ادب وفن

الذكرى السنوية الخمسون لرحيل بدر شاكر السياب عن الانقسام الشعري وبداياته .. (1)/ جاسم المطير

اعترف أولاً، أنني نشأت فتى فضولياً. رغم أنني لا أدس أنفي فيما لا يعنيني ، لكنني كنتُ أتابع، قدر المستطاع ، الكثير من الشئون، الثقافية والأدبية، في مدينة البصرة. أحببتُ معارك المناقشات الأدبية فيها، متابعا المجموعات المتجانسة ، مثلما أحب متابعة المجموعات غير المنسجمة أو المتنافرة من المتعلمين والمثقفين . كنتُ من الفريق الذي يقرأ بنهم ما يتيسر من الكتب التقدمية، اللبنانية والمصرية، التي تصلني من الكويت من أحد أقاربي فيها . أحببتُ كتب سلامة موسى المعروف لدينا آنذاك أنه من دعاة الاشتراكية ومن المؤمنين بأفكار كارل ماركس. كما قرأت كتب جورج حنا الذي كان يعلن صراحة عن حبه للأفكار الشيوعية مثلما أعجبتْ أغلب جيلنا بأنه ماركسي رغم أنه لا ينتمي للحزب الشيوعي اللبناني . حين أزور مدينة (أبو الخصيب) ألتقي خلالها مع أستاذي محمد علي إسماعيل مقدما له بعض مقالات وخواطر أكتبها لنشرها في جريدة (الناس) البصرية التي عملتُ فيها مصححاً. كنت أجد عنده ملاحظات مفيدة عن كل أصول الكتابة يريدني الالتزام بها . أثناء محاضراته في الصف الثاني المتوسط كان يؤكد علينا بضرورة مواصلة القراءة الصعبة فهو ناصحنا بقراءة ((أدب الكاتب)) لابن قتيبة، وكتاب ((الكامل)) للمبرد، وكتاب ((البيان والتبيين)) للجاحظ، ((وكتاب النوادر)) لأبي علي القالي البغدادي. لم التزم بتوصياته ونصائحه إلا بعد أربعين عاما لانغماري بقراءة الكتب السياسية والاقتصادية ، الكتب الشيوعية خاصة . هذا الشخص كان بنظري شمعة تنير دروب جميع الطلاب الموهوبين، بل هو عنصر من عناصر التوجيه والتطوير لعدد غير قليل من أدباء البصرة الذين درسوا ودرّسوا في مدارسها الثانوية. كنا نسمع عن علاقته بالشاعر المثير للجدل آنذاك بدر شاكر السياب وسماع تقييمه وتصنيفه لشعره ولقدراته الفعلية التجديدية في بناء القصيدة العربية بأساليب غير معهودة وبموضوعات من صميم الواقع الإنساني.
كانت الحلقات الأدبية عديدة وكثيرة في بصرة الخمسينات من القرن الماضي . تجتمع في بيت من البيوت أو في نادٍ من النوادي لتأكيد شكل بسيط من أشكال ارتباطها بالحركة الأدبية، وبمرونتها الانتباهية، وبقدرتها على أن تكون (ذاكرة عامة) تتنافس من اجل التنوير . تمارس القراءات الشعرية أو تمارس النقد. هذه الممارسات مهدت لتنشئة وتطوير أدباء ذوي اطلاع وتوغل في المعارف الأدبية ،العراقية والعربية والعالمية، استطاعت أن تكشف قدراتٍ وأشكالاً وأسماءً في عالم الأدب لكن الغالبية منهم لم تستطع الخروج عن نمط التقليد الشعري إلا ما ندر . يبدو أن تلك الحلقات واللقاءات امتلكت وظيفة اجتماعية متنورة كان من بين تلك الأسماء والقدرات التي تأخذ من الشهرة أكثرها ومن الجدل أوسعه هو الشاعر بدر شاكر السياب رغم سلوكيته الانعزالية وقد كان أدباء البصرة يراعون خصوصيته الثقافية والعملية والشخصية وحبه لهذه الخصوصية بانزوائه في قريته الصغيرة جيكور . كما حدثني الكادر الشيوعي عبد الوهاب طاهر والصحفي عباس سكران أن وضعه الانعزالي كان معروفا لديهما أثناء وجوده معهما في (البيت الشيوعي) الذي كان يدير ،سراً، بعض الخلايا الشيوعية العراقية في الكويت وجمع التبرعات لمنظمة الحزب الشيوعي في البصرة، حين وصلها بدر بعد سفرته إلى إيران عام 1952 حيث سكن معهما في نفس البيت. اكتشفا مهاراته الفائقة في القراءة والكتابة ونظم الشعر من دون أي امتداد في العلاقات الاجتماعية والأدبية الوطيدة وقد اخبرني عباس سكران أن بدر شاكر السياب بدأ بكتابة قصيدته (أنشودة المطر) في ذلك البيت الشيوعي نهاية عام 1953 . رغم أنهما اكتشفا الجو القاتم المسيطر على روحه إلا أنهما وجدا في احاديثه القليلة انه يملك جرأة التجديد الشعري في ما كان يقرا أمامهما من القصائد ربما هذه الانعزالية تفسر تزايد اهتمامه بالأساطير كعنصر من عناصر ذكائه الشعري وتكامل قدراته وخططه في بناء قصائده بشكل ايجابي خلاق ورفع مستوى التفاعل بين الأسطورة والشعر.
شهدت البصرة أواخر الأربعينات من القرن العشرين وأوائل الخمسينات بصفة خاصة وكذلك شهدت الأندية الكبيرة والصغيرة والتجمعات الثقافية وحتى المدرسية أنماطاً من الفعل الساخن النابض بالحيوية الأدبية بين الموهوبين من جيلين أدبيين. التجمعات ضمت أعلاما أكفاء من أمثال محمد جواد جلال (عالم لغوي) ، والشاعر كاظم مكي حسن، الشاعر الباحث رزوق فرج رزوق، الكاتب المؤرخ فيصل السامر، الناقد كمال الجبوري، الروائي مرتضى الشيخ حسين . أسماء كثيرة أخرى من أمثال زكي الجابر ، سعدي يوسف ، محمد الجواهري، هشام باقر البعاج، عبد الحسين الشهباز، عبد الرزاق حسين ، كاظم الصائب، صالح فاضل ، محمد علي إسماعيل، مصطفى عبد الحميد، الدكتور قيصر معتوق، كاظم التميمي ، محي الدين إسماعيل، محمد سعيد الصكار ، مصطفى عبود ، محمود عبد الوهاب، محمد الجزائري، عدنان المبارك، عبد الجبار داود البصري، محمود البريكان ، ديزي الأمير، صالح الشايجي، مقبل الرماح وغيرهم من الكتاب والنقاد والشعراء .
داخل هذا التكوين الأدبي ظهر اتجاهان منحازان. الأول : منحاز إلى كنز التراث في الشعر العربي. الثاني كان منحازا إلى الشعر الحديث متأثرا بهذه الدرجة أو تلك بمختلف المدارس الشعرية الغربية وبما حملته من متغيرات في ( المعمار الشعري) الذي بدأ ببنائه نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي.
كان لكل واحد من هؤلاء الثلاثة نسبة معينة في هذا (المعمار) المتجدد. كان من الصعب جدا متابعة الاتساع والتنوع في هذا المبدأ خصوصا إذا ما عرفنا أن عناصر النقد الأدبي لم تكن متوفرة على نطاق واسع في بلادنا، بل كان (النقد) يعتمد على المزاج الشخصي والخلفية الثقافية المحدودة. لكن الشيء الذي كان واضحا هو أن التجارب الشعرية في دار المعلمين العالية (كلية لتخريج المدرسين) كانت تغتني وتتنوع وتتوسع للدخول إلى التيار الشعري العام المتجدد في البلدان العربية الأخرى خصوصا في مصر ولبنان . الواضح أيضا أن الأحداث السياسية لما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفي بدايات خمسينات القرن الماضي الملتهبة بمظاهرات شعبية احتجاجية امتدادا لوثبة كانون الثاني عام 1949 كان لها اثر غير قليل على الشعر العراقي وعلى شعر بدر شاكر السياب المنتمي آنذاك إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي وهو أكثر سعادة واستنارة بهذا الانتماء . ربما صحيح جدا ما قاله الشاعر العراقي المخضرم ألفريد سمعان خلال التحقيق التلفزيوني ( شاعر النهر والنخيل) الذي عرضته قناة الشرقية ، قبل أيام ، بثلاثة أجزاء ، من أن أفضل قصائد السياب من حيث الموضوع، واللغة، والثقافة، هي تلك التي كتبها عندما كان داخل قلعة الحزب الشيوعي العراقي، السياسية والثقافية. كان ألفريد سمعان مصيباً كل الصواب ففي دواوينه (الأسلحة والأطفال) و(المومس العمياء) و(حفار القبور) تجوّل بدر شاكر السياب بوعي كامل في معاناة إنسانية بميادين لم نكن نعرفها ولم يستطع جيل الشعراء، آنذاك، أن يتخيلها بينما هذا الشاعر تمكن أن يصورها شعرياً أحسن و أصدق تصوير.
ربما لا يوافق بعض الشعراء العراقيين والعرب أو بعض النقاد العراقيين والعرب على مقولة ألفريد سمعان مثلما لا يوافقون على النزعة التجديدية برمتها لأنهم كانوا يستهدفون الدفاع عن حصانة الأطر الشعرية العربية عامة، والدفاع عن حقوق الكائن الشعري المتمسك بموجودات (الوزن) و(القافية) وأصوليات ا(لتفعيلة) الشعرية..
كان أصحاب هذا الاتجاه يرون أن ظواهر (الشعر الحر) المنشور والمعلن، ليست سوى مجموعة من الانقطاعات النثرية غير المعقولة في هذه الحركة، التي تعني عند الأغلبية منهم الفصل الحاد بين الشعر وزمانه العتيد. أصحاب هذا الاتجاه كوّنوا معارضة حقيقية لانطلاقة الشعر الحر. كانوا يعتبرون أن (عمود الشعر) هو (عين الشعر) لا يمكن النظر إلى القصيدة من دونها. كما كانوا يعتقدون أن (عمود الشعر) هو (ذات الشعر) لا يمكن معرفة التاريخ الشعري من دون وجوده. ملخص قولهم أن معنى الشعر يتحدد بعموده وان معادل الشعر تفعيلته كما رسمت واستخدمت منذ جاهلية الشعر فإسلامه حتى عصرنا الراهن.
أما أصحاب الاتجاه الثاني فقد كان عددهم أقل من معارضي الشعر الحر، الذين حاولوا التحرر من قيود العروض التقليدية. وقفوا بإصرار على تغيير عدد التفعيلات، متمردين بذلك على رتابة القافية الواحدة. أكد هؤلاء أن الشعر الحر هو شعر ملتزم، أيضاً، بالوزن والقافية وكان مثالهم التجريبي ما أنتجه بدر شاكر السياب ونازك الملائكة من قصائد أكدا فيها أن (التفعيلة) وحدها هي (المتحررة). التفعيلة في رأيهم تابع من توابع الشاعر وليس قيداً يقيــّد إبداعه. رفض بدر كل ادعاءات المعارضين لتجديده الشعري. رفض ارتباط الشعر بالكونكريت الجاهز داعياً إلى الحرية معلناً انتماءه إلى نفس التيار الإنساني الواسع الذي حرّك شعوب العالم من اجل السلم والحرية والديمقراطية بعد اندحار الفاشية في الحرب العالمية الثانية .
في ندوة من الندوات على قاعة ثانوية البصرة قال رزوق فرج رزوق مدرس اللغة العربية فيها أن (الشعر الحر) هو ضرب من ضروب الحرية، التي تجعل الشعر مثلاً من أمثلة ممارسة الحرية. كنا نريد معرفة رأي أستاذ الأدب العربي في مدرستنا ( رزوق فرج رزوق) بما أبدعه بدر شاكر السياب بالشعر العربي حيث كان كلاهما على اطلاع واسع بالأدب الانكليزي والآداب الأوربية الأخرى .
كما قال كمال الجبوري أستاذ اللغة العربية في نفس المدرسة أيضا عام 1952 أن الشعر يتسلل إلى الواقع الاجتماعي ثم ينساب كماء النهر الجاري في كل الاتجاهات، متحرراً من كل العقبات والعوائق وقد تمكن السياب أن يجسد هذا التحرر بتزامنٍ مع حالة التطور الشعري عالميا بتطلعات أوربية.
سألتُ رزوق فرج رزوق (سؤال التلميذ لإستاذه) بتحريضٍ من أحد معارضي الشعر الحر سؤالا: هل يلغي الشعر الحر شعر المتنبي وابي تمام والجواهري..؟ أو هل يستطيع منافسته..؟
قال رزوق ما معناه: الشعر هو على الدوام تاريخ. التاريخ يتغير. الناس يتغيرون. الزمان يتغير. المكان يتغير، لكن الشعر يبقى في كل الأزمان أداة التغيير وشكله وسجله. الشعر يولد بمولد المبدعين في كل آن. يمكنه أن ينافس ويرفع ويلغي. يفعل كل شيء حسب طبيعة المرحلة.
كان كل لقاء أدبي، كل ندوة، كل محاضرة، خلال تلك الأيام، مليئة بحرارة الانحياز إلى هذا أو ذاك من الاتجاهين المذكورين. تمكّن أصحاب الاتجاه الأول من تدوير الندوات التي كانت تعقد في المجالس الأدبية الخاصة وفي النوادي الرياضية والاجتماعية (نادي الاتحاد ونادي الميناء ) ليظهروا أن خصائص الشعر العربي هي خصائص (ثابتة) لشيء اسمه الشعر. لا يمكن الاعتداء على تلك الخصائص بأي استنباط جديد. إنها معركة واسعة ، بين القديم والجديد ، تقودها البصرة، الآن، شأنها شأن تأريخها كله.
مَنْ الفائز الأول: بغداد أم البصرة..؟ نازك الملائكة أم بدر شاكر السياب..؟ هكذا كنا نحن طلاب ثانوية البصرة نسأل.
حول الجواب على هذا السؤال كان يظهر انقسام شعري من نوع آخر. بعضهم يقول أن أول حركة في الشعر الحر كانت في بغداد عام 1947 على يد نازك الملائكة في ديوانها (عاشقة الليل) أو قصيدتها (الكوليرا) أو في ديوانها (شظايا ورماد) عام 1949 ..
معارضو هذا الرأي يقولون أن الأول هو بدر شاكر السياب في (أزهار ذابلة) وهو ديوانه المنشور عام 1947..
هذه الأولوية لم تحسم،حتى الآن، لكن يمكن اعتبار الكسب في الشعر العربي هنا متنوعاً. فأولاً أن الاثنين نازك وبدر قد تغلبا على قيود التفعيلة الرتيبة. وثانياً أن الاثنين أبدعا نجاحاً تاريخياً. وثالثاً أن الاثنين سجلا العلامة العظيمة في الأدب العراقي.
لا يهم بعد هذا من هو أول من رفع شأن الشعر الحر: قصيدة نازك أم ديوان بدر، رغم أننا في البصرة كنا على صواب حين كنا ننساق حتما وراء (الديوان). نصر الديوان – برأينا - هو اكبر من انتصار القصيدة حتما. لقد تألقت البصرة بالجمال المعنوي الذي انبثق من أصالة الدفق الأدبي لجيكور، لأبي الخصيب، لبدر شاكر السياب ولمدينة الفراهيدي . الشيء المهم والمثير في فترة ما بعد هذا النقاش والسباق أن بدر شاكر السياب جعل الأدب العربي كله متجها نحو التقويم للشعر الحر وعلاقته مباشرة أو غير مباشرة بالشعر العالمي واتجاهاته وحركاته.
كانت مجالس البصرة الأدبية مشغولة، آنذاك، بما تحمله السياسة من عُقد كثيرة أثرت على شكل العلاقة بين الأدب والحياة ، بين الأدب والسياسة، بين الأدب والمجتمع. كان ضحايا هذه العــُقد كثيرون. كانت مشاكل الأدب والمعارك الشعرية المحتدة تزيد المنغمرين فيها أو المراقبين لها تعقيداً، فقد ظل الخوف من الكتابة مسيطرا على جيل كامل حيث التردد هو الصورة الأولى بأذهان أبنائه.
لست ادري هل كنت قد وفقتُ في التغلب على هذا التردد حين جرتني السياسة في تيارها داخل الحزب الشيوعي العراقي الذي وجدت أرومته وخلاياه ومنشوراته الأكثر نبلا فمنحته الولاء والعاطفة مثلما كان عدد كبير من أدباء البصرة وشعرائها قد بلغوا مرحلة الثورة ورفض الظلم والظلام من خلال تجارب الشيوعيين ووعيهم الفعلي.
كنت واحدا من هؤلاء . خصصتُ نبرات صوتي للمظاهرات والإضرابات الطلابية. قوة تعبيري ذهبت نحو الكتابة السرية.. حركاتي كلها كانت تحاول أن تتجاوز العلنية خشية مطاردات البوليس.
لا استطيع أن احكم على مدى نجاح كتابتي ما دامت غير معروضة أمام الجمهور . حين اكتب لم أكن اشعر باللحظة التي يتجلى فيا رأي الناس كما كان يشعر بها غيري. حتى حين كنت اكتب لم أكن اشعر بلذة اللحظة التي يتجلى فيها رأي القراء كما كان يشعر بها غيري من الكتاب المبتدئين. حتى حين كنت اكتب خواطري في جريدة الناس أو الرأي العام أو الزمان كنت فاقدا الإحساس بالنجاح أو الفشل لأنني كنت اكتب باسم مستعار ( فتى الجنوب) في غالب الأحيان.
لكنني في كل الظروف الصعبة لم تمنعني فعالياتي السياسية السرية والعلنية من متابعة فعاليات الأدب في البصرة والعراق. كما كنت أتابع أيضا حركة التطور والصعوبات التي أحاطت برومانسية بدر شاكر السياب وواقعيته وتجديده وتحولاته السياسية والفكرية مما سأقدم البعض منه في مقالات قادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 26 – 2 - 2014