ادب وفن

الحتمية العملية.... الحتمية التاريخية / سعد حميد محمد الحمداني

في عام 1846 أستطاع العالم الفرنسي "ليفرييه" والعالم البريطاني "أدفر" كل على انفراد أن يحسبا رياضياً بعض الظواهر التي لاحظاها في حركة الكوكب "أورانوس" على فرض أنها نتيجة فعل جاذبية كوكب آخر مجهول وان يحددا بواسطة هذه الحسابات مدار الكوكب الذي افترضنا وجوده.

فماذا حدث بعد ذلك؟
حدث انه بناء على تلك الحسابات تم اكتشاف الكوكب المجهول ومشاهدته وهو الكوكب "نبتون" ومن مثل هذا الاكتشاف تتضح طبيعة الظواهر الفلكية من حيث قابليتها للتجديد الصارم وإمكانية حصر عناصرها وحسابها بشكل يقيني ومحدد.... صحيح ان حسابات "ليفرييه" و "أدفر" احتوت على شيء من عدم الدقة، لكنه لم يكن نتيجة واقع موضوعي بل نتيجة قصور في وسائل وإمكانيات الحساب الفلكي في ذلك الوقت فهو نوع من الخطأ الذاتي الذي يمكن تجنبه وتصنيفه مع تطور العلم.

ما بين التنبؤ واليقين

ان تحديد موضع وسرعة الألكترون في مجال الظواهر النووية تحديداً هو شيء مختلف كيفياً... لماذا؟... لأن النشاط الموجي لهذه الجسميات يؤدي الى تداخلها وعدم تحديد ذاتيتها وتشتتها بشكل يجعل من المستحيل موضعها، ومن ناحية أخرى فأن الموضع الذي يتخذه الجسيم يؤدي الى اختفاء نشاطه الموجي حيث تصبح كمية حركته غير قابلة للتحديد ومعنى ذلك انه "إذا نشأت ظروف معينة يزداد فيها تحديد كمية حركة الألكترون فأن موضعه يصبح غير محدد بينما تصبح حركته غير محددة أذا نشأت ظروف أخرى يزداد فيها تحدد موضعه"، فالخاصية الجسيمية والخاصية الموجية للألكترون لا يجتمعان في حالة واحدة في نفس اللحظة وفي نفس الظروف رغم ترابطها الموضوعي، فكأنما وجها عملة واحدة لا ينفصلان ولكنهما لا يجتمعان في وجه واحد. كذلك نجد بأنه بقدر ما يزداد تحدد موضع الألكترون بقدر ما يقل تحدد حركته والعكس بالعكس وهذا الواقع لا يكشف لنا فقط التناسب العكسي في درجة التحدد بين موضع الجسيم وكمية حركته، بل يكشف لنا أيضاً سمة عدم التحدد في كل هذين العنصرين على حدة، نتيجة ترابط الطابع الموجي والجسيمي للألكترون.
ومادام التشتت في موضع الجسيم أو في كمية حركته ظاهرة موضعية ناتجة عن طبيعة الجسيم وطبيعة المجال، فلابد إذن أن نقبل القياس رغم انه قياس قام على حساب الاحتمالات وفقاً لما يسمى قوانين الميكانيكا الكوانتية (quantums meha) او قوانين الميكانيكا الموجبية، ولكنه مع ذلك تنبؤ موضوعي علمي وإطار احتمالي محدود ومحسوب. لنأخذ مثلاً ظاهرة انشطار ذرة اليورانيوم، فأن تطاير نيوترونات اليوانيوم المشع يمكن أن يؤدي إلى نتائج متعددة، فمن الممكن مثلاً أن تصل إلى نواة مجاورة فتضاف إليها وتستقر فيها، ومن الممكن أن تصل إلى تحويل احد نيوترونات النواة الى بروتون بواسطة إشعاع "بيتا"، ومن الممكن أخيراً أن يؤدي دخول النيوترون في نواة ذرة اليورانيوم إلى انشطار هذه الذرة وانطلاق النيوترونات التي قد تقوم بنفس الدور، ومن ثم تنشأ نتيجة لذلك ظاهرة تسلسل الانشطار الذي يؤدي الى الانفجار الذري وأزاء هذه الاحتمالات المتعددة يستحيل التنبؤ بمصير النيوترون عند انطلاقه لأن التشتت هو قانون هذه الظواهر ورغم ذلك أمكن الوصول الى التقدير الدقيق لحساب احتمالات هذه الظواهر وبناءً على دقة التنبؤ الاحتمالي أمكن تحديد ما يسمى "الكمية الحرجة" من يورانيوم/ 235 وهي الكمية التي إذا اجتمعت تتوافر فيها من الاحتمالات ما يجعل تسلسل الانشطار في داخلها وحدوث الانفجار الذري أمراً مؤكداً وهكذا نجد أنفسنا أمام نتيجة ثابتة ومحددة تنبثق من ظواهر احتمالية وغير محددة، وهذا واقع يرتقي الى مستوى الدليل التطبيقي الحاسم. فدقة تحديد الكمية الحرجة في اليورانيوم/235 وتقنية وقوع الانفجار الذري نتيجة ذلك هما حقيقتان تشهدان بالطابع الموضوعي والعلمي للحتمية الاحتمالية والتنبؤ الاحتمالي. وإذا كان "هايز نبرغ" و"شرودنجر" و"دي بروي" وغيرهم من تسلط الأضواء على هذه الحتمية الجديدة في مجال الطبيعة، من واقع التجارب العلمية والأبحاث الرياضية ودون صياغة فلسفية معينة فأن "كارل ماركس" هو الذي سلط الضوء على هذه الحتمية الجديدة في مجال المجتمع والتاريخ وهو الذي وضع أساس هذه النظرية الجديدة للحتمية وصاغ قواعدها الفلسفية. فهذا هو المفهوم الجديد للحتمية ينبثق من أساس الفلسفة والتي تعتبر المادية الجدلية إحدى أوجهها.

مبادئ الفلسفة الجدلية

تشمل هذه الفلسفة عدداً من المبادئ العامة التي تتسم بها ظواهر الطبيعة والمجتمع والفكر، هي أساساً الحركة الشاملة والتغير الشامل، ومبدأ ترابط الأحداث وتشابكها وتفاعلها ومبدأ اجتماع الأضداد وصراعها، ومبدأ تحول التغير الكمي إلى كيفي. ويمكن أن نلاحظ مثلاً أن مبدأ اجتماع الأضداد هو الذي يشرع لنا فلسفياً اجتماع الطابع الموجي والجسيمي للألكترون وإمكانية تحديد عدم الدقة في ظواهره واجتماع الضرورة والاحتمال وما إلى ذلك من مقومات النظرية العملية في الحتمية. أما مبدأ التغيير الكمي والكيفي فهو الذي نفس تباين المستويات النوعية في الطبيعة والمجتمع، وبالتالي تمايز قوانينها النوعية ومفهوم الحتمية في كل منها. فالفلسفة العلمية- الجدلية هي القادرة على تسريع وتبرير أسس الحتمية التي اكتشفها بشكل تجريبي محض "هايز نبرج" و "شرودنغر" و"دي بروي".
فالدفاع عن هذه الفلسفة هو بالضرورة دفاع عن "كارل ماركس" بقدر ما يعني الدفاع عن المنهج العلمي ذاته، كما ان الدفاع عن منهج الاستقراء يعني الأخذ بعين الأعتبار "فرانسيس بيكون" والأورجانون الجديد..
كما ان المنهج الاستقرائي ليس حصراً بالفيلسوف "بيكون" فقد تعاقب الفلاسفة الاستقرائيون بعده كما ان أرسطو هو رائد المنهج المنطقي الا انه لا يعني بالضرورة وقوف المنهج المنطقي عند حد أرسطو وعدم تطويره وتحويره فلسفياً بعده. أخيراً.. فان الحتمية التاريخية تختلط أحياناً بالمادية التاريخية ولكن اذا كانت الأولى تشكل الأساس الفلسفي للثانية فالاثنان متمايزتان. فالأولى نظرية في فلسفة التاريخ بينما المادية التاريخية نظرية في ظواهر التاريخ نفسه. ولهذا تتحدث الأولى عن الترابط والاحتمال والتنبؤ بينما تتحدث الثانية عن الأساس الاقتصادي والصراع الطبقي والنظام الاجتماعي.
فإذا كانت الحتمية التاريخية ترتكز على شبكة من العوامل المتفاعلة التي لا حصر لها وترتكز على مبدأ الاحتمال وعدم التحدد، فهي تتسع اذاً لدور الفرد وإرادته الذاتية والتي لا يمكن بالتالي ان تتخطى حدود هذه الشبكة ولا يمكن ان تكسر القوانين الموضوعية لحركة التاريخ. وبهذا المعنى نفهم كلمة هيجل: " الحرية هي الوعي بالضرورة".
فالفرد يستطيع ان يمارس ارادته في تغيير المجتمع بقدر استفادته من القوانين الضرورية لحركة الظواهر الاجتماعية، تماماً كما تستطيع ان تتخطى تأثير الجاذبية مثلاً باستخدام الجاذبية نفسها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب في الشؤون الاقتصادية