الدكتور عثمان أشقرا سوسيولوجي وروائي مغربي، حاصل على دكتوراة في علم الإجتماع ، ويعمل كأستاذ للتعليم العالي بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان، صدر له كدراسات: "في سوسيولوجيا الفكر المغربي الحديث" سنة 1990، "المتن الغائب "دراسات في الفكر المغربي الحديث" سنة 1998، " الحركة الاتحادية أو مسار فكرة تقدمية" سنة 2000 ، " العطب المغربي "بحث في أصول التحديث وإعاقاته بالمغرب" سنة 2003، " علال الفاسي/ الوطنية والهوية المغربية" سنة 2006، " الوطنية والسلفية الجديدة في المغرب" سنة 2007.
و صدر له في مجال الإبداع : المجموعة القصصية "رجال الميعاد" والنص المسرحي "محنة الشيخ اليوسي" سنة 2004، ثم رواية "بولنوار" سنة 2007، التي حُولت مؤخرا إلى فيلم سينمائي من إخراج حميد الزوغي، والتي شكل اقتباسها للسينما موضوع حوارنا مع صاحبها، إضافة لعلاقة الأدب المغربي بالسينما المغربية عموما.
- هناك الآن على ما يبدو رغبة مشتركة بين العديد من الأطراف، من بينها اتحاد كتاب المغرب والمركز السينمائي المغربي، لخلق نوع من التعاون بين الأدباء والسينمائيين المغاربة، وإعطاء نفس لعملية الاقتباس من الأدب المغربي نحو السينما المغربية، كيف ترى هذا التقارب المحتمل، خصوصا أنه كانت هناك نوع من الجفوة طالت، رغم بعض الاستثناءات في هذا المجال؟
أولا لدي موقف مبدئي، فأنا لا أميل كثيرا لهذا النوع من التعتيم في حق السينمائيين، ووصفهم بأنهم لا يلجؤون إلى النصوص السردية بصفة عامة سواء كانت رواية أو مسرحا أو قصة قصيرة، أو غير ذلك، لإنتاج أفلامهم، فمن حيث المبدأ، رجل السينما حر في أن يلجأ إلى نص روائي يقتبسه أو يعتمد على فكرة من عنده ويطورها. إذ لا يمكن وصف الأمر بأنه إذا اعتمدنا على نص روائي جيد سننتج فيلما سينمائيا جيدا، هذا غير وارد، والدليل على ذلك أن العديد من قمم الروايات العالمية حُولت إلى أفلام، فجاءت أقل بكثير من النص الروائي، والعكس صحيح، بحيث كانت هناك روايات نشرت وهي رديئة، لكن أتيحت الفرصة سينمائيا لمخرجين مبدعين لتحويلها إلى تحف فنية، إذن ليست هناك ضمانات في هذا المجال، لأن للرواية مجال وأدوات للإشتغال، وللسينما مجال وأدوات للإشتغال مختلفة، ولكن إذا حدث والتفت أحد رجال السينما إلى نص روائي، أعجبه وأثار اهتمامه واتفق مع الروائي على تحويل هذا النص إلى فيلم، فهذا شيء جميل وسيكون ربما مكسبا للطرفين، للإبداع السينمائي وللإبداع الروائي، ولكن بشرط أن يكون هناك منذ البدء عقد واضح بين الروائي والسينمائي، وفي تقديري ان أسوأ أو أكبر إهانة يمكن أن يقدمها السينمائي لنص روائي، هو أن يحوله إلى مجرد صور تعكس الرواية آليا. هنا البعض يطرح سؤالا، هو في رأيي سؤال عن جهل مركب بالسينما والرواية معا:" إلى أي حد بقي الفيلم وفيا للنص الروائي؟"..أنا في رأيي، ينبغي أن يخون الفيلم النص الروائي، والخيانة هنا هي إبداع، الخيانة بالمفهوم الجمالي للكلمة وليس بالمفهوم الأخلاقي للكلمة.. منذ البدء يجب أن نضع هذه الحدود، إذ على الروائي أن ينتظر أن نصه الروائي حينما سيحول إلى فيلم، فلن يشاهد كل ما كتبه وتخيله، فمن حق المخرج السينمائي أن يُبدل ويغير، ويخترع أيضا شخصيات وأحداثا تركيبية أخرى بشرط - وهذا هو الخط الأحمر - أن يحافظ على ما يمكن أن أعتبره الرؤية الفكرية والإبداعية الأساسية في النص الروائي، وإذا لم يتم احترام هذه الرؤية فأعتقد أن عملية التحويل ستكون فاشلة في الأساس، وهناك أمثلة مهمة جدا، في الإنتاج الروائي السينمائي العربي أو العالمي، ومن أشهرها تجربة نجيب محفوظ، الذي صرح في إحدى حواراته: "أنا نجيب محظوظ لأني اشتغلت في لجنة اختيار السيناريوهات، واحتككت برجال السينما واستفدت منهم"، ولكن أي متتبع لتاريخ السينما المصرية سيلاحظ أن تحويل روايات نجيب محفوظ للسينما كان كارثة، باستثناء ربما فيلم "بداية ونهاية" لصلاح أبو سيف.. هذا كإطار عام، وإذا أردنا أن نركز على المغرب، منذ نشأة السينما به، وهي نشأة متواضعة، نلاحظ ما أطلقت عليه نوعا من الجفوة بين المجالين، وهذه الكلمة فيها نوع من القسوة، أعتقد أن أول اشتغال في هذا المجال يعود إلى فيلم "شمس الربيع" للطيف الحلو وتعاونه مع عبد الكريم غلاب، ثم جاء بعد ذلك بسنوات فيلم "حلاق درب الفقراء" لكن في سياق آخر هو المسرح، و"بامو" لإدريس المريني، ثم "جارات أبي موسى" لمحمد عبد الرحمان التازي، إذن كانت هناك بذرة للتعاون، ولكنها بقيت مجرد إرهاصات وبوادر، كيف يمكن أن نحكم على هذه التجربة ؟ .. أولا، لا ينبغي أن نلوم فقط رجال السينما، بمعنى أنهم لا يقرؤون، وهذه واقعة، إذ سبق لي أن قمت بعمل سوسيولوجي بسيط جدا، حاولت من خلاله رسم معالم "بورتريه" المخرج السينمائي المغربي، أغلبهم إن كانوا يقرؤون، لا يقرؤون بالعربية بل بالفرنسية، وأغلبهم تكونوا في معاهد خارج المغرب، بأوروبا، وربما يعيشون هناك، وبالتالي فانغراسهم في التربة المغربية ثقافيا وفكريا محدود جدا، إذا هناك شيء يتحمله هؤلاء المخرجون، ولكن من جهة أخرى، حتى لو أخذنا مثلا الكم الروائي الذي صدر في المغرب، واعتبرنا بداية الرواية في المغرب مع نهاية الأربعينيات، سواء مع نص "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون أو نص "الزاوية" للتهامي الوزاني، حتى 2010، هناك دراسات ميدانية في هذا الإطار وهناك إحصاءات يمكن الرجوع إليها.
- إسمح لي أن أقاطعك.. ولو أن هناك تجارب سينمائية عالمية مهمة تعاملت مع أدباء مهمين من رواد الرواية الجديدة، كألان روب غريي الذي تعامل مع ألان ريني في فيلم "العام الماضي في مارينباد" كمثال، انطلاقا من أمثلة كهذه، يبدو أن حتى مثل هذه الروايات يمكن تحويلها للسينما؟
لكن أعتقد أن الأفلام التي أنتجت في هذا السياق كانت محدودة، وإذا تكلمت عن ألان روب غريي كواحد من رواد ما يسمى بالرواية الجديدة، التي قتلت البطل وأشتغلت على اللغة، هو ونتالي ساروت وآخرون، أعتقد أن الحصيلة في هذا الباب كانت محدودة جدا، بالمقابل مثلا في نفس الفترة، كان هناك اتجاه آخر للرواية في فرنسا وهو الاتجاه الذي مثلته مرغاريت دوراس، التي كانت تُنتج نصوصا روائية فيها الحبكة وفيها الأحداث، بل هي نفسها وقفت خلف الكاميرا وكتبت سيناريو "هيروشيما حبيبتي" الذي أخرجه ألان رنيه نفسه، وكان فيلما ناجحا..وتجربة لوكينو فيسكونتي، وهو واحد من أعظم المخرجين العالميين صاحب "البريء" و "الملعونون" "Les Damnés"، وكانت قد طرحت عليه منتجة فرنسية مشروعا سينمائيا، وأعطته شيكا لإنجاز فيلم عن رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، وقبل على تحفظ، وقضى عاما في التفكير وفي زيارة أماكن التصوير المفترض، ثم رجع وأعاد لها شيكها قائلا أنه من المستحيل تحويلها إلى فيلم ..إذن قناعتي الشخصية، وهذه وجهة نظري الخاصة، أن رواية لا يتوفر فيها حد معين من الحبكة والأحداث والصور، من الصعب جدا أن تنتج عنها فيلما، اللهم أن يكون فيلما ذهنيا بشكل من الأشكال على غرار ما كان ينتجه إريك رومير. كسينيفيل أتذوق مثل هذه الأفلام، لكن لصناعة فيلم يعرض على الجمهور من الصعب ذلك. عندنا في المغرب فيلم "براق" لمحمد مفتكر، هو فيلم من المستوى العالي جدا، ولكن عند خروجه للقاعات لم يصمد أسبوعا مقابل أفلام أخرى، أنا لا أدافع عن الرداءة ولكن أحلم باللحظة التي تلتقي فيها جمالية الإبداع الروائي بواقعية الإنتاج السينمائي، وهذا ممكن، وهناك نماذج عالمية لم تفرط فيما هو جمالي ولكنها أيضا كسبت ماهو سينمائي.
حدثني عن تجربتك الشخصية مع الإقتباس، بما أن روايتك "بولنوار" قد حُولت حديثا إلى فيلم سينمائي من إخراج حميد الزوغي.. وكيف كانت نتائجها بالنسبة لك كروائي صاحب العمل، وكسينيفيلي؟
أولا أنا أفضل كلمة "إقتباس" بالعربية على كلمة "Adaptation" بالفرنسية، فهذه الأخيرة تحمل معنى التكييف، تأخذ نصا وتكيفه مع حالة ما، بينما كلمة "الإقتباس" فيها معنى القبس لغة، وهو النور و الشعلة، وقصة موسى الذي ذهب ليأخذ قبسا من نور يستنير به، كما في القرآن الكريم..إذن هذا التعبير "الإقتباس" كما أعتقد على الأقل في تصوري، هو أدق مُعَبر عن هذه العلاقة بين السينما والرواية، هناك مثل شعبي مغربي يقول: "قبض على الجمرة، وخَلي الرماد لمواليه"، الإقتباس يحمل هذا المعنى، المخرج يقرأ النص، يقبض على جمرته، وما يحيط به من تفاصيل، كان من الضروري أن يشتغل عليها الروائي، لكن هو كمخرج لا تهمه، يمكن له بالمقابل أن يبدع تفاصيل أخرى، يقدم أو يُؤخر إلخ... هذه هي رؤيتي للإقتباس. فيما يخص التجربة التي كانت لي مع الصديق حميد الزوغي، فقد جاءت عن طريق الصدفة، إذ لم أكن أعرف الزوغي إلا من خلال اشتغاله في مجال المسرح ومجال السينما، إذ رأيت له "خربوشة"، وبالصدفة وبواسطة صديق لنا مشترك اطلع على رواية "بولنوار" وأعجبته وبعد ذلك اعترف لي أنها تصب في الاتجاه الذي يفكر فيه، فاتصل بي مقترحا تحويلها إلى سيناريو، وأنا كنت من حيث المبدأ موافقا، ولدي تجربة واشتغلت في النادي السينمائي في خريبكة، والذي كنت من بين مؤسسيه، وجزء من ثقافتي سينمائية، وبعض النصوص الروائية الكبرى شاهدتها كأفلام قبل أن أقرأها نصوصا، أتذكر أني شاهدت فيلم "عناقد الغضب" لإيليا كزان قبل أن أقرأ رواية شتاينبك، مثلا، وحتى رواية "بولنوار" لمن قرأها، يجد أن الخلفية السينمائية حاضرة بها، إذن لم تكن لدي أية معارضة مبدئية، لكن كان المشكل هو كيف سيتعامل مع الرواية، كونها معقدة، ليس فيها سارد واحد، بل مجموعة من الأصوات، إذ اعتمدت على تقنية "البوليفوموني- تعدد الأصوات"، وفيها مزج بين الخيال والواقع، وفيها إحالة على فترة زمنية بكاملها، ليس بهدف التأريخ لهذه الفترة، فأنا سوسيولوجي واشتغلت على تاريخ الطبقة العاملة سوسيولوجيا، وعندي بحوث منشورة، ولكن وصلت في وقت ما، وجدت نفسي وما زال شيء في القلب لم تستطع لا السوسيولوجيا ولا العلوم الإجتماعية أن تُعبر عنه، ولا يمكن أن يُعبر عنه إلا البوح.
ــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وصحفي من المغرب