- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 02 آب/أغسطس 2016 17:09
لندن – خاص "طريق الشعب"
تتنوع برامج المقهى الثقافي العراقي في لندن ولم تجر على وتيرة واحدة .. ولم تقتصر على جنس ابداعي معين .. فالمقهى يحرث في كل الحقول ..وهو منذ انطلاقته قبل خمسة أعوام ونيف ، لم يألو جهدا في البحث عن الجديد .. وعبر أماسيه نلاحظ سعيه الواضح في تقديم موضوعات ثقافية تطرح افكارا مغايرة غير تقليدية وغير مألوفة ، وعلى ما يبدو وضمن هذا النهج قدم في أمسيته لشهر تموز الماضي ، فيلما سينمائيا وثائقيا ، بمعالجة ليست مألوفة في مجاله وسنحاول في تغطيتنا هذه ان ننقل خصائصها للقارىء الكريم .
افتتح الفنان التشكيلي فيصل لعيبي الأمسية مرحبا بمخرج الفيلم الفنان السينمائي قاسم عبد وبفيلمه "همس المدن" ، وبعد تعريف سريع بمنجزه الأبداعي ، اعطى الحديث له فقال عبد:
" حينما انتهيت من الفيلم في 2013، و شاهدته زميلتي الفنانة السينمائية ميسون الباجه جي ..التفتت اليّ وقالت ان هذا الفيلم لا يشبه احدا غيرك أنت ..فاجبتها انني لا اعمل افلاما الا التي تشبهني وسوف ابذل جهدي ان لا أشبه أحدا، بمعنى ان لا أقلد احدا." ووضح قاسم ان:
"الفيلم يتناول ثلاث قصص في مدن مختلفة.. وربما يتساءل البعض ما هو الشيء الجديد في هذا الفيلم اذ ممكن ان يقف اي شخص امام نافذة ويشاهد كل ما صوّرته ..هذا صحيح .. في السينما لا تشاهد فيها نفس الشيء الذي تشاهده في الحياة ، لأنها تقدم رؤيا اخرى للحياة ..رؤيا بنظرة فنية ".
على مدى ساعة ودقائق معدودات شاهد جمهور المقهى على الشاشة الفيلم بأهتمام شديد تجلى ذلك في الأنشداد الكامل الى ما تنقله له الكاميرا وهي تترصد مدن تزخر بافعال ناسها وحركتهم وتعاطيهم مع حياتهم بمرها الكثير وحلوها الضئيل .
ولكن المقهى لم يكتف بالعرض السينمائي ..يبدو انه يسعى لما وراء العرض .. فالى جانب دعوته للمخرج وحضوره ليحاوره عما أنتجه، دعا ايضا الناقد السينمائي فيصل عبد الله والروائي لؤي عبد الأله ليقدما قراءتهما عن الفيلم وهذه مسألة تسجل للمقهى لأنه بهذا يعمل على تأسيس وعي سينمائي ويحرض المشاهد لأن يكون مساهما في العملية الأبداعية وليسبر أغوار مضمون مايشاهده ويحثه على التحليل والتأويل او ان يعمل على تغيير المعاش نحو الأفضل .
"

قراءتي لا تستجمع كل ما قاله الفيلم "، بدأ فيصل عبدالله مداخلته وواصل: " بقدر ماهي ملاحظات سجلتها عن الفيلم عندما شاهدته منذ فترة طويلة مضت .. الملاحظة الاولى ترك المخرج والمصور السينمائي قاسم عبد مهمة سرد يوميات وتفاصيل هذه المدن الثلاث الى الكاميرا . فبطبيعة الحال ان اقامة قاسم في هذه المدن مكنته ان يجمع مادته الخام (الرشز)، شاهدنا مشاهد مهمة تحمل مفارقات كبيرة،وكما يقول المخرج انه تناول تلك المشاهد القريبة له واراد ان يشاركنا بها ، وهو نقلها لنا عبر كاميرا سينمائية بليغة من فضاء خشن ، هو ليس من صنيعه ام مما يبتغيه..لذا تجدنا نشاهد،احداثا، على الشاشة ما يتطلب منا تفسيرها، وصورا لها ، تتسم بالتعبيرية تثير في نفس المشاهد ايحاءات ودلالات".وختم فيصل مداخلته بعد ان قدم رؤيته لحياة المدن الثلاث كما رآها بقوله : " صحيح ان – همس المدن – خلا من حوارات او سيناريو مكتوب كما يبدو، ما عدا أصوات الباعة والعمال وأزيز الرصاص والأنفجارات ومنبهات سيارات الأسعاف ،الا أنه عوض ذلك بمونتاج مسبوك تماما ،تاركا للمشاهد كتابة نصه ولمدن قريبة من قلب المخرج".
وكانت قراءة الكاتب الروائي لؤي عبد الأله مستفيضة وقال انه كتب ورقة سينشرها لاحقا وأضاف : " يراهن قاسم عبد في فيلمه الأخير "همس المدن" على قدرة المتلقي على تأويل ما تلتقطه عيناه من مشاهد قصيرة جداً لجملة أشياء عادية وعدة أشخاص يظلون بالنسبة إليه مجهولي الهوية لكنهم يصبحون مع مرور الوقت مألوفين له، بسبب ظهورهم المتكرر الذي يجعلهم في الأخير وكأنهم خطوط نغمية تتكرر في بناء سيمفوني وفق مبدأ "الروندا" حيث تتكرر الثيمات النغمية على امتداد القطعة الموسيقية شرط ضمان تحقق نمو متصاعد في حركتها إلى نقطة ما تعتبر فيها الذروة ثم هبوطها حتى عودتها إلى نقطة البدء".
وأجمل الروائي عبد الأله قراءته بنقاط خمس هي:
1) المدينة ككائن حي: تخلى المخرج عن الموسيقى التصويرية التي تعدّ أحد العناصر الأساسية في التصعيد الدرامي للأفلام الروائية وإلى حد ما الأفلام الوثائقية. بدلاً عن ذلك أصبحت كل الأصوات النشاز التي نسمعها كأنها تشكل مع بعضها البعض نسيجا هارمونياً (متجانساً) لأنه يصدر من نفس الكائن الحي: المدينة. ولكن هذه الأصوات تأتي بالتأكيد من عتلات المدينة وبراغيها وأدواتها: إنها تأتي عبر أبنائها الذين هم يشكلون نسيجها.
(2) حيادية الكاميرا: "ينجح قاسم عبد بزرع انطباع لدى المشاهد بأن كاميرته ليست سوى عين بريئة تتجسس دون أن تدري على ما يظهر أمامها فتنقله بحيادية كاملة". "يمكن القول إن حيادية الكاميرا( أو التظاهر بحياديتها) يتأتى من أنها مثبتة في مكان واحد. ومن هذا المكان الذي هو في الغالب يقع في شرفة فندق، تظهر حياة المدينة الداخلية ".
(3) مدينة بثلاث حركات: ما قام به قاسم عبد هو أنه بنى الجسر بين القسم الأول : رام الله، والقسم الثاني: بغداد، كونهما كليهما تحت احتلال أجنبي. فما نراه في رام الله من عربات عسكرية وجنود إسرائيليين يفرضون منع التجول ويعتقلون أشخاصاً، وما نراه في بغداد من تحليق طائرات الهليكوبتر الأمريكية والدخان المتصاعد وأصوات الطلقات هو الجسر الذي بني بين الحركة الأولى والحركة الثانية. إنها ثيمة الاحتلال الأجنبي للمدينتين".
أما الجسر الفني الذي أنشأه قاسم عبد بين مدينتي بغداد وأربيل، (طالما أنه بلغ الذروة التعبيرية في آخر مشهد من فيلمه ) فكانت ثيمة سقوط المطر الذي جاء في بغداد كأنه رمز لطيّ صفحة يوم من حياتها، والذي يختلف طوله عن يوم عادي من حياة أبنائها، ثم يأتي المطر في أربيل كأنه طوفان يوقف مسار حياة المدينة إلى حين".
4. الواقع مصاغاً فنياً: رغم أن فيلم "همس المدن" ينتمي إلى صنف الأفلام الوثائقية، لكن حبكته تقترب كثيراً من فيلم روائي ذي سمات شديدة الخصوصية تميزه عن غيره"
"هنا في الفيلم الذي يدور عن بغداد بالدرجة الأولى، يخلق قاسم عبد عبر ترتيب المشاهد التي التقطتها كاميرته، ذلك التدفق السحري لحياة المدينة عبر نماذج من أبنائها، وعبر حوادث صغيرة تحدث بشكل رتيب لكنها هنا تتحرر من رتابتها وتصبح شيقة جداً بسبب بروزها واختفائها المنتظمين كأنها نغمة موسيقية تصعد وتختفي عن الأذن أو كوكباً يظهر ويختفي أمام العين.".
5. الأمل وسط النفق: ينجح قاسم عبد بتحقيق أمرين يبدوان متعارضين: الأول هو المدينة ككائن حي وأبناؤها هم عتلاتها وأدواتها وأذرعها ورئتها وأحشاؤها، والثاني هو كسب تعاطف المشاهد للأشخاص الذين يطفون للسطح ويختفون دون أن نعرفهم لكنهم يجعلوننا نعرف أنهم يعانون ويتألمون كثيراً مع ذلك فإنهم، في الوقت نفسه، مسكونون بقوة الحياة في استمرارهم بالبناء واستمرارهم في أعراسهم وألعابهم اليومية. ولعل المطر الذي يأتي في جزأَي بغداد وأربيل يرمز إلى فسحة الأمل مع انتهاء العمال الذين لم نعرف شيئا عنهم من إنشاء المبنى رغم ما يحيطهم من قوى إحباط هائلة.
انه إنجاز رائع بكل معنى الكلمة".
وكعادته اعطى المقهى الثقافي لجمهوره حصتهم الأثيرة في النقاش والحوار ، حيث ساهموا بآرائهم في اغناء قراءة الفيلم .. وجاء ذلك بعد تعقيب مخرج الفيلم الذي أكد انه لا يسعه ان يقول شيئا لأنه قال مايريد قوله في الفيلم ويعطي الفرصة للجمهور لأن يتكلموا عن انطباعاتهم .لكنه اشار الى انه بهذا الفيلم عمل وفق " اتجاه معروف في السينما اسمه : الكاميرا – فيلم .. والذي يعني قدرة الكاميرا على ادراك العالم الحقيقي والمحيط بنا وخلق قصص وحكايات من خلال رصد هذا الواقع.. هذا الأتجاه قديم وحديث في نفس الوقت ..من أبرز مخرجيه ومنذ بدايات السينما هو المخرج الروسي العظيم زيغا فيرتوف الذي قال : أنا عين الكاميرا ..أريكم العالم كما أراه انا .. ربما هذه المقولة تجسد بعض ما اشتغلته انا بهذا الفيلم .. وهو عبارة عن مذكرات بصرية حاولت من خلال الصورة أن أوظف ما أفكر به "
ثم قدم الجمهور مداخلاته وتأويلاته وتساؤلاته عن الفيلم وجرى نقاش حيوي ومثمر مع المخرج أختتمت به أمسية أخرى لها نكهتها جاءت بالمفيد والنافع الذي يسعى ، كما يبدو، المقهى الثقافي في لندن الى تقديمه ولا يسعنا الا ان نحثه على الأستمرار والمواصلة والتطوير ونحن نتطلع منه الى المزيد.