغمة جهاز الموبايل الذي احمله اشعر ان هذا الميسكول يعني استفسار عائلتي عني بعيد كل انفجار يحصل هنا او هناك. انه يعني باختصار هل انت حية. فاسارع إلى الإجابة بمسكول آخر، ومعناه: اجل مازلت على قيد الحياة!. لقد اتفقت مع اسرتي على هذا النوع من الاستفسار اللحظوي الامني عديم الكلفة لغرض الاطمئنان، وهو ما يفعله جميع الطلبة مع عوائلهم. لاننا، لوعملنا مكالمة هاتفية بعد كل انفجار، فربما سنحتاج إلى عدة 'كارتات رصيد' وهو ما ليس بمقدورنا تحمله.. حتى اننا بدأنا نتداول مفردة جديدة وهي 'ما عندي رصيد'.. نرددها دائما لحث المخاطب على الإسراع بإنهاء مكالمته.
مفردات أخرى شاعت مؤخرا في الشارع العراقي مثل: "قناص بغداد"، وتطلق على الشخص الذي يظهر مهارات فائقة في اقتناصه لأي فرصة تتاح له من فرص عمل وجوائز.. وهناك حجاب الأمان حيث اضطررت مثل سائر زميلاتي إلى استخدام الحجاب من لحظة خروجي من البيت وحتى عودتي اليه لاتقاء شر الـ "بعض"، وهذا اعتداء سافر على حريتي الشخصية، ولكن ماذا افعل!؟
اقبال تبتسم بمرارة وهي تقول تصور غزت مثل هذه المفردات أجهزة الموبايل ذاتها فبدأنا نسمع عن جهاز اسمه الاباتشي لأن غطاءه يدور دورة كاملة مثل المروحية المقاتلة الاميركية المعروفة بهذا الاسم. وهناك جهاز اسمه الشبح، تيمنا بطائرة الشبح الأمريكية، وهناك جهاز آخر اسمه 'الهمر' يشبه المصفحة الامريكية، كما اشيعت اسماء أخرى للهاتف النقال سابقا تدلل على أحزاننا مثل جهاز ابو دمعة وابو دمعتين والطابوكه وغيرها..
صحافة دموية
مفردات كثيرة أخرى غزت المشهد الصحفي والإعلامي في العراق، وبدأ يتداولها الصحافيون والكتاب والمذيعون والباحثون، حتى بات استخدامها أمرا لابد منه في الصحف ونشرات الاخبار والمحاضرات وغيرها.
ويرى "علاء نجم" ـ صحفي ـ ان "هذه المفردات الطارئة تجسد أزمات ومفارقات الحراك السياسي العراقي، بكل ما يحمله من احباطات وانفراجات يتحسسها الشارع العراقي". واضاف "اننا كصحفيين لم نتداول قبل سقوط النظام السابق مفردات مثل"عبوة ناسفة وسيارة مفخخة وحزام ناسف وانتحاري وإرهابي وجماعات تكفيرية وصدامية وأعمال العنف والمظاهر المسلحة والمليشيات والخراب والدمار والتوافق والمحاصصة والشفافية وعدم تهميش الآخر والدستور والاستفتاء وتدهور الوضع الامني ومنظمات المجتمع المدني والملتقيات والتجمعات الثقافية والسياسية".. كما "لم ترد في مقالاتنا وتحقيقاتنا مفردات مثل القتل والنهب والاختطافات والاغتيالات والجثث مجهولة الهوية والمقابر الجماعية والترحيل القسري والمهجرين والمؤنفلين وضحايا النظام السابق، ولذلك نشعر بالفعل اننا نعيش في اجواء طارئة ومليئة بالمفردات الغريبة".
صفر ولا "طقه"
حكاية الصفر العراقية الأولى يرويها "أبو سعد" ـ بائع صحف ـ يقول: في أعوام الحصار القاسية، كان العراقيون يرددون عبارات "صفرية" عديدة. فكثيرا ما كانوا يقولون "الثلاجة امصفره بس إتبرد هوا" أي أنها خالية تماما من الماد الغذائية والفواكه والخضروات..
وفي منتصف كل شهر، غالبا ما كنا نسمع عبارة يرددها الكثير وهي "جيوبنا تصفر، أمفلسين" ـ أي أن الراتب الشهري الشحيح انتهى وسنبدأ ببيع الحاجات المنزلية تباعا.
وبسبب الفقر والعوز، كنا نعيد تصليح الأجهزة الكهربائية المنزلية القديمة مرارا حتى يصل الجهاز الى أرذل العمر. وهو الحد الذي يخبرنا المصلح فيه أن الجهاز بات "صفرا ولا طكه بيه".
ويتذكر الملايين من العراقيين الذين خدموا في الجيش العراقي سابقا واحدة من أشهر العقوبات العسكرية التي لم ينج منها احد وهي "الزيان صفر" أو ما يطلق عليها "بالكرعة" في اللهجة العراقية ـ أي حلاقة شعر الرأس نمرة صفر.
والواقع أن العراقيين يكنون أي مسؤول ضعيف لا يعجبهم بـ "صفر لا يحل ولا يربط".
ويبدو أن أشهر وأسرع صفر خاطف شهده العراق بعد سقوط النظام السابق بنظر أبي سعد هو الاختفاء التام والسريع لآلاف التماثيل والنصب والجداريات والوصايا والمقولات والشعارات والروايات "الصدامية" التي أمست صفرا بين عشية وضحاها!
وكثيرا ما اعتاد العراقيون أن يقولوا "الكهرباء: صفر صارلهه أيام". أو "خزان الماء امصفر" بسبب انقطاع مياه الشرب لعدة أيام من حين لآخر.
وقد شاعت بين الشباب جملة صفرية جديدة وهي "رصيدي امصفر" أي أن جهاز الموبايل بات بحاجة الى شحنه برصيد جديد. وعندما اندلعت موجة التهجير القسري في مناطق متفرقة من بغداد والمحافظات، غدت الكثير من البيوت "امصفره" بعد أن غادرها أصحابها الى جهة مجهولة.
والغريب، يقول أبو سعد أن العراقيين هم من أكثر الشعوب إدمانا على الصفر في حل خلافاتهم. فطالما رددوا جملة "نبدأ من الصفر ونطوي صفحة الماضي، لنبدأ صفحة جديدة". ولكنهم كثيرا ما كانوا يرون أن صفحتهم الجديدة عتقت فيسارعوا الى "قلبها" من جديد والبداية من صفر آخر. وقد ظن الكثير من العراقيين أن التاسع من ابريل، اليوم الذي سقط فيه النظام السابق، سيكون آخر يوم في تاريخهم المعاصر والذي سيتم فيه طي صفحة الماضي والبدء من الصفر في بناء العراق وتطويره. ولكن الذي حصل هو استمرار العراقيون "بتقليب" الصفحات القديمة/ الجديدة وانتظار فرج صفر جديد!
قلق مزمن!
تحتاج الأم الى "طاسة" ماء واحدة، ترميها أثر خروج ولدها الذاهب الى عمله كي يطمئن قلبها، وتمارس الزوجة هذا الطقس الصباحي مع زوجها لتبدد قلقها أيضا.. الأب والابن يقرآن عدداً من السور القرآنية القصار والكثير من الأدعية ليبعدا شبح القلق عنهما.. والبعض يحمل معه حرزاً وأخرون خرزاً والكل يحارب قلقه ويتواصل.
أصحاب المحال التجارية وباعة الأرصفة يضعون الحواجز في الشوارع لمنع السيارات من التوقف أمام واجهات محالهم، واصحاب البيوت يغلقون الشوارع الفرعية بجذوع النخل والطابوق والبراميل، أما أصحاب المعامل والمصانع والشركات التجارية فقد استحوذوا على الأمكنة المقابلة لمنشآتهم ونشروا أفراد الحرس في الشوارع المحاذية.
الكل يحارب قلقه أو يتحاشاه، ولكن مظاهر القلق تبقى شاخصة.
ومن داخل المشهد الشوارعي ثمة التقاطات مرئية مزيلة للقلق أيضاً، فالبعض يطمئن تماماً حين يشاهد طفلاً يتأبط حقيبته المدرسية ويسير لوحده.. طفل يسير في الشارع بلا خوف ولا قلق! هذا الشيء يسر الناظرين ويبعث في نفوسهم الطمأنينة.
آخر يخلع قلقه حين يشاهد طالبة جامعية في شارع عام مكتظ بالسيارات والمارة، وآخر يطمئن حين يرى عائلة في حديقة عامة، أو يشاهد صبية يلعبون في زقاق أو ساحة ترابية.. هذه الصور المرئية، صور الاطمئنان هي مسكنات ضد القلق.
أجهزة الموبايل بأنواعها هي "مبيدات صناعية" لمكافحة القلق.. الموبايل هذا الجهاز "العصفوري" الصغير فضح بنغماته الموسيقية لعبة القلق، وقد انتصر حقاً في "صراعه الحضاري" الطارئ، فتكفي نغمة قصيرة منه لإزالة القلق، وتكفي مكالمة سريعة به في توسيع خريطة الاطمئنان، والبعض ابتكر وسيلة جديدة، ومجانية لمعالجة الحالات المقلقة باستخدام ما يعرف "بالمس كول" وهي نغمة حوارية حسية صادرة عن طرف، تقابلها نغمة حوارية متخيلة تصدر عن الطرف الآخر، وبالإمكان ممارسة هذه اللعبة في أي وقت سواء في الأيام البيض أو قرب مواقع الانفجارات في بغداد والمحافظات، ويظهر "تفكيك خطاب" هذه الممارسة أن الطرف الأول "القلق" يشحن نغمته بتساؤل مضغوط "هل أنت حي"؟!، فيرد الطرف الآخر بنغمة اطمئنا نية سارة "أجل مازلت حياً" وحين يكون الحوار النغماتي معكوساً تبدو النغمة الأولى استرخائية "أنا بخير" فيرد الطرف الثاني بنغمة فرحة تعني "حسنا"!
مو تايهه سالفته!
لغوياً، يقال: قلق- قلقاً أي اضطرب وانزعج فهو قلق ومقلاق.. اقلقه أزعجه.. وأقلق الشيء من مكان: أي حركه.. هذا ما تظهره اللغة عن القلق في قواميسها، أما ما يظهره الشارع العراقي من حالات مقلاقة، فله حكايات أخرى..
في ساحة الأندلس تجمهر العشرات من العمال العائدين الى عوائلهم بعد نهار شاق قضوه في سوح عملهم، وكان أقصى ما يأملونه هو وصول سيارة أجرة لتقلهم الى بيوتهم، وفجأة توقفت سيارة حديثة وترجل سائقها بسرعة وعبر الشارع.
المشهد المألوف جداً أزّ القلق المكتوم في النفوس، فعزف العمال عن انتظار سيارة أجرة وتنافسوا في قذف عشرات الأسئلة والاستفسارات وعقد كل منهم حواراً استفهامياً معمقاً مع السائق.. في البدء بدت أسئلتهم خجولة شبه هادئة ولكنها سرعان ما ازدادت واتسعت لمعرفة هوية السائق، هل هو عراقي أم عربي أم أجنبي!؟، هل هو من المحافظات الجنوبية أم الشمالية؟، هل يتقن اللهجة العراقية أم لا؟، لماذا أوقف سيارته؟، لماذا أسرع في عبور الشارع؟، وأين سيذهب وما غايته؟، كانت نداءاتهم واستفساراتهم خاطفة وسريعة، في وقت بدأ الجميع فيه بالابتعاد عن السيارة المتوقفة، وحين لاحظوا ان السائق يصر على مغادرة السيارة غير آبه بتساؤلاتهم انتابهم الغضب ورجّ حواراتهم القلق المتأجّج ووصل الهيجان ذروته.. ثم تعالت أصوات الاحتجاج ولفتت انتباه أحد رجال الشرطة فأمر السائق بالعودة الى سيارته على الفور، وتهيأ لإطلاق النار وصرخ بأعلى صوته محذراً السائق الذي أدرك خطورة فعلته وفداحة تصرفه وما أثاره من موجة قلق عارمة في نفوس العمال فعاد الى سيارته وانطلق بها مسرعاً.
شخص كان يعتمر الكوفية المرقطة سأل السائق"بعد أخيَّك، خو ما بيهه مفخخه"!
هاي الجنطة اتدوّخ!
في مرآب الباب المعظم المكتظ بسيارات الأجرة، حدث أمر آخر، كان عدد من الركاب يجلسون في حافلة صغيرة وينتظرون، وكانت حواراتهم تدور حول المشهد العراقي من دون شك.. صعد راكب وجلس بالقرب من الباب، فانقطعت حوارات الركاب فجأة.. وظلت أنظارهم مشدودة الى الراكب، وانتابهم القلق.. فالراكب يعتمر الكوفية والعقال ويرتدي دشداشة بيضاء.. وهو ملتح وصامت.. ويحمل حقيبة كبيرة، وحين أخرج علبة سكائره وجدها فارغة، فنزل من السيارة وترك حقيبته، ما أثار غضب واستياء الركاب جميعاً وجعلهم يدورون في دوامة من القلق.
بعضهم همّ بتفتيش الحقيبة وآخرون نزلوا من السيارة بينما ظل عدد منهم في حيرة من الأمر.
أحد الركاب جلب العجوز عنوة وأرغمه على فتح الحقيبة لغرض تفتيشها ثم حاول استدراج الراكب لمعرفة "لهجته"!
لما عرف الجميع بانّ محتويات الحقيبة لا تعدو كونها ملابس وحاجات منزلية، تنفسوا الصعداء وتبدد قلقهم، بينما تحولت قضية الراكب الى محور لحوارات ساخنة استمرت طوال تلك الرحلة القلقة.
فتِّش يابه فتِّش
حالات التفتيش في الشوارع والسيطرات والدوائر الرسمية وغيرها تزعج البعض، بينما يراها آخرون ضرورية في هذا الظرف، ولكن أحد المتندّرين وصفها بأنها مساج مجاني لأطراف جسده كافة، واستغرب من استياء البعض منها، فطالما إنها تريح الجسد وتبعد القلق فلـ"يدلكوا، قابل اشورانه"!
في زمن المفخخات
تتلاعب مخاطر التفجيرات وويلاتها بخريطة الأسواق والمعامل والشركات والمحال التجارية والبيوت السكنية أيضا، ولم يعد الأقبال المتزايد ولعبة العرض والطلب من مسببات اكتظاظ بعض الأماكن بالمصانع والأسواق دون غيرها. فقد شهدت بغداد ظاهرة "موت" الأسواق القديمة وظهور الأسواق المناطقية البديلة. ويبدو أن شعرة الأمان الوحيدة التي يلهث خلفها البغداديون هي التي تسوقهم من مكان لأخر وتفرض عليهم التواجد هنا، أو الهجرة من هناك وفق قوانينها الطارئة.
يقول أبو تحسين، صاحب معمل لبيع المرطبات: كنت أملك معملا كبيرا في منطقة "الكرادة داخل" ولكنه تعرض لانفجار سيارة مفخخة. وبعد ترميمه على حسابي الخاص، بعد أن اكتشفت أن مراجعاتي اليومية لمقر لجنة التعويضات هي مضيعة للوقت، تعرض لانفجار آخر وتحطمت واجهته الأمامية. ومع هذا ، يضيف أبو تحسين: حاولت ترميمه مرة أخرى وواصلت عملي. ولكن، حين تعرضت للتهديد، اضطررت الى التخلي عن المعمل على الفور. وانتقلت الى مكان آخر.
وبين أبو تحسين أن انتقال معمل من مكان لآخر هو في غاية الصعوبة، خصوصا في الوقت الراهن. ويحتاج الى موافقات رسمية. ناهيك عن كثرة الضرائب التي تطاردنا، مثل ضريبة رسم المهنة وضريبة الاعلان وغيرها. كما أن تغيير المكان الاجباري يؤدي الى خسائر مالية باهظة. ويفقدك زبائنك. ويضطرك الى خلق فريق بديل عنه، ربما تستغرق فترة اعداده موسما كاملا. هذا بالإضافة الى ما تسببه مثل هذه الانتقالات من ارباك في السوق. وتواجد كثيف في بعض المناطق على حساب مناطق أخرى.